رحلة الشتاء والصيف
أحمد المالكي
.بقامتة القصيرة وهامتة العالية التي تتجاوز عنان السماء غادرنا والدي الحبيب مودعاً هذه الدنيا الفانية لتصعد روحة الطاهرة إلى بارئها فجر يوم الإثنين 28 ديسمبر 2020م بعد عمر طويل تجاوز التسعين عاماً، أفناه وهو يكدح من أجل تربية ستة أبناء ثلاثة أولاد وثلاث بنات ،منهم ولد وبنت هم أخوتنا من أمي رحمة الله عليها وأولاد أخيه الأيتام الذي تكفل والدي بتربيتهم ورعايتهم بعد استشهاد عمي الأكبر مُحمد في أحداث ثورة 26 سبتمبر.
والدي الغالي الحاج علي محمد محمد عطية المالكي رحمة الله عليه ،كان رجلاً بسيطاً متواضعاً كريماً ،أحبه الناس كما أحبهم،كان يجلس مع الصغير والكبير مع الطفل والمرأة يرافقهم يمازحهم يتبادل معهم الفكاهة ليرسم الإبتسامة والسعادة في قلوب ووجوه الناس ،وكل من رافقه في مسيرة حياته وفي تنقلاته، والدي المرحوم تميز بمسقط رأسه بقريتنا عيال مالك مديرية بني حشيش بكونه شاعراً شعبياً يجيد كتابة قصائد الهجاء أو مايسمى بالحوادي في مواسم الأعياد بالذات في عيد الأضحى المبارك حيث كان يحيي ليالي العيد العشر من ذي الحجة بأشعاره الفكاهية التي كان يهجو بها أصحاب الأضاحي التي يرصد فيها الناس شيئاً معيباً لا يتطابق مع شروط الأضحية التي وردت في السنة النبوية وغير ذلك من العيوب التي كان صاحبها يستحق الهجاء.
أتذكر كيف كان والدي يحيي تلك الليالي التي يمكن وصفها بالمسرحيات الشعرية الفكاهية، حيث كان والدي يقف وسط صفين كل صف مكون من أربعة إلى خمسة أشخاص ، وهو يلقن أحد الصفوف أبيات الهجاء الشعرية أو (الحادي) ثم يرددون كلماته بصوت مرتفع ولحن معين كل بيت على حدة مرتين والصف الآخر ينصت للكلمات من الأول ويرددها مرة أخرى ، وهكذا حتى تكتمل قصيدة الهجاء أو ما يسمّى بالحادي والناس يجلسون بالعشرات وبالمئات حول الصفين منصتين لما يرددها المزوملون من كلمات لوالدي رحمه الله ، وكان الناس يضحكون ويسمع ضجيج قهقهاتهم وضحكاتهم عند سماع كل بيت شعر يُردد وفيه هجاء فكاهي ، وكأنك تشاهد مسرحية على خشبة مسرح وليست ساحة بقرية نائية بالريف ..أذكر من كلمات تلك الحوادي قوله رحمة الله عليه وهو يهجو إحدى الأسر:
أنخلف القول وعاد أنقلهم
هم بيت دهمان مجانين كلهم
تبعي بعشرين تقسم بينهم
سبعين سبع قسموا تبعيهم
قد السبع رطل في ميزانهم
هولا الأوادم قد ازداد بخلهم
القرش ياناس أبوهم وامهم.
هذه بعض الأبيات التي اقتبستها من إحدى قصائد الهجاء الطويلة التي كتبها والدي في أحد الأعياد.
كما كان رحمة الله عليه يجيد كتابة الزوامل ومختلف القصائد الشعبية كما كان والده جدي محمد رحمه الله والذي عرف أو لقّب بالشاعر ( عجلان)
ومن الزوامل التي كتب كلماتها والدي في أحد الأعراس بالقرية والتي أورد بعضاً مما أتذكر منها:
والليله السمره وكلين يدي ويترنم
ويحجرين للعروس الغانيات.
والمالكي هي عادته يجود في من توطا ساحته
ويجود في كل الملمات.
ومن أشعاره:
أنتوا ذياب المعادي ياحماة الطارفات
ياصادقين بالوفا في كل مقدم
ماهبتوا الهاون وضرب الطايرات
حتى ولا الرشاش ولا القاع الملغم.
مسيرة حياة والدي تميزّت بالعناء والتعب والكفاح كمزارع يحرث ويسقي أرضه في مزارع العنب والقات التي يملكها في قريتنا بعيال مالك ، كما تنقل وعاش في مناطق كثيرة من اليمن كمأرب والجوف وصنعاء والحديدة وحجة وغيرها من المحافظات والمناطق اليمنية ، حيث عرف (كأسطى) أو معلم بناء كافح وناضل وتغرَّب كثيراً،حتى يوفر لنا كل ما نحتاج لنعيش أعزاء كرماء ، حرص على تربيتنا وتعليمنا حتى تخرجنا من الجامعة والتحقنا بالوظيفة العامة ، وصار لديه أستاذين أحدهما معلماً في التربية والتعليم يدرس مادة اللغة اللغة العربية ووكيل مدرسة ثانوية بالقرية ، والآخر صحفياً متواضعاً يكتب هذه السطور ، وكان رحمه الله يفتخر بنا بين الناس في القرية .
أبي لم يكن ذلك الوالد المتجهم الغاضب الذي يرتعب منه أبناؤه ، بل كان ودوداً يرأف بنا ويعاملنا ككبار يمازحنا وينصحنا كأب وصديق ، وكان يغضب ويرعبنا عندما نفرط في أرضنا أو نتساهل في أداء أعمال معينة في مزارعنا بالقرية ، أو عندما نتهاون في دروسنا ..أتذكر حين كان يحفّظنا بعض سور وآيات القرآن الكريم ، وكنا نتأخر في حفظها سريعاً كان يغضب كثيراً سلام الله عليه إلى درجة أنه كان يضربنا لذلك.
الوالد رحمه الله لم يتوقف عن العطاء والكفاح حتى بعد أن توظفنا وصرنا نستلم مرتبات من الدولة ، ظل واقفاً يعمل ويأكل ويعطي ويصرف علينا وعلى أطفالنا من عرق جبينه ، حيث عمل كوكيل في سوق الحبوب بسوق الثلاثاء المركزي بمديرية بني حشيش ، وظل كذلك حتى ضعفت قدماه المغبرّتين وعجزت عن المشي الطويل فقصرت خطاه ، لكنه ظل يجبرها على السير وإن كانت قد تقوست في آخر حياته لتنقله ولو حبواً وهو يتكأ على باكورته البنية وجدران المنزل من غرفته إلى الحوش بمنزله في صنعاء أو في القرية .
غادرني والدي من منزلي بصنعاء إلى القرية بعد أن مكث عندي أكثر من ستة أشهر وكان رحمة الله عليه عدلاً منه يقسم السنة نصفين بيني وشقيقي الأكبر الأستاذ محمد علي المالكي ستة بستة شهور ، وكان يسمي هذا الإنتقال من القرية إلى صنعاء والعكس برحلة ( الشتاء والصيف) حيث كان يقضي الصيف عندي والشتاء في القرية عند أخي ، وأبت مشيئة الله أن لا تأتي رحلة الصيف القادمة التي كنت انتظره ليقضيها عندي وأبى القدر أن يرحل في هذا الشتاء القارس حيث توفاه الله .
حين ودعته قبل وفاته بشهر عند مغادرته إلى القرية وانتهاء رحلة الصيف الحتُ عليه للبقاء عندي لكنه أصر على المغادرة لينهي حياته الحافلة بالعطاء بمسقط رأسه بالقرية ويرحل نهائيا عنا بداية رحلتة في هذا الشتاء البارد حينها قلت له بعد أن أوصلته إلى السيارة التي ستقله إلى القرية ادعوا لي يا أبي وسامحني ، وهو كان دائماً لا يكل ولا يمل من الدعاء لنا ولأولادنا بالخير والصلاح والتيسير والرزق.لحظتها رد وهو يدعو باكيا ويقبلني ( الله يدي رزقكم الله يسامحك) ( وهي الدعوة التي كررها قبل وفاته بساعات ( الله يرزقكم في حياتي وبعد مماتي)
أبي أيها الغالي العظيم فراقك أوجعنا.أبتاه مهما قلت وكتبت فلن أستطيع أن أفيك حقك يا أغلى وأعز الناس ، فسامحني لأني لم استطع أن أفيك حقك وقدرك ، سامحنا في كل تقصير قصرناه معك أو معصية إرتكبناها بحقك سامحنا في كل إهمال أهملناه معك وكل زلة زللناها في طاعتك ورضاك..قلتها بلسانك وانت تبكي ياأبي ياصاحب القلب الرحيم..أسأل الله أن يتقبل دعواتك وكل عمل ضئيل قدمناه في سبيل رضاك وطاعتك .
أبي ماذا أكتب عنك هل أتذكر عندما كنت تحملني على كتفيك من البيت الى الجامع حين كنت أقتلع شالك المقبع من على رأسك ، هل أتذكر عندما كنا نأتي إليك من القرية إلى صنعاء وانت مغبرَّاً تقف بمطرقتك فوق أحد البنايات التي تعمل فيها وتضع حجراً جوار حجر ، وحجراً فوق حجر حتى يستقيم السرع ويكتمل البناء فوق الأساس بشكل متقن.
هل أتذكر عندما كنت تتقاضى أجرك وعرقك ثم تأخذنا إلى سوق الملح بصنعاء القديمة لتشتري لنا أحسن الثياب وأحسن البدلات وأفضل الجزم حتى نكون مميزين في القرية سواء في الأعياد أو الأعراس أو غيرها.هل أتذكرك وأنت تحرث الأرض بالمحراث تبذر حبوب الذرة والشعير في عكَّامة والحجون والغرايس وحق الأبواب والوركا وغيرها.هل أتذكرك وأنت تحصد الثمار وتقطف العنب وتجفف الزبيب.أم أتذكرك وأنت تقلب الأرض بالفأس تحت كروم العنب.أم أتذكرك وأنت تحدث الناس في صوح الجامع وفي المقايل والسمرات وتروي القصص القديمة والأحاديث الجميلة حتى ننام.هل أتذكرك عندما كنت تغضب حتى الجنون لأجلنا حين يضربنا أو يجرحنا أحد.هل أتذكر فرحتنا حين تأتي بعد غياب طويل وانت تحمل لنا مالذ وطاب من الفواكه والجعالة واللعب والهدايا.
هل أتذكر فرحتنا حين اشتريت لنا تلفزيون ابيض واسود في ثمانينات القرن الماضي ، كم سأتذكر وكم ياأبي. لا تكفي كتب وصحف الدنيا.
هل أتذكر عندما كنّا نناديك (( اباه)) فترد (( أبي واهلي)) إلى أن توفاك الله.كم وكم سأكتب وأتذكر.
رحمك الله (ياأبي وأهلي) استودعتك الله الذي لا تتضيع ودائعه أيها الرجل الطيب الوفي والأب الحنون.
أسأل الله أن يغفر لك ولنا وأن يتولاك برحمته ويسكنك فسيح جناته مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا إنه هو السميع العليم .الفاتحة.