المسارات الثورية وضرورات البناء
عبدالرحمن مراد
اليمن هي من أكثر الأقطار ميولاً إلى الثورة لتأصل هذه الفكرة في البنية الثقافية والبنية العقائدية، ولكنها من أقل الأقطار إحداثاً للتحولات والتبدلات، فكل الثورات لم تكن تستهدف تغييراً ملحوظاً أو تبدلاً في المسارات بل كانت تستهدف إبدال وجه بآخر وصورة بأخرى مع بقاء الشكل كإطار دال على استمرار الماضي في صميم التجارب، وقد كان ذلك هو ديدن المراحل ولذلك ظل الماضي هو العائق الوحيد أمام المستقبل في كل المراحل، فثنائية الثبوت والتحول في حركة المجتمع في اليمن لها وجهان عميقان في البنية الثقافية، وهما ممتدان في التاريخ، فالوجه الأول هو الوجه الثبوتي الذي تمثله فكرة الخلافة الوراثية التي قال بفكرتها معاوية بن ابي سفيان وحشد لها النصوص التي تؤيد هذه الفكرة، وقد نشط في زمنه الرواة الذين كانوا يصنعون المبرر النصي إلى درجة شيوع ما اصطلح على تسميته علماء الحديث بالإسرائيليات، والإسرائيليات هي منظومة نصية تختص بالحديث النبوي والوقوف أمامها بالتحليل للفكرة وفق منهجية الجدلية التاريخية يفضي بنا مسارها إلى الصراع العشائري ليس أكثر من ذلك، وهذا الوجه عطّل قدرات الأمة وحدَّ من قدراتها، وشل فاعليتها، لكنه كان الأكثر تأثيراً في حركة المجتمع والسياسة وفي حركة التاريخ.. والوجه الآخر هو الوجه التحوِّلي، وهذا الوجه تمثله فكرة الثورات التي قادها آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام وهو يمثل الثورة التحولية التي تتحرك في جانب الشعب وبالشعب في مقارعة الظلم كما يظهر ذلك في جل المراحل والمحطات التاريخية على وجه العموم، أما على وجه الخصوص فإن الزيدية في اليمن مثلت فكرة الثورة التحولية والشافعية كانت تمثل فكرة الثبوت وبينهما تكوّن تاريخنا وهو ممتد في كل التجارب التي تتجانس في بعض المراحل وتتضاد في أخرى، وما يحدث اليوم من صراع يحمل ذات السمات الثورية التحولية والثبوتية الخلافية، فالماضي يناوش بثبوته والمستقبل يحاول تحقيق وجوده , حتى إسرائيل تحاول أن تجد لها موطئ قدم في المسار العام كما نشهد في حركة التطبيع التي يتهاوى إليها الكثير من الأنظمة العربية، وما بين الأمس واليوم مسار متجدِّد من عند البدء وحركة التفاعل النصي للإسرائيليات إلى التطبيع وحركة التواجد في الجزر والممرات المائية، فالثبوت يتجدَّد بذات القيمة وذات المعنى بعكس الحركات التحولية التي تحمل التبدل والتغيير من داخلها وفي حركتها مع التاريخ .
فالثبوت الذي نقصده هو ما عليه تيار الإخوان والسلف – كسمة ثقافية لوجه تحالف العدوان- في مقابل فكرة الثورات التحولية التي عليها حركة أنصار الله وتيار المقاومة الإسلامية على وجه العموم، ويمكن قياس ذلك في صورة المشهد السياسي في المنطقة العربية.
فصورة المشهد السياسي تقول إن الثبوت والتحوّل تلاقياً من جديد في جانب صراعي دامٍ، فتحرك جانب بين آتٍ لا يأتي لقلة وسائل صنعه، وبين ماضٍ لا يرجع لانعدام الحياة فيه، وإن دلَّت عليه أصوات واصداء، لهذا فالعملان مجرد حركة هزيلة في فراغ، فالماضي مستحيل الرجوع لكن الغد ممكن الميلاد وهو يستدعي جدّة من نفوس الداخلين فيه، وقدرة تجديده وتجديد نفوسهم معه حتى لا يصبح ماضياً ممتداً في زمن جديد أو نفترض جدته، وحيوية كل عمل تكمن في أفكاره الحياتية التي تتنازعها الفصائل والفرق والكيانات في صور غير متجانسة، فالسمة الغالبة للبناء الثقافي في مشهدنا السياسي اليوم لا تعدو عن كونها نزوعاً دينياً يبزغ من طرفه بمفهوم عائم الحس الوطني.
والملاحظ أن غموض المرحلة زاد من غموض الفكرة، غير أن مكوناتها الأولى تصلح أساساً للبناء الجديد لأنها بذرة حية قابلة للنمو.
و معالجة الواقع الجديد – بالنقد والتفكيك – على ضوء أبرز الأدبيات العلمية والفكرية والأكاديمية المعاصرة، أصبحت ضرورة ثورية في سبيل توظيف ذلك الإنتاج الضخم ومفاتيحه النظرية لتحليل إشكالية مفهوم الثورة والهوية وتداخلهما مع ما تطرحه الرؤى الثورية التي تجتاح مجتمعاتنا العربية في ظل مناخ ما يسمى الربيع العربي، فالثورة والهوية تركا في واقعنا مصفوفة من التحديات نشهد آثارها حولنا تشظيًا وتفككًا للمشتركات الجامعة وتضخمًا غير مسبوق للانتماءات والولاءات الطائفية والمذهبية والاثنية .
فالثورة تحدث – كما يرى الكثير من المفكرين – ” نتيجة وجود مقدمات وشروط محددة تبرز في إطار تطور المجتمع, تؤدي إلى وجود تناقضات أساسية تتحدَّد في التناقض بين الطابع الاجتماعي للإنتاج وشكل التملك الخاص, ويؤدي ذلك إلى اتساع الشعور بالظلم والاستغلال الذي يمارس من قبل فئة قليلة مالكة, وتؤدي هذه التناقضات إلى أزمة سياسية عميقة تحمل معها نشوء حالة ثورية تتجسَّد بنشاط الجماهير السياسي الواسع من خلال التمرد على الواقع بأشكال ومظاهر متعدِّدة مثل المظاهرات والاجتماعات المعبئة والاعتصام, فالحالة الثورية هي تعبير عن التناقضات الموجودة في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وهي تمثل ذروة تفاقمها.”
إذن نحن بحاجة إلى التحليل والنقد وإعادة تشكيل وبناء الجسور والتواصل وإلى مقاربات سوسيولوجية علمية عقلانية لمشكلات مجتمعنا العربي على وجه العموم واليمني على وجه الخصوص وتحدياته الثقافية والحضارية.
فالطابع العسكري لأنظمة الحكم الثورية العربية في القرن العشرين تسبب في أزمة الهوية وعمل على فشل الدولة القطرية , ويمكن القول إن تلك الأنظمة فشلت في إدماج مكوناتها الأولية : القبلية والطائفية والمذهبية في بنتيها ، بل الثابت إنها عززت المكونات الأولية وسعت إلى توظيفها كأدوات في صراعها للاستحواذ على السلطة، لذلك فالدولة العربية فشلت تمامًا في بناء نماذجها القومية أو الوطنية، بل فشلت أيضًا في بناء الدولة ذاتها كمؤسسات وإطار عام للمواطنة وحتى لا نفشل نحن علينا معالجة الواقع الجديد – بالنقدً والتفكيكً – على ضوء أبرز الأدبيات العلمية والفكرية والأكاديمية المعاصرة وابتكار رؤى جديدة للبناء وهو أمر غير مستحيل ولن يحتاج سوى إرادة سياسية وثورية ليكون واقعاً متحركاً ومؤثراً .