تقف حائرة بعد أن ملأ الحزن والأسى قلبها، تقلب صورة وتحتضنها بشوق ولهفة لغائب لن يعود.. أم الشهيد محمد عبدالخالق الحمزي ما إن تستهويها الذكريات لفقيدها حتى تخنقها العبرات وتعتصرها الذكريات .. تنهيدة تلو أخرى وبنظرة تملؤها العزة والكبرياء تستلهم ذكرياتها مع فلذة كبدها الوحيد وسط نظرات تترقب غائباً طال رحيله ..
هذا ابني الشهيد البطل .. ابني الوحيد الذي لم أدخره لنفسي رغم حاجتي وحبي الكبير له ورغم فراقه الذي قصم ظهري وأثقل كاهلي .. وهبته لله .. للوطن .. مجاهداً وشهيداً حراً بطلاً ِاستطلاع وسرد / أسماء البزاز
توقفت برهة تأخذ أنفاسا وتمسح بمنديلها الأزرق عبرات أبت إلا أن تكسر ذلك الكبرياء وتفضح لوعات الحنين وبصوت شجي تحكي أم محمد “قرة عيني في العشرين من عمره طموحا مستقيما بعيدا عن المغريات والضلالات منتهجا خطى المسيرة القرآنية.. إلتحق بجامعة المستقبل قسم إعلام إلا أن طموحه الثوري سبق طموحه العلمي فكان سباقا مع زملائه وجيرانه في الالتحاق بالدورات العسكرية لأنصار الله وحضور مختلف الدورات الثقافية التي أثرت في حياة محمد”.
مستذكرة اللحظات الأولى لانطلاقه مع ركب الثوار .. “كنت في بداية الأمر قلقة تنتابني المخاوف وتقتلني الأشواق على إبني الوحيد.. أقسمت عليه بألا يذهب للدورات ولا للجبهات .. فلا أستطيع العيش بدونه ولا معنى للحياة والعيش إلا به .. ولكنه أبى وأصر مواصلة مشواره الإيماني والوطني ضد العدوان البربري على بلادنا .. ولازلت أتذكر كلماته بموقع السهم على قلبي حين قال : يا أمااااه والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الدرب ماتركته أو أهلك دونه!! .. يا أماااه برب العزة أسألك وأناشدك أن تتركيني أجاهد وألحق درب الثوار فالله ينادينا للجبهات والغيرة على نسائنا وأطفالنا يعبث بدمائهم سفلة العالم تحرقني حرقا .. فإذا كنت تحبينني فدعيني وشأني ولن يكتب لي مكروه إلا ما كتبه الله لي .. ثم قبل رأسي وقدماي .. فما كان مني إلا أن أقول له إذهب مع ربك فقاتلا إنا معك صامدون مجاهدون”.
انطلق بعدها محمد بكل رباطة جأش ملتحقا بركب الثوار متنقلا بين جبهات تعز والضالع وجيزان وعسير ونهم محققا انتصارات تلو انتصارات تتغنى بها أم الشهيد بحماس وعزة وترتسم على محياها بسمات متقطعة تعلو وجهها البريء وتزيدها جمالا ووقارا .. تروي مقتطفات من المكالمات الهاتفية الأسبوعية للشهيد والتي يطلب من والدته الدعاء معبرا عن اشتياقه للقاء بأمه ووالده وأسرته .. مطمئنا لهم بصحته وسلامته وسعادته بالطريق الذي اختاره.
وفي بداية شهر فبراير 2016م احتدم الصراع على فرضة نهم وجرت زحوفات كبيرة من قبل قوى العدوان على المنطقة …فكان محمد من أوائل المجاهدين الذين لبو نداء ” الفزعة يا رجال ” فانطلق مع زملائه المجاهدين من جبهة الربوعة بعسير إلى فرضة نهم ولم يكن يعلم بأنها الرحلة الجهادية الأخيرة في حياته.
اتصل لوالدته قبل استشهاده بأربعة أيام . وكالعادة يرسل سلامه لأهله طالبا الدعاء ..و مطمئنا بأن عودته غدت قاب قوسين أو أدنى .. يقول مستبشرا: “جهزوا لي العروس”.
كانت تلك الكلمات كمسكن لجرح طال وقعه وأي بشارة تخفي على ضفافها فاجعة تكبدتها والدته!!
حلق رأسه واستحم وتزين وارتدى جعبته وصلى ركعتين قبل دخوله معركة نهم لعله يلقى الله في أبهى حلة يعطرها مسك الشهادة .. خمسة عشر زحفا شهدته المنطقة آنذاك أبلى فيها الشهيد بلاء حسنا ، إلا أن قوى العدوان تسبح في فلك الوصول لصنعاء فكثفت غاراتها وقصفها ومدت زحوفاتها بالآلاف وسط قصف عنيف قطع عن المجاهدين طرق الإمداد فظل هو ورفاقه التسعة دون طعام ولا زاد لمدة ثلاثة أيام!
لقوا فيها مختلف العذاب والحصار والبطش من قبل مرتزقة العدوان انتهت بقنصهم برصاص سام بحسب ما بينه مشرف المعركة أبو زين العابدين .
قرابة شهر وجثة محمد ورفاقه في نهم لم يستطع المجاهدون انتشالها جراء الحصار والقصف المكثف على المنطقة لتقيم أسرته عزاء بلا جثة!
ولكن آمال عبدالخالق مندوبة أنصار الله لأسر الشهداء بمنطقة الصياح بينت أن فرق الصليب الأحمر عقدت اتفاقيات للتهدئة وانتشال جثث الشهداء التي تفحمت وتغيرت معالمها طيلة هذه الفترة ، ليعود محمد إلى أمه منتصرا بالشهادة ملفوفا بعلم وطنه الذي ظل يقاتل ويذود عنه.
لحظات مفصلية عاشتها أم محمد حال نبأ استشهاد وحيدها الذي كانت تبحث له عن عروس وكان يبحث عن الشهادة وموعد زفافه لخالقه ..
فبعد أن أقبل خال الشهيد علي قاسم الجرموزي متعثر الخطوات لإبلاغ أسرته نبأ استشهاد محمد قابلته أم الشهيد بصرخة فرائحية عصمت قلوب محبيه بالصبر ووارت عظيم الجلدة والثبات في تحمل فراق فلدة كبدها .ِ
وبكلمات مبعثرة يرافقها ضمات متكررة لصورة محمد تتكئ والدته على بقايا مقتنياته من ساعة ومصحف صغير وتلفونه الشخصي لتختتم مشاعرها المتوقدة بكلمات يكسوها حنين صوتها الشجي قائلة: دموع تذرف دما وقلبا حامدا شاكرا ووعدا للسير على عهده ونهجه وغدا الملتقى يا محمد ونعم المصير.
وسيبقى دم محمد الحمزي ودم كل شهيد في اليمن سيلاً جارفاً وريحاً صررا عاتية تدك معاقل العدوان ومرتزقته وأذنابه .
عظيم الاستبسال
الشهيد جمال عبد الباري زيد العقيدة تاريخ استشهاده / 2007 الحرب الرابعة_ صعدة.
انطلق جمال للمشاركة في الحرب بعد نقاشات حثيثة بينه وبين والديه حتى اقنعهما بوجوب التحرك ونصرة المستضعفين، ودعته أمه وقالت له بصوت شجي وقلب يودع روحا كتبت لها الأقدار ألا تعود: اذهب يا بني لتنصر دين الله ، أنت على الحق، فأخذه والده بعدها إلى آخر محطة تجمعهما وبعدها ودعه بعد أن أعطاه حاجته للسفر.
فشارك في حرب صعدة ودافع وقاتل دفاعا عن الأرض والعرض حتى استشهد وحقق الله رجاه بالفوز بإحدى الحسنين النصر أو الشهادة فاصطفاه الله بالثانية.
عند استشهاده اختلفت ردود فعل الأسرة حال وصول نبأ استشهاده خصوصا مع عملية التعتيم التي كانت قائمة وصعوبة التواصل لمعرفة مصداقية الخبر في وقت قصير فكان البعض يشكك في صحة الخبر والبعض مصدق.
وبسبب الوضع الأمني الذي كان يعيشه المجاهدون وكذلك ما تعانيه أسرهم في تلك الأيام من مطاردات ومعتقلات والبحث عن ذرائع لسجن أقارب المجاهدين ومحاولة استخدامها كورقة ضغط واخضاع ..كذلك عدم قدرة أسرة الشهيد على استقبال جثمانه وإقامة مراسم التشييع.
كل هذا ساهم في الوصول لقناعة وإجماع الجميع على كتمان الخبر والتجلد أمام منافقي السلطة ومخبريها حتى لا تستخدم السلطة الظالمة آنذاك الأمر كورقة ضغط وإخضاع كما ذكرت من قبل.
وكان يتم تشييع الشهيد في المنطقة التي استشهد فيها بسبب الحصار المضروب على المحافظة أثناء الحروب.
وتقول أخت الشهيد سميحة العقيدة بكل فخر واعتزاز: نحمد الله ونشكره أن اختصنا الله بهذا الشرف واصطفى منا شهداء كانوا ومازالوا عنواناً للصدق والوفاء، فقد تحركوا في زمن الجمود وصدعوا بالحق في زمن الصمت والسكوت وانطلقوا في زمن كثر فيه القاعدون.
وأضافت: لا أجد وقتا كافيا للحديث عن مواقف الشهيد ولا عن عظمته فقد عرفته شجاعا صادقا عطوفا وكريما يبذل ولا يبخل بشيء.. حتى بذل في الأخير روحه الطاهرة.
حتى في لحظة استشهاده كما رواه لنا رفقاؤه أنه حاول إنقاذ مجاهد بعد إصابته فتم استهدافه بطلقة نارية سقط على إثرها شهيداً مخضباً بدمائه الطاهرة.
واستذكرت قائلة: مازلت أتذكر إذا ما مرضت وأصبحت طريحة الفراش يأتي إلي وقد حضّر طعام الإفطار يحمله بيديه، ويقول لي لا تقلقي سوف أقوم بكل الأعمال فقط ارتاحي ونامي.
وعندما كان يدرس في المدرسة الصيفية ويظهر تفوقه على اقرانه في الخطابة والفصاحة كنت أراه يقرأ الآيات القرآنية يتأمل آياته وعندما يقرأ شعرا للبردوني يتذوق كلماته ويقول لي اسمعي اسمعي ويرددها ببطء كأني مازلت اسمع صدى تلك الكلمات.
فسلام سلام لكل الشهداء في كل زمان ومكان هم عنوان عزتنا ورمز هويتنا الإيمانية.
حياة العز والجهاد
الشهيد محمد عبدالله حزام الناشف /اسمه الجهادي أبو عبدالله _ متزوج
له طفل واحد اسمه عبدالله محمد عبدالله حزام الناشف_ استشهد في 10 محرم 1439 هجري 31 /9/ 2017م وهو يقارع العدوان السعودي الأمريكي في مختلف جبهات العزة والكرامة.. شارك في عدة جبهات بما فيها جبهة نجران و جبهه الوازعية واستقر في جبهة صرواح مأرب والتي كانت آخر مراحله الجهادية حيث استشهد فيها.
الشهيد كما وصفه أهله وأقرانه يمتاز بأخلاق عالية وكان في أسرته منذ صغره يمتاز بالأدب وكان رحيما بمن حوله..
تقول أمه عنه: لم أعرف منه كلمة تجرحني فقد كان خلوقا وهادئا ومستقيما وهذه هي صفات كل من اصطفاهم الله للشهادة .
الشهيد كان يعيش حياة مرفهة حيث كان موظفا في رئاسة الوزراء ولكنه ترك كل ملذات الحياة بعد أن رأى العدوان الغاصب يقتل الأبرياء ويستحل الحرمات فانطلق يجاهد في ميادين الوفاء لكي يرفع راية دين الله عالية ويحفظ ويصون عرضه وأرضه ويدافع عن المستضعفين ويقاتل المتكبرين والطغاة.. لنحيا كما كان يقول: كما خلقنا الله أعزاء وأحراراً ونحيا كرماء..
وهنا تقول لنا خالته: ها نحن نلتمس بركات دماءه الطاهرة بعد إن مضى الشهيد يتنقل من جبهة إلى أخرى حتى نال كرم الشهادة في ميادين الشرف واستشهد في صرواح وهو يقاتل أعتى طواغيت الأرض وهذا ماكان يشتاق إليه.. مستذكرة مقولة الشهيد وهو في أرض المعركة ( إما أن نقدم دين الله بقوه وإما أن نرجع إلى بيوتنا )
هاكذا هم العظماء
وعن استقبال أمه لخبر استشهاده..
تقول أم الشهيد: استقبلت خبر استشهاده بثبات زينب وقوة الخنساء، والحمدلله لقد نال إبني ماتمناه.
وأما خالة الشهيد فتقول: لقد خجلت عندما ذهبت لمواساة أختي أم الشهيد حيث كانت الدموع تذرف من عيني وهي متماسكة وقوية ولم تذرف أم الشهيد أي دمعة بل ترفع صوتها بالحمد والشكر حتى إنني كنت أمسح دموعي خجلا لكي لا تراني وهي بهذه القوه والثبات فالحمدلله الذي جعل هذه الأمهات بهذا الصمود، لنرسل رسالة للعالم أجمع بمدى وعي المرأة اليمنية وإيمانها بعدالة قضيتها.
الوفاء مع الله
أم الشهيد مؤيد الحيفي تروي لنا قصة البطل مؤيد بالقول:
الشهيد مؤيد من مواليد 2000 شهر 1 ، بداية أزمة 2011م كان عمره لا يتجاوز 11 عاما بدأ عمله في 2011م أمني كان يخرج مع أمنيات المنطقة مشاركا في مختلف المسيرات والفعاليات وكان مرابطاً في ساحات الاعتصام واستقى الكثير من الثقافة القرآنية حينها، ومع بداية العدوان في 2014م أصبح عمره 14 عاما التحق فورا بدورة ثقافية مغلقة بعد إصراره وصدقه مع الله كانت لمدة شهر وبعدها خرج أكثر وعيا وبصيرة وازداد خلقا رفيعا فوق أخلاقه الحسنة.
وأضافت: بعد الدورة الثقافية في 2014م لم يتأخر فسرعان ما التحق بدورة عسكرية وكنا كذلك نثبطه قلنا له “يامؤيد عادك خرجت من الدورة” وطبعا ما ذكر لنا انها دورة عسكرية لأننا لم نكن نسمح له وكان في بداية الدراسة للصف الثاني الثانوي وكنا نصر عليه انه يبقى للالتحاق بالمدرسة ويكمل دراسته كإخوته لكن بإصراره وصدقه مع الله خضعنا لإرادته وإيمانه بالله وبالقضية وبعد خروجه من الدورة العسكرية التي استمرت شهرين وسبحان الله كيف كانت حالته ومعنوياته بعدها؛ والله يسامحنا مازلنا نثنيه ونثبطه قلنا له يكفي الدورات أما الآن اجلس أكمل الدراسة ،أجابني وقال” يا أماه هل نقول للعدو انتظر نكمل دراستنا.. لو الناس كلهم بهذا التفكير من سيقوم يجاهد ويدافع عن دين الله وعن أرضه وعرضه ووطنه.. فكانت كلماته مثل الرصاص على قلبي أدمتني وما كان منا بعدها إلا توديعه والتوكل على الله وقبلنا بيعه وتجارته مع ملك السماوات والأرض وما أربحها من تجارة لكنه كذلك لم يهن عليه أن يكسر قلبي ووالده ويوقف الدراسة ووعدنا أنه يكمل ثاني ثانوي منازل ويعود يختبر ولو تعب وبذل جهداً فأول همه رضى الله في انطلاقته وكذلك رضى والديه في إتمام دراسته وفعلا أوفى بعهده لنا ورجع قبل الامتحان تقريبا بأسبوعين وتقدم للامتحان فقط من أجل رضى والديه أما هو فقد كان منتظر لشهادة ودرجة عالية جداً تفوق كل الدرجات.
واستطردت: مرت الأيام وأقبلت السنة الرابعة من العدوان ومؤيد بين جهاده العسكري والعلمي وكان بين الوقت والآخر يحن ويشتاق للمترس ولرفاقه مع الله وكثيرا ما كان يقول لي” يا أماه والله أنكم زدتو عليا مازد رضيت السنة هذه تمر وبعد مرور السنة ونهاية العام الدراسي أكمل الامتحانات وبعد جهد وسهر وتعب آخر يوم في الامتحان يوم الأربعاء وصل من المدرسة وفرحته وابتسامته تملأ الدنيا بكلها لم تكن فرحة بأنه أكمل ثالث ثانوي وبجد، لا.. كانت فرحة أنه سيرجع إلى مكانه الطبيعي سيرجع مع الله سيرجع وكله أمل وشوق ولهفة للقتال في سبيل الله فكم أنت عظيم يامؤيد.
وتابعت بصوت يخنقه العبرات ويزهو به الكبرياء: رحل المؤيد يوم الأربعاء قائلا: الآن أتركوني أفي بعهدي لله وانطلق “فما غابت شمس الأربعاء إلا وقد رحل وودعناه وقلوبنا راضية واستودعناه الله الذي لا تضيع ودائعه فكانت آخر جبهة له الساحل الغربي وكان بين الحين والآخر يتصل ويسأل من النتيجة وعند طلوع نتائج الثانوية جاء لزيارتنا وحصل على معدل 91، كانت فرحتنا به كبيرة أما هو فكانت فرحته من أجلنا أنه وبعون الله أدخل الفرحة في قلوبنا وفي قرارة نفسه كان ينتظر شهادة ومعدلاً ودرجة لا ينالها إلا الصادقين فانطلق من جديد في رحلته الأخيرة ليفي بعهده مع الله.
وأكملت بالقول: ومر أسبوع وكان قلبي يرجف طوال الأسبوع من القلق خوفاً عليه والدعاء له وللمجاهدين لا ينقطع من فمي وقلبي وفي يوم الأربعاء اتصل سمعت صوته وسكن قلبي وفؤادي وازداد سكينة واطمئناناً وهو يسأل على جميع الأهل والأقارب والأصدقاء وما اكتفى بالاتصال بي فاتصل بوالده وأطمئن على الجميع وكأن صوته في أذني إلى اليوم وفي اليوم التالي يوم الخميس جاء خبر استشهاده بثلاث غارات للعدوان الصهيو أمريكي السعودي ليرتقي المؤيد بالله شهيدا وليحظى بأعلى الدرجات وأعظم الشهادات مع الأنبياء والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.