في حضرة الاحتفال باليوم العالمي للتطوع:
المبادرات المجتمعية.. فكرة وطنية وخطة عمل تتحول إلى مشاريع تنموية
نزعة الأخذ وحب التملك وانتظار عطايا الآخرين واكتناز المال، وإيثار النفس على الآخرين في مختلف جوانب الحياة من أخطر الأمراض النفسية التي تصيب المجتمعات، ذلك لأنها توجه سلوك وتفكير ومواقف وتصورات الأفراد نحو حب الذات، بما تنطوي عليه من مساوئ الطمع والأنانية والغرور، وغيرها من الآفات الأخلاقية والسلوكية المدمرة التي تناقض فلسفة العطاء وتقتل لذة البذل، وتشوه طبيعة العمل الطوعي الخالص الذي لا ينتظر أجرا ولا يقوم على المقابل، ولا يتوسل المنفعة والمصلحة، وهذا هو ما يتميز به العمل الطوعي عن غيره، بكونه قائما على فلسفة العطاء ولذة البذل، ليصبح بذلك أرقى وأقدس وأنبل الأعمال الإنسانية على الإطلاق..
ويعرَّف التطوع بأنه “بذل مالي أو عيني أو بدني أو فكري يقدمه الإنسان عن رضا وقناعة، بدافع من دينه أو أخلاقه دون مقابلٍ، بقصد الإسهام في مصالح معتبرة شرعا يحتاج إليها المجتمع”.الثورة / يحيى محمد الربيعي
يوم التطوع العالمي IVD هو احتفالية عالمية سنوية تقام في 5 ديسمبر من كل عام حددتها الأمم المتحدة منذ عام 1985م، وتحتفل بهذا اليوم في غالبية بلدان العالم، ويعتبر الهدف المعلن من هذا النشاط هو شكر المتطوعين على مجهوداتهم، إضافةً إلى زيادة وعي الجمهور حول مساهمتهم في المجتمع، وينظَم هذا الحدث من قبل من المنظمات غير الحكومية التي بينها الصليب الأحمر، والكشافة وغيرهما، كما يحظى بمساندة ودعم من متطوعي الأمم المتحدة، وهو برنامج عالمي للسلام والتنمية ترعاه المنظمة الدولية.
ويتيح اليوم الدولي للمتطوعين الفرصة للمنظمات التي تعنى بالعمل التطوعي والمتطوعين الأفراد لتعزيز مساهماتها في التنمية على المستويات المحلية والوطنية والدولية لتحقيق الأهداف الإنمائية للألفية.
الحامل الوطني
وانطلاقا من الأهمية التي يضطلع بها العمل الطوعي في اليمن وما يحتله من الأولوية لاسيما في ظل الظروف التي تمر بها البلاد من عدوان غاشم وحصار جائر يجعل من العمل الطوعي خيارا استراتيجيا تندرج في إطاره العديد من مسارات وبدائل التحدي في مواجهة تحديات متطلب النهوض الحضاري في اليمن وكسر عنفوان العدوان وأدواته الذين يراهنون على القوة واللا شرعية الدولية التي شرَّعت الاعتداء على اليمن أرضا وإنسانا وتدمير بنيته التحتية ونهب ثروته والسيطرة على منافذه البحرية وإغلاق أجوائه.
وفي ظل ما سبق تستعد مؤسسة “بنيان التنموية” الحامل الوطني للعمل الطوعي في اليمن لتنظيم احتفالية بهذه المناسبة الإنسانية، لتعزز روح الانتماء بين الفرد والمجتمع، وتنمية الشعور بالمسؤولية والاستجابة لنداء الواجب الديني والوطني والإنساني، بعيدا عن اللا مبالاة والتواكل.
وتأكيد ضرورة تضافر الجهود والعمل الجمعي، وما ينتج عنه من تبادل خبرات واكتساب المعارف وتعزيز الألفة والروابط الاجتماعية، بما يحقق للفرد تجاوز مجالات تخصصه ومحدودية معارفه وإخلاء العمل الطوعي من طابع المنفعة والمصالح، بما يمنح القائمين عليه مكانة عالية في المجتمع، ويمنحهم الحق في مشاركة الحكومة في تفعيل المهام والمسؤوليات، وإنجاز المشاريع المتعثرة بأقل كلفة.
وإيماناً من المؤسسة بأن العمل الطوعي هو غاية أخلاق الأنبياء، وتجسيد رسالتهم، حين نذروا أنفسهم وكل ما يملكون في سبيل دعوة أقوامهم إلى الخير والصلاح والسعادة في الدارين، غير منتظرين من أقوامهم جزاءً ولا شكورا، وبذلك يكتسب العمل الطوعي قدسية في التطبيق والعمل، وقداسة في القيم والمبادئ والتصورات، فقد اتخذت مؤسسة بنيان التنموية مفهوم “المبادرة المجتمعية” مسارا للعمل الطوعي في اليمن وحددت لذلك استراتيجية تدريبية وتأهيلية استهدفت كادرا كبيرا من المتطوعين الذين وجدوا في المؤسسة ملاذاً لأحلامهم وميداناً لطموحاتهم، وفضاءً واسعاً لمدارات مواهبهم وتحقيق ذواتهم.
ولكي يتحقق النهوض وتدار عجلة التنمية بخطوات مدروسة وثابتة عملت مؤسسة بنيان التنموية على رفع مستوى وعي الإنسان المبادر بحيث يسعى إلى الابتكار والتجديد، وهذا يدفعه دائمًا إلى تغيير واقعه بشكل ممنهج ومدروس، ليعود عليه بالنفع والفائدة اللذين من خلالهما يمكنه أن يعمل على الأخذ بيد الآخرين في سبيل الإصلاح والتعمير والنهوض بهم، ومساعدتهم، ومحاولة تجنيبهم وتخليصهم من المآزق والمشكلات.
ويشير مفهوم المبادرة -هنا- إلى فكرة وخطة عمل تطرح لمعالجة قضايا المجتمع، وتتحول إلى مشاريع تنموية مستدامة قصيرة المدى وبعيدة المدى؛ تصدر عن المؤسسات الحكومية، وشبه الحكومية، والجمعيات الخيرية والتطوعية، وتأخذ طريقا فرعيا عن الأهداف الرئيسية للمؤسسة أو الجمعية، فتحقق أهدافها الفرعية بشكل مستقل، ولها نماذج وتشكلات متعددة بتنوع مجالات اشتغالها، كالمجال الزراعي والصناعي والتنموي والسمكي والاجتماعي وغيره.
استمرار وديمومة
وتكمن أهمية المبادرة في كونها تسهم في نهضة المجتمع والدولة والأمة الإسلامية والإنسانية عامة في المجالات التي تهتم بها المبادرات وتقوم بتنفيذها، ولذلك ترسل بنيان برامجها نحو توجيه وإرشاد الشباب إلى تبني وتنفيذ المبادرات التي تخدم الوطن، وتحقق رفعته وتقدمه وازدهاره.
وحيثما يكون الشخص المبادر حريصا على تقديم القراءة والبحث المنهجي الدقيق وبما يجعل مبادرته ذات أثر وفعالية، فإنها تبرز قدرات ومهارات الأفراد في مختلف المجالات العلمية والعملية، وهؤلاء بدورهم يشكلون العماد الحضاري والنهضوي للوطن، إذا ما تم الاهتمام بهم وتأهليهم التأهيل المطلوب.
وبذلك تصير المبادرات سببا في تحقيق التنمية والتطوير في المجالات والعلوم المختلفة، كما أن استمرارها وديمومة نشاطها يساعد على زيادة تقدم العلوم، وبذلك يتحقق التكامل المعرفي والحضاري، تبعا لاختلاف توجهات المبادرين، واختلاف ميادين عملهم واهتماماتهم.
فضلا عن أن المبادرات تعود بالأثر الإيجابي على مستوى الحالة النفسية لدى الفرد، حيث يشعر أنه شخص فاعل له كيان وأثر في هذه الحياة، بعيدا عن الشعور بالملل والضياع، نتيجة الفراغ والبطالة.
إذن، وبمقدار ما تنتج المبادرات من حالات إبداعية وابتكارات وإنجازات، فإن ذلك ينعكس إيجابيا بتحقيق مزيد من القدرات الإنتاجية المجتمعية، ما يعود بالنفع المالي والرخاء الاقتصادي على ذلك المجتمع، وعلاوة على ذلك يمكن القول إن المبادرات تعمل على إعادة صياغة الوعي الفردي والجمعي، وتحقق قدرا عاليا من الوعي والعقلانية في التعامل مع مشاكل الحياة ومتطلباتها ما يحدث التغيير، سواء كان التغيير صغيرا أو كبيرا، في أي مجال من مجالات الحياة.
تشويه كبير
في المقابل، وبقراءة متأنية وثاقبة نلاحظ وبعين مجردة أن مشاريع المنظمات الدولية، ومنها على سبيل المثال مشروع “من أجل بلد أجمل” وما ينتج عنه من حملات لتنظيف شوارع مدينة أو ساحة منشأة تعليمية أو مرفق ما من المهملات والأوساخ، فبقدر ما يمكن اعتباره وسيلة من وسائل تثقيف المجتمع بضرورة النظافة العامة أو اعتماده ضمن طرق حث المجتمع على النظافة العامة، فإن ما تحدثه من أثر سلبي في سلوك الأجيال يعد تشويها كبيرا لمعنى ودلالة العمل الطوعي والفعل الأخلاقي.
أولا: ليس من المنطق أن يصير العمل طوعيا ولا حتى أخلاقيا وهناك من يتسابق على إنجازه من أجل الظفر بعائد مادي من أجر رمزي أو الفوز بمسابقات اختيار أنظف شارع أو أجمل فكرة على أساس أن يمنح (جائزة تكون رمزية).. التصرف الذي يتم تبريره من تلك المنظمات بالضرورة من أجل تشجيع الشباب على الانخراط في أنشطة العمل الطوعي.
ثانيا: هذه الأنشطة هي في حقيقتها ليست أكثر من عملية تزييف متعمد لوعي الناس، إن لم تكن استخفافا بعقولهم، ذلك أنها في الأساس مجرد أنشطة ومشاريع وهمية من هذا القبيل أو ذاك.. ليست بذورا يراد لها أن تزرع وتكون لها جذور في الأرض وفروعا في الآفاق تؤتي أكلها كل حين.. أبدا إنها لا تكون سوى لفيف من الأوراق تحتوى على هيكل شبيه بالكلمات المتقاطعة يتم استحضارها وتعبئة فراغاتها بغرض استخدامها في معاملات إخلاء العهد.
ألا يتضح بذلك الغرض المخفي وراء هذه الأنشطة ذات الطابع الموسمي، وأنها بهذا الأسلوب تغرس مبدأ الترهل واللامبالاة داخل البيئة المستهدفة لاسيما أن أنشطة تلك المنظمات تعمل على ترسيخ مفهوم أن النظافة – ذلك الفعل اليسير والإلزامي المفروض على كل فرد أن يقوم به بدافع الحفاظ على صحته وصحة من حوله كفعل وقائي وكواجب أخلاقي وديني وبشكل يومي وفي كل لحظة – قد أصبح حلما بعيد المنال ومشروعا عملاقا يتطلب لإنجازه موازنات وإمكانات وتجهيزات مهولة.. مشروع يتجاوز في حجم إنجازه إمكانات الدولة المحلية إلى تبرعات الدول المانحة والمنظمات الإغاثية.. ولا يكون من ذلك كله – إن حصل – غير أن تبقى النظافة حلما بعيد المنال عدا تلك اللحظات الموسمية التي تستنزف في الغالب مليارات من الدولارات على مراحل الدراسة والإعداد والتحضير ومصاريف تشغيل، والنتيجة لا شيء يستدام سوى الترهل.