في مراسم وداع 2020م.. عام الخيانات العربية للقضية الفلسطينية
أ. د. عبدالعزيز صالح بن حبتور
ستودع البشرية عامنا الحالي 2020م بعد أيامٍ معدودة غير مأسوف عليه، لأنه بنظر العالم أجمع ومنها عالمنا العربي–الإسلامي بأنه عام كابوس ثقيل، جثم بأهواله على الإنسانية أجمع.
لنأخذ مثالاً ساطعاً على تراجيدية المشهد مُنذ بدء العام الذي أفزع الكرة الأرضية برُمتها بجائحة كورونا (Covid-19)، وما نتج عنه سقوط الملايين من البشر بين مريضٍ ومتوف، وفاقدٍ لعمله، وحتى تجارته المتوسطة، وكان هذا الوباء الخطير عنواناً لإغلاق البلدان، والمدن، وحتى الأحياء والحواري، لكي يحدّوا من آثاره المُرعبة، ولم يكن أحد يتصور بأن تغلق رحلات القطارات، والحافلات، وحتى السيارات الخاصة التي لم يُسمح لها بالحركة والتنقل، كما أنَّ مطارات العالم أُصيبت بشللٍ تام جرَّاء الإغلاق، وتعرضت بسببها شركات الطيران العالمية لخسائر بلغت عشرات المليارات من الدولارات.
وحينما يخسر العالم من شرقه إلى غربه كل تلك الأعداد من البشر، فلا أظن أنَّ إنسانٌ ما يعيش على هذه البسيطة لم يتأثر شخصياً بوفاة قريب أو صديق أو معروف مُقرَّب لديه، ولذلك نستطيع القول بأنَّ هذا العام هو عام حزن وحداد عالمي جماعي اكتوى منه الجميع، وهذه هي المفارقة العجيبة التي جمعت الإنسانية كلها في مأتمٍ وحداد واحد استمر حتى هذه اللحظة.
تتبارى مراكز الأبحاث الدولية ونشرات الأخبار والمجلات والصحف المهتمة بالشأن الاقتصادي العالمي لتعلن وبشكل يومي حجم الضرر الذي تعرضت وتتعرض له اقتصادات العالم (الغربي الحُر) من خسائر فادحة في حجم الإنتاج الاجتماعي الإجمالي، وظهور خسائر باهظة في أسواق الأسهم في جميع بورصات العالم، مما أثَّر بشكلٍ مباشر على ضياع العديد من فرص العمل، وتزايد أعداد العاطلين في كبريات الاقتصادات العالمية، كالولايات المتحدة الأمريكية، وغيرها من بلدان اقتصاد السوق (الحُر)، وحتى في تلك البلدان التي كان النمو الاقتصادي فيها يتصاعد بوتيرةٍ عالية، وتشهد أسواقها انتعاشاً كبيراً، لم تنجو من ظاهرة الخسارة الاقتصادية العالمية، وكان الاستثناء هو اقتصاد جمهورية الصين الشعبية وطبقة المليارات مِمَّن يتاجرون في العالم الافتراضي وبيع الممنوعات عالمياً.
لقد كان هذا الوباء امتحاناً صعباً للنظم الصحية والسياسية والإدارية للدول والحكومات في العالم أجمع، ففي الوقت الذي تهاوت فيه نظم صحية في دول تُعد هي الأقوى اقتصادياً على مستوى العالم، مثال أمريكا، الدولة الأكثر (رخاءً وقوة) بالعالم، كما سقطت كلٍ من إيطاليا وإسبانيا وحتى فرنسا في فخ كوفيد-19، التي تحولت شعوبها إلى ضحية جماعية حصدتهم الجائحة دون مقاومةٍ تُذكر، وبالمقابل نجحت دول في مجابهة الجائحة إضافة إلى أنها قدمت مساعدات طبية إنسانية كبيرة مقارنة باقتصاداتها الأقل نمواً بالمقارنة مع الاقتصادات الغربية العملاقة، فعلى سبيل المثال؛ نجحت حكومة كوبا الاشتراكية في تقديم المساعدات الطبية لأزيد من 55 دولة حول العالم، بما فيها الدول الأوروبية، ونجحت روسيا الاتحادية، وفيتنام في تقديم مساعدات ملموسة لعدد من الدول على مستوى العالم، أما جمهورية الصين الشعبية فقد كانت الاستثناء في محاصرة تداعيات هذه الجائحة الخبيثة، على الرغم من أنها كانت الضحية الأولى لفايروس كورونا، وقررت الحكومة الصينية مساعدة مُعظم الدول في العالم الثالث، ودول مهمة بالقارة العجوز، وهذا يدل على أن النظُم الصحية في هذه الدول قوية وصحيحة.
ولأن عام 2020م هو عام انتخابات في الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي سيترتب على العالم أجمع أن يستعد لمضاعفات نتائج انتخابات غير (طبيعية) في هذه المرَّة، فإن العالم كان يستعد لحرب اقتصادية وتقنية وتنافسية حادة بين أكبر اقتصادين عملاقين في العالم، وهما الاقتصاد الأمريكي والصيني، وبالفعل تم اتخاذ قرارات وتدابير اقتصادية وعقوبات متبادلة هزَّت الاقتصاد العالمي بِرُمته، كما ظهرت بوادر توتر عسكري مخيف في بحر الصين الجنوبي، وكان الرئيس الأمريكي/ دونالد ترامب الساقط في الانتخابات، قد هدَّد مِراراً في حملاته الانتخابية على أن يعاقب الصين، وكانت القيادة الصينية ترد عليه بهدوء وصبر وحكمة، ولكنه كان في كل مرة يُصرح بهيجانٍ صارخ بأنه سيعاقب كل دول العالم إذا ما تعاملت مع التقنيات الصينية التي تمت سرقتها ونسخها من التقنية الأمريكية، وأساس ومحور هذا الصراخ هو العنوان البارز، من سيحكم العالم في القرن الـ 21؟!!، من الناحية التقنية وتجلياتها في شبكات الجيل الخامس، وما هو مصير عُملة الدولار؟!!، وأين سيكون موقع الولايات المتحدة الأمريكية اقتصادياً؟!!.
كانت كل تلك التهديدات الأمريكية والرد عليها صينياً مبعث قلق ورعب عالمي، خوفاً من أن لا تنفجر الأوضاع بين العملاقين العسكرية والاقتصادية والتقنية، وتأثير ما سيحدث على مصير شعوب العالم والدول والقارات بِرُمتها حول العالم.
أما في إقليمنا العربي–الإسلامي الملتهب، فكان نصيبه هو الأوفر حظاً من كل تلك التداعيات السلبية التي لعبت سياسات الولايات المتحدة الأمريكية المتهورة دوراً سلبياً في عهد ولاية دونالد ترامب الرئاسية، وهي أدوار تخريبة للقوانين الأممية والصادرة عبر مجلسي الأمن الدولي، والجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث نفذت هذه الإدارة إلى ارتكاب العديد من الجرائم والفظائع، كما وتعمدت إلى خرق القانون الدولي جهاراً نهاراً، فقد اغتالت الشهيد قاسم سليماني قائد فيلق القدس الشريف مع رفيقه الشهيد أبو مهدي المهندس في أرض العراق، وشرعت في تطبيق بنود ما سُمي (بصفقة القرن) سيئة الصيت، ونقلت سفارتها إلى القدس الشريف، ومنحت هضبة الجولان السورية للكيان الإسرائيلي الصهيوني، واقتادت عدداً من الحُكَّام العرب إلى حظيرة التطبيع الخياني مع العدو الصهيوني، كل ذلك في إطار الحملة الانتخابية للرئيس دونالد ترامب المُنهزمة.
الولايات المتحدة الأمريكية وفي عهد الرئيس دونالد ترامب، ألغت من طرفٍ واحد الاتفاقية الدولية بشأن البرنامج النووي لإيران المُقِرَّة في مجلس الأمن الدولي، والمسماة خمسه زائد واحد مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وحاولت هذه الإدارة تشكيل حِلف عسكري أمني من دولة الكيان الصهيوني ودول مجلس التعاون الخليجي وآخرين، موجهة ضدَّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهذه استراتيجية قديمة جديدة للحكومات الصهيونية، وبسقوط ترامب سقط الرهـان لهذه الدول، وتمت الاستعاضة (بالتطبيع) الحكومي لعدد من الحكومات (العربية).
لكن الجديد في الأمر هي المحاولة المستميتة من قِبَل مهندسي (التطبيع)، بأن يتزامن مع التطبيع شعبياً عروبياً، لكن ولإيماننا بعدالة القضية الفلسطينية ستفشل كُلَّ تلك المحاولات كما فشلت في القُطرين الشقيقين المصري والأردني، ولكم في موقف نقابة الممثلين والفنانين المصريين من محاولة الممثل محمد رمضان، مثالٌ يا أولي الألباب، مع الفارق الكبير في فهم دور المجتمع المصري والأردني عالي الثقافة، بالمقارنة بالطارئين المتطفلين على المشهد العروبي بتاريخه الباذخ.
بعضٌ من (الحُكَّام العرب) يهربون إلى المجهول، أي إلى السيد/ بنيامين نتنياهو رئيس وزراء كيان العدو الإسرائيلي والمُثْقل هو الآخر بقضايا جنائيةٍ خطيرة، تتعلق بقضايا فساد مالي وإداري غير مسبوق في الكيان، كما أنه متهم بسوء استغلال السلطة، وسيخضع للمحاكمة وفقاً للقانون الإسرائيلي ذاته، ومصيره المرتقب ربما إلى السجن، ومع ذلك تجد أن هؤلاء (القادة العرب) من مشائخ الإمارات والبحرين والمغرب، ولحق بهم شلة العسكر من السودان ما بعد الثورة التي يُفترض أن تحرر الشعب لا أن تنقله من أسر العسكر إلى أسر الكيان الصهيوني، هؤلاء (القادة العرب) يهرولون إلى الاستسلام والخيانة الرخيصة للأمة العربية والإسلامية عبر تغريدات متواترة من السيد/ دونالد ترامب المهزوم انتخابياً بفارق يزيد عن 6 ملايين ناخب أمريكي بالصوت الشعبي، وأزيد من ثمانين صوت من المجمع الانتخابي، هنا يتساءل الرأي العام العربي والإسلامي، من إندونيسيا شرقاً وحتى المغرب (موروكو) غرباً، ليسألوا بصوتٍ عال:
لماذا كل هذا الانبطاح والسقوط أمام أقدام المُحتل الصهيوني؟.
ماهي مبررات خيانة هؤلاء للقضية الفلسطينية والشعب العربي من المحيط إلى الخليج؟.
لماذا كل هذا الغدر الأسود والصريح للشعب الفلسطيني العظيم الذي قدَّم في مقاومته مئات الآلاف من الشهداء والجرحى، وبضعة ملايين من اللاجئين المنتشرين حول العالم؟.
كيف لهم أن يشرحوا لنا وللأجيال، وللأرواح الطاهرة التي اُزهقت على مدار قرن كامل، تضحيةً من أجل فلسطين وشعبها العظيم؟، أي مُنذ مؤامرة ما سُمي بوعد السيد/ آرثر جيمس بلفور في العام 1916م، ومؤامرة تقسيم الأمة العربية على يد الغُزاة البرابرة الأوروبيين، بما سُمي اتفاقية سايكس–بيكو في العام 1917م، وما تلتها من مؤامرات استعمارية صهيونية حِكت ضدَّ شعبنا العربي الفلسطيني.
ما يعتبرونه (تطبيعاً) اقتصادياً وسياسيا وثقافياً قد تمَّ تدشينه بين الكيان الإسرائيلي الصهيوني وعددٍ من البلدان العربية، فإنه بدايةٍ مؤسفة بوضع شعوب هذه البلدان تحت قيود مُعقَّده، وشروطٍ مُجحفة بحقَّ شعوب تلك البلدان، وأن هذا التطبيع سيتحول إلى كارثة ووبالٍ عليها، ولنا أن نشاهد كمثال صارخ على عنجهية المُحتل وغطرسته وتعامله غير الأخلاقي مع أهلنا في فلسطين، وهذا مثالٌ كافِ كي تتعلم منه القيادات العربية المتساقطة في فخ التطبيع.
للتذكير هنا فحسب بأن كل الحكومات (المُطبِّعة) هذا العام مع كيان العدو الإسرائيلي وركعت أمام سيَّدهم الإرهابي/ بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء، هي ذاتها من شنَّت العُدوان الوحشي الغادر على الشعب اليمني العظيم في صبيحة يوم الخميس الموافق 26 مارس 2015م، أليست هذه احدى عجائب زمن 2020م.
لو اجتمع جميع مدبري عملية (التطبيع) التي أفضت إلى الخيانة الكُبرى لأنبل وأعز وأعظم قضية في ماضي وحاضر ومستقبل أمتينا العربية والإسلامية، لما وجدوا في قاموس لغتنا العربية حرفاً واحداً يبرر لهم صنيعهم القذرة ووضاعتهم الهابطة، وستبقى فلسطين قضية جميع أحرار الأمة، وفي ذات الوقت لن تُغْفَر لهؤلاء المنبطحين خيانتهم.
والحكمة تقول بأننا يجب أن ننسى الماضي بآلامه، ولكن علينا عدم نسيان الدرس، والخيانة للأوطان أعظم دروس التاريخ .
(وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)
رئيس مجلس الوزراء