هل يَبْزُغُ نجمُ اليمنِ مِنْ بَيْنِ رُكامِ الحَرْب ؟
عبدالرحمن مراد
منذ عشرة أعوام أصبحت اليمن كالقصعة التي يتداعى عليها أكلتها، بل أصبحت مضماراً -كما يتضح اليوم جلياً في عدن وأبين- لتصفية الحسابات بين الخصوم، فالصراع الذي يلبس العباءة الخليجية أصبح يفصح عن نفسه في المئزر اليمني، فقطر ترى في الإخوان يداً تدافع عنها، والإمارات اشتغلت على مسار الطغمة، والسعودية تبحث عن نفسها في ثوب السلفي، وأمام مثل ذلك الاشتغال تغيب اليمن كوطن، وكمعنى، وكحضارة، وكتاريخ، وكمشروع، لتبدو لكل متأمل حصيف حالة مضمارية بأفق من الفراغ القاتل، أي أن الذي يحدث باليمن لا يعدو عن كونه حالة من حالات التيه التي تصيب الأمم في مراحل تاريخية مفصلية إما عقاباً لتصويب حالة انحرافية، أو تهيئة لمرحلة مختلفة في تفاعلها الجيوسياسي والديمغرافي، ويبدو لي من خلال القراءة التأملية لمجريات الأحداث التي واكبتُ أحداثها – كتابةً وتأملاً- منذ تفجرها في 2011م أن اليمن تتعرض لحالة فرز وتمايز، وتدافع دفعاً لفساد قد حدث، وبغية التهيئة لها لاستعادة دورها الحضاري والتاريخي، وذلك ما يبدو لي من بين غيوم الأزمة ودخان العدوان وحالات الابتلاء بالفقر والجوع والخوف ونقص الأموال والثمرات، وتلك الرموز تحمل بين وجعها تباشير خير .
ومع اكتمال دورة الزمن السباعية تكون اليمن قد تجاوزت مرحلة لتبدأ مرحلة جديدة، هذه المرحلة ستكون ذات تغاير وفصل، تغاير عن الماضي القريب الذي تاهت فيه اليمن، وفصل بين زمنين، زمن أمعن في الانحراف التاريخي واستغرق نفسه فيه، وزمن سوف يعمل على تصحيح الانحراف الذي حدث في سقيفة بني ساعدة، ليعيد ترتيب النسق الحضاري والثقافي والتاريخي إلى المجرى الطبيعي الذي دلت إشاراته الأولى ورموزه على تعاضده وتكامله ومن ثم واحديته، فالمشروع الإسلامي بكل قيمه ومبادئه الحضارية والإنسانية والحقوقية لم تكن قريش حاملاً حقيقياً له بل كانت بيئة قروية عشائرية تقوم على قيم العصبية، ولذلك شكلت بيئة طاردة لهذا المشروع وكان الانتقال من القروية إلى المدنية يحمل دلالات كبيرة في الفكر الاجتماعي لم ينتبه إليه أحد، كما أن تمايز التنزيل بين المكي/القروي والمدني يحمل دلالات ثقافية وعقدية لم تُقرأ في سياقها الحقيقي، ومن هنا يمكن أن يُقال إن المشروع الإسلامي الذي جاء لإنقاذ البشرية من دروب الضلال إلى أنوار الهدى وحمله الرسول الأكرم محمد «صلى الله عليه وآله وسلم» كان مشروعاً مدنياً لا يمكنه التناغم إلا مع القيم الحضارية والمدنية التي كانت تمتد في حمير ومن حمير في الأوس والخزرج «الأنصار» فالتلازم بين الإسلام كمشروع يحمل الخيرية للبشرية، وبين حمير هو تلازم عضوي حدث في زمن بزوع الإسلام فأبهر العالم المحيط يومذاك، وحين حدث الانحراف من خلال التأسيس له في سقيفة بني ساعدة ومحاولة قريش استعادة دورها الاقتصادي، ومن ثم استعادة المجد والسيادة كما بدا مكتملاً في زمن الخليفة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- ليبلغ أوج كماله بخروج الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام من المعادلة الوجودية السياسية لتبدأ مرحلة التضليل وصياغة النصوص وتعزيز عوامل الصراع الوجودي وفق منظومة نصية قيمية تماهت قريش مع اليهود فيها لتبدع واقعاً متماهياً مع ماضيها وهو ما اصطلح عليه بالإسرائيليات فيما بعد، ثم كانت الفرق والصراعات كما يتحدث التاريخ، في ظل غياب حقيقي للحامل الحقيقي للمشروع الإسلامي.
وأمام كل تموجات اللحظة تبدو الحاجة إلى عودة الحلقة المفقودة إلى مكانها الطبيعي في المسار من ضرورات اللحظة التاريخية الفاصلة، وتلك الحلقة تحتاج وعياً بها، لا قفزاً على حقيقتها وفق طاقات انفعالية مدمرة .
لا نريد من احتفال أهل اليمن بالولاية أن يكون بهرجاً وحدثاً عابراً كما جرت وتجري العادة عليه بل نريد منه أن يشكل حالة انتقال حقيقي لمشروع سياسي ناهض قد يشكل نهج البلاغة للإمام علي عليه السلام مرتكزه وبنيته النظرية والفلسفية , فالولاية لا تكون بالتفاعل الوقتي مع الحدث بل بالقدرة على البناء والتفاعل والصناعة ليكون المستقبل أكثر رخاء وأكثر إنسانية من خلال المشروع السياسي والفكري والثقافي .
الاحتفال الحقيقي بالإمام علي يكون من خلال إبراز خصائص نهجه وأبعاده النظرية والفلسفية، ففيه من السبق الحضاري ما يقف العالم مبهورا أمامه بل ويتمثله كما تمثل مقولته عن الإنسانية الشهيرة : “الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق ..” فكانت نبراس العهود والمواثيق الإنسانية.
من خلال نهج البلاغة يمكننا أن نبني مشروعا ثقافياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً يبهر العالم لو أنفقنا جزءاً من المال والوقت للتأمل والقراءة في المنهج الفكري للإمام علي عليه السلام الذي عرف العالم عظمته ونحن نتعامل مع مشروعه كفكرة جامدة غير متحركة إذ لو تحركت لكان نفعها عظيماً على الإسلام والمسلمين في عالم يتكالب على الإسلام والمسلمين .
فكرة يوم الولاية ليست فكرة جامدة ولا هي ثابتة نستهلكها لغرض سياسي بل يفترض أن نجعل منها مرتكزاً نبني من خلاله واقعاً جديداً تبزغ من بين غيومه اليمن كمنارة مدنية تنير العالم بنورانية الإسلام بعد أن عملت القروية القرشية القائمة على العصبية والنفعية الدنيوية كل التمزقات والتشوهات في جسد الإسلام من خلال العمليات الإرهابية للجماعات الوهابية والسلفية المتطرفة.
نحن اليوم أمام مفترق طرق، إما أن تبزغ اليمن وإما أن تستمر فكرة الانحراف، ومعركتنا ليست في جبهات القتال وحدها بل في كل الجبهات إذا أردنا نصراً وتمكيناً، ونؤكد على الجبهة الثقافية فهي الحامل الحقيقي للنهوض، وحولنا تركيا يمكننا قراءة تجربتها بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا معها نقرأ التجربة وعواملها حتى نستفيد ما لم فدوننا تاريخ الأمم والشعوب، ففيه نجد بغيتنا، وحينها ندرك أن تعطيل البعد الثقافي هو تعطيل للنهضة ودوران في دائرة التيه.