سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن قافلة من ألف بعير قادمة من الشام تحمل ثروة هائلة يقودها أبو سفيان ومعه ثلاثون أو أربعون من قريش، فقال للمسلمين: هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله ينفِلُكُموها؛ فخف بعض الناس وثقُل بعضهم، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلقى حربا.
وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتحسس الأخبار، ويسأل من لقي من الركبان، تخوفا على أمر الناس، حتى أصاب خبرا من بعض الركبان: أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم قد استنفر أصحابه لك ولعيرك، فحذر عند ذلك فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم بأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم قد عرض لها، فخرج ضمضم سريعا إلى مكة فوصلها صارخا وقد جدَّع أنف بعيره وحول رحله وشق قميصه وهو يقول: يا معشر قريش: اللطيمةَ اللطيمة أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوثَ.
وتجهز الناس سراعا وقالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي (الذي قتل في سرية عبدالله بن جحش)، كلا والله َليعلمن غير ذلك، فكانوا بين رجلين: إما خارج وإما باعث مكانه رجلاً، ولم يتخلف من أشراف قريش أحد إلا أبو لهب تخلف واستأجر مكانه العاصي ابن هشام بن المغيرة بأربعة آلاف درهم كانت دينا عنده.
وأجمع أمية بن خلف على القعود، وكان شيخا جليلاً جسيما ثقيلاً، فأتاه عقبة بن أبي معيط وهو جالس في المسجد بين ظهراني قومه بمجمرة وقال: يا أبا علي استجمر فإنما أنت من النساء. فقال: قبحك الله وقبح ما جئت به، ثم تجهز فخرج مع الناس.
فلما أجمعوا على المسير ذكروا ما كان بينهم وبين بني بكر من الحرب فقالوا: إنا نخشى أن يأتونا من خلفنا، فكاد ذلك يثنيهم، فتبدى إبليس في صورة سراقة بن مالك المدلجي وكان من أشراف كنانة فقال لهم: أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه، فخرجوا سراعا.
استخلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة أبا لبابة، رده من الطريق، واستخلف على الصلاة ابن أم مكتوم، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير، وكان أبيض، ودفع رايتين سوداوين، إحداهما لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه، يقال لها العُقاب، والأخرى لبعض الأنصار (سعد بن معاذ رضي الله عنه)، وكان مع أصحابه سبعون من الإبل يعتقبونها، وكان عددهم ثلاثمائة أو يزيدون قليلاً، وكان علي ومرثد بن أبي مرثد الغنوي زميلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بعيره، يحاولان عبًثا أن يتنازلا عن حصتهما في الركوب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فيأبى ويقول: “ما أنتما بأقوى مني على المشي، وما أنا بأغنى منكما عن الأجر”، فيتقاسم معهما الركوب أثلاثًا.
بعث رجلين إلى بدر يتحسسان له الأخبار؛ فأتاه خبر مسير قريش.
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يستشير أصحابه في القتال:
نقَلَ صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه خبر مسير قريش، وحجم قوتها، وقال: أشيروا عليَّ أيها الناس فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال: وأحسن، ثم قام عمر فقال وأحسن، ثم قام المقداد فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ” فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ” ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك، ما تخلّفنا دونه حتى تبلغه”. فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيرا ودعا له به.
ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: “أشيروا علي أيها الناس”، وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم عدد الناس، وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصرة إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو خارج بلادهم، فلما قال ذلك قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ . قال: “أجل”.
قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة؛ فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا َلصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فَسِر بنا على بركة الله، فَسرّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقول سعد رضي الله عنه، ونشّطَه، ثم قال: “سيروا وابشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم”.
استطلاع أخبار قريش:
نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قريبا من بدر، فركب هو وأبو بكر رضي الله عنه حتى وقف على شيخ من العرب فسأله عن قريش، وعن محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وما بلغه عنهم، فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إذا أخبرتنا أخبرناك” قال: أذاك بذاك؟ قال: “نعم”، فقال الشيخ: فإنه بلغني أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذي أخبرني صدقني فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي فيه قريش فلما فرغ من خبره قال: ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “نحن من ماء” ثم انصرف عنه، فقال الشيخ: من ماء! أمن ماء العراق؟.
ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أصحابه، فلما أمسى بعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، في نفر من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الخبر، فأصابوا غلامين، فأتوا بهما فسألوهما ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يصلي، فقالا: نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم خبرهما ورجوا أن يكونا لأبي سفيان، فضربوهما، فلما أذلقوهما قالا: نحن لأبي سفيان، فتركوهما، فلما سلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من صلاته قال: إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذّباكم تركتموهما، صدقا والله إنهما لقريش، أخبراني عن قريش” قالا: هم والله وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “كم القوم؟” قالا: لا ندري . قال: “كم ينحرون كل يوم؟” قالا: يوما تسعا ويوما عشرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “القوم فيما بين التسعمائة والألف”، ثم قال لهما: “فمن فيهم من أشراف قريش؟” قالا: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث ابن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدي بن نوفل، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن عبد ود، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الناس فقال: “هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كَبِدِها”.
وكان بسبس بن عمرو، وعدي بن أبي الزّغباءَ اللذان أرسلهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتحسس الأخبار قد مضيا حتى نزلا بدرا فأناخا إلى تل قريب من الماء، ثم أخذا شنا لهما يستقيان فيه – ومجدي بن عمرو الجهني على الماء – فسمعا جاريتين تقول أحدهما لصاحبتها: إنما تأتي العير غدا أو بعد غد فأعمل لهم ثم أقضيك الذي لك، قال مجدي: صدقتِ. فأخبرا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما سمعا.
وأقبل أبو سفيان بن حرب يقدم العير حذرا حتى ورد الماء، فقال لمجدي: هل أحسست أحدا؟ قال: ما رأيت أحدا أنكره إلا راكبين أناخا إلى هذا التل، ثم انطلقا، فأتى أبو سفيان مناخهما فأخذ من أبعار بعيريهما ففته فإذا فيه النوى، فقال: هذه والله علائف يثرب، فرجع إلى أصحابه سريعا فضرب وجه العير عن الطريق، فساحل بها وترك بدرا على يساره.
عناد أبي جهل وشؤمه:
ولما أحرز أبو سفيان القافلة أرسل إلى قريش: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا أموالكم، فقد نجاها الله فارجعوا، فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرا – وكان بدر موسما من مواسم العرب، يجتمع لهم به سوق كل عام – فنقيم عليه ثلاثًا، فننحر الجزور ونطعم الطعام، ونسقى الخمر وتعزف علينا القيِان وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها، فاستخف قومه فأطاعوه.
الجمعان في بدر، ومشورة الحباب بن المنذر:
نزلت قريش بالعدوة الُقصوى من الوادي، وبعث الله السماء، وكان الوادي دهسا، فأصاب رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم وأصحابه منها ما لبد لهم الأرض ولم يمنعهم عن السير، وأصاب قريشا منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه، فترل رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم بمكان في بدر، فقال الحُباب: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟، قال: “بل هو الرأي والحرب والمكيدة” فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نغور ما وراءه من الُقلُب، ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم: “لقد أشرت بالرأي”، فنهض بالناس حتى نزل على أدنى ماء من القوم، ثم أمر بالُقلب فغورت، وبنى حوضا على القَليِب الذي نزل عليه، فملئ ماءَ، ثم قذفوا فيه الآنية.
بناء العريش:
قال سعد بن معاذ: يا نبي الله، ألا نبني لك عريشا تكون فيه، ونعِد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك يمنعك الله بهم، يناصحونك ويجاهدون معك، فأثنى عليه خيرا ودعا له، ثم بنِي عريش فكان فيه.
وفي الصباح رأى صلى الله وعليه وآله وسلم قريشا منحدرة إلى الوادي، فقال: “اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادّك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحنِهم الغداةَ”.
فلما نزل الناس أقبلَ نفر من قريش حتى وردوا حوض رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم ، فيهم حكيم بن حزام، فقال رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم: “دعوهم فما شرب منه رجل يومئذ إلا قتل، إلا ما كان من حكيمِ بن حزام، فإنه لم يقتل” ثم أسلم بعد ذلك فحسن إسلامه، فكان إذا اجتهد في يمينه قال: لا، والذي نجاني يوم بدر.
السعي في تفادي القتال:
ولما اطمأن القوم بعثوا عمير بن وهب الجُمحي فقالوا: احزر، لنا أصحاب محمد، فجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم فقال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلاً أو ينقصون، ولكن أمهلوني حتى أنظر ألِلْقَومِ كمين أو مدد؟ فضرب في الوادي حتى أبعد، فلم ير شيًئا فرجع إليهم فقال: ما وجدت شيًئا ولكني رأيت الَبلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع؛ قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتلَ رجل منهم حتى يقْتلَ رجلاً منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك فروا رأيكم؛ فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس، فأتى عتبةَ بن ربيعةَ فقال: يا أبا الوليد، إنك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها، هل لك ألا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر؟ قال: وماذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس وتحمل أمر حليفِك عمرو بن الحضرمي، قال: قد فعلت، أنت علي بذلك، إنما هو حليفي فَعلَي عقُله (أي ديته)، وما أصيب من ماله، فأت ابِن الحنظلية فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره.
ثم قام عتبة بن ربيعة خطيبا فقال: يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيًئا، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلاً من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وسائر العرب، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون.
صلف أبي جهل:
قال حكيم: فانطلقت حتى جئت أبا جهل فوجدته قد نَثل درعا له من جِرابها، فقلت له: إن عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا للذي قال، فقال: انتفخ والله سحره حين رأى محمدا وأصحابه، كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، ثم قال: إن عتبة لما رأى أن محمدا وأصحابه أكَلَه جزور وفيهم ابنه (أبو حذيفة)، فقد تخوفكم عليه، ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي، فقال: هذا حليُفك يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فأنشد خفْرتك ومقتل أخيك.
فقام عامر فكشف سوءته وصرخ واعمراه (يندب أخاه عمرا) فحميت الحرب، وحقِب أمر الناس، واستوسقوا على ما هم عليه من الشر، وخابت محاولة عتبة.
وخرج الأسود بن عبدالأسد المخزومي – وكان شرسا سيئ الخلق – فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه، أو لأموتن دونه، فلما خرج، خرج إليه حمزة بن عبدالمطلب فضربه فأطار قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحوضِ حتى اقتحم فيه، يريد أن يبِر بيمينِه فضربه حمزة حتى قتله في الحوض.
بداية المعركة:
غضب عتبة من كلام أبي جهل وقال: سيعلم غدا من الجبان، فخرج مع أخيه شيبةَ وابنه الوليد بن عتبة، فدعا إلى المبارزة، وقد تعمم إذ لم تجد مغفرا لضخامة هامته كما قيل، فخرج إليه عوف ومعوذ ابنا الحارث، وآخر يقال: إنه عبدالله بن رواحة، فقالوا: من أنتم؟ فقالوا: رهط من الأنصار، قالوا: ما لنا بكم من حاجة، ثم نادى مناديهم: يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فقال صلى الله وعليه وآله وسلم: “قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي” فلما دنوا منهم قالوا: من أنتم؟ فانتسبوا، فقالوا: نعم أكفاء كرام.
وبارز عبيدةُ – وكان أسنَّ القوم – عتبةَ بن ربيعة فأثبت كلاهما صاحبه، وبارز حمزةُ شيبةَ فقتله، وبارز علي الوليد فقتله، وكر حمزةُ وعلي على عتبةَ فذفَّفا عليه واحتملا صاحبهما.
ثم تزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض، وقد أمر صلى الله وعليه وآله وسلم أصحابه ألا يحملوا حتى يأمرهم، وقال: “إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل، ثم خرج رسول الله من العريش إلى الصفوف يعدّلهُا، تاليا قوله تعالى: ” إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ ” وقال صلى الله وعليه وآله وسلم لأصحابه محرضا لهم ملهبا حماسهم: “والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة”، فقال عمير بن الحُمام، أخو بني سلمة، وفي يده تمرات يأكلهن: بخ بخ، أفما بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء! ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل.
ثم مر صلى الله وعليه وآله وسلم وهو يسوي الصفوف وسواد بن غَزِية منفتلاً عن الصف، فطعن في بطنه بالقدح، وقال: “استوِ يا سواد”، فقال: يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل، فأقِدني؛ فكشف صلى الله وعليه وآله وسلم عن بطنه، وقال: “استقِد”؛ فاعتنقه فقبل بطنه، فقال صلى الله وعليه وآله وسلم: “ما حملك على هذا؟” قال: قد حضر ما ترى فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك؛ فدعا له بخير.
رجع رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم إلى العريش رافعا كفيه داعيا ربه، قائلا: “اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد”، وأبو بكر رضي الله عنه ملازم له في العريش يقول: بعض مناشدتك ربك فإنه منجز لك ما وعدك، فنعس صلى الله وعليه وآله وسلم ثم انتبه فقال: “ابشر يا أبا بكر أتى نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثنايا النقع”.
وفي المقابل أبو جهل يدعو على محمد صلى الله وعليه وآله وسلم قائلاً: اللهم إنه قطع الرحم، وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة. فكان هو المستفتح.
ثم إن رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم أخذ حفنة من الحصباء فرمى بها قريشا وقال: “شاهتِ الوجوه”، وأمر أصحابه فقال: “شدوا”، فكانت الهزيمة فُقتل من صناديد قريش وأشرافهم سبعون وأسر مثلهم.
عن ابن عباس أن النبي صلى الله وعليه وآله وسلم قال لأصحابه يومئذ: “إن رجالاً من بني هاشم وغيرهم أخرجوا كرها، لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله ومن لقي أبا البختري فلا يقتله، ومن لقي العباس بن عبدالمطلب فلا يقتله”، فقال أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة: أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشيرتنا ونترك العباس؟، والله لئن لقيته لألحِمنه السيف، فبلغت رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم فقال لعمر بن الخطاب: “يا أبا حفص، أيضب وجه عم رسول الله بالسيف؟” فقال عمر: يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه بالسيف فوالله لقد نافق، فكان أبو حذيفة يقول: ما أنا بآمنٍ من تلك الكلمة التي قلت يومئذ، ولا أزال منها خائفًا إلا أن تكفرها عني الشهادة، فقتل رحمه الله يوم اليمامة شهيدا، ولم تقاتل الملائكُة في يومٍ سوى بدر، وإنما يكونون عددا ومددا لا يقاتلون.
مصرع أبي جهل:
فلما فرغ رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم من عدوه أمر أن يلتمس أبو جهل في القتلى قال ابن مسعود: فاحتززت رأسه ثم جئت به رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم ؛ فحمد الله، وأمر بالقتلى فطرحوا في القليب، إلا أمية بن خلف فغيبوه مكانه لأنه قد انتفخ في درعه فملأها.
ثم وقف الرسول صلى الله وعليه وآله وسلم على أهل القليب ونادى رجالا بأسمائهم فقال: “هل وجدتم ما وعد ربكم حقًا، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقًا؟” فقال المسلمون: يا رسول الله، أتنادي قوما قد جيفوا؟ قال: “ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني”.
اختلاف المسلمين حول المغنم:
جمعت الغنائم، واختلف المسلمون فقال من جمعها: لنا، وقال المقاتلون: لنا، وقال الحارسون لرسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم: لنا، قال بعض الصحابة: حتى ساءت أخلاقنا، فنزلت سورة الأنفال، فأخرج رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم الخمس فقسَّمه على المسلمين بالسواء.
وفي طريقه إلى المدينة ومعه الأسرى أمر عليا كرم الله وجهه بقتل النضر بن الحارث، ثم أمر عاصم بن ثابت بقتل عقبة بن أبي معيط، فقال عقبة: فمن للصبية يا محمد؟ قال: النار، ثم فرق الأسارى بين أصحابه وقال: استوصوا بهم خيرا، وقد أكثر المستشرقون الطعن على رسول الله لقتله الأسيرين، وتناسوا مذابح الصليبيين عبر تاريخهم الأسود، وظلوا يتباكون على أسيرين مجرمين قد ارتكبا كل الفظائع.
قريش تفدي أسراها:
وافق النبي صلى الله وعليه وآله وسلم على فداء الأسرى، وقدره أربعة آلاف درهم إلى ألف، إلا من أطلِق بدون فداء ممن لا مال له، فإن كان يجيد القراءة والكتابة كُلَّف بتعليم عشرة من غلمان المدينة. وقد عاتبه القرآن على هذا: ” مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ ” وقد كان الصواب قتلهم؛ لأنهم شياطين قريش، وينبغي أن لا تضيع فرصة ثمينة ساقها الله لنبيه، والذي يظهر أن الله سبحانه وتعالى ترك لنبيه أن يجتهد حتى وإن عاتبه في كتابه، وقد كان رأي عمر رضي الله عنه أن يقتلوا، وطلب من الرسول صلى الله وعليه وآله وسلم أن تترع ثنايا سهيل بن عمرو، ويدلع لسانه، فلا يقوم خطيبا في أذية رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم ، فقال صلى الله وعليه وآله وسلم: “لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبيا، وسيقوم مقاما تحمده يا عمر”.
زينب رضي الله عنها تفدي زوجها العاص:
كان في الأسرى أبو العاص بن الربيع بن عبدالعزى زوج زينب بنت رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم ، وقد أقامت معه على إسلامها وهو على شركه حتى هاجرت، ولما فدى أهل مكة أسراهم بعثت زينب في فداء زوجها بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة رضي الله عنها أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى عليها، فلما رآها رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم رق لها رقة شديدة وقال: “إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها ما لها فافعلوا”، فقالوا: نعم يا رسول الله، فاطلقوه وردوا عليها الذي لها، لكنه صلى الله وعليه وآله وسلم اشترط على أبي العاص أن يترك زينب تهاجر إلى المدينة، ففعل، ولما أسلم ردها عليه بنكاحها الأول.
الدروس والعبر:
كانت قوة المسلمين في بدر قليلة العدد والعدة قياسا بقوة قريش التي تفوقهم ثلاثة أضعاف، مسلحين تسليحا كاملاً، فلا أمل للنصر بالمقياس المادي، ولكن هناك اعتبارات أخرى:
١- المسلمون تحركهم مشاعر العقيدة، وتحفزهم الجنة لاعتناق الشهادة، وهذه الشحنات الإيمانية عامل تفوقٍ لدى المقاتل المسلم.
٢- النبي صلى الله وعليه وآله وسلم والمهاجرون أخرجوا من ديارهم، ونكَّلَ بهم؛ فهم موتورون مظلومون، سلِبوا كل شيء، فليس وراءهم ما يخافون عليه، وقريش ظالمة، ومن سلَّ سيف البغي قتل به، وعلى الباغي تدور الدوائر.
٣- الأنصار وجدوا أنفسهم أمام أول تجربة في حماية رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم ونصرته، فكان قتالهم شديد الضراوة.
٤- النبي صلى الله وعليه وآله وسلم ومن معه يذكرون الله تعالى ويسألونه العون بأدب جم، ويسعون لإصلاح الفساد في الأرض، وعبادة الله وحده، وأبو جهل وقومه يخطرون خيلاء، ويقول لهم: لا نرجع حتى نشرب الخمر ببدر، وتعزف علينا القيان، فالفارق كبير بين اللهو والجد.
٥- النبي صلى الله وعليه وآله وسلم وأصحابه رضي الله عنهم يقاتلون قتال المستميت فإما النصر وإما الشهادة؛ فهي أول مواجهة لهم، إن انهزموا فيها فقد حكموا على أنفسهم بالإعدام، فلا فرق بين الموت والبقاء؛ لذا فقتالهم مختلف عن قتال قريش.
٦- المسلمون موصولون بالله، واثقون بنصره؛ فمعنوياتهم عالية.
٧- النبي صلى الله وعليه وآله وسلم أدار المعركة إدارة بارعة، وراعى كل العوامل المادية والمعنوية لكسب المعركة، فقد عبأ أصحابه تعبئة إيمانية فائقة، فأحس بهم وأحسوا به وامتزج بهم، وأصبح أغلى من أنفسهم، كما أنه استشارهم وطيَّب خواطرهم، وجعلهم هم الذين يقررون الإقدام على القتال، ثم إن الرسول صلى الله وعليه وآله وسلم وأصحابه سبقوا إلى الميدان فسيطروا على أرض القتال المناسبة، وتحكموا في الماء، وامتلكوا زمام المبادرة، هذه العوامل كلها عجّلت بالنصر، ووراء ذلك كله عناية الله بهم: ” وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ “، ” وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ “.
٧- كان بين المسلمين أبطال ضرباتهم فتاكة لا تقوم لهم قائمة، فقد قتل علي وحده إثنين وعشرين من كبار المشركين.
٨- الشورى أمان من الخطأ وحرز من الخطر وما سبب الكوارث عبر التاريخ أكثر من الاستبداد، ولا حوت القواميس أشأم منه، ” إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ” إن فساده هو استبداده والشعوب قد تصنع المستبد، فالفراعنة أنجبتها الطاعة العمياء ” فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ” وقد لاحقت لعنة الإستبداد قوم فرعون إلى يوم القيامة ” يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ” ، هذا العرض القرآني يحذر من سلوك الفراعنة ويزري على أتباعهم ويسجل في نفس الوقت موقف الإسلام الرافض لسلوك يجلب اللعنة ويوجب النقمة.
وحين يتحدث القرآن الكريم عن سلوك الملكة اليمنية بلقيس الشوروي يعرضه في صورة يخلب جمالها العقول، فالسيدة بلقيس جمعت قومها الأشداء وجندها الأبطال وأخبرتهم بكتاب نبي الله سليمان الصارم ” ِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ30 أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ” فقالت وهي تدرك أن دولتها ستذهب أدراج الرياح إن ارتكبت أي حماقة ولذلك أشركت شعبها في القرار الخطير ” قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ32 قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ” فأخبرتهم بطبائع الملوك الإستبدادية ” قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ” وإزاء هذا الامتحان الصعب بارك الله للملكة العظيمة توجهها إلى الشورى واستشارة قومها، ولما أجابوها بالطاعة وأخبروها عن الشدة والبأس لم تنتفخ غرورا وقد أسندوا إليها صلاحية القرار وحرية التصرف بل ازدادت شعورا بالمسؤولية إزاء هؤلاء الرجال الكرام المتحضرين فوفقها الله إلى الإسلام وصيانة قومها وأرضها.
والسياق القرآني لا يتوقف عند السرد التاريخي بل يدعو أتباعه إلى اعتناق هذه المبادئ وممارستها عملا يجنبهم الزلل والخوف والظلم ويحفظ لهم الاستقرار والعدل، وقد أمر الله نبيه صلى الله وعليه وآله وسلم بمشاورة أصحابه رغم تأييده بالوحي وعدم الخوف من الخطأ لكنه المبدأ الذي ينبغي أن يرشح بجوار كلمة التوحيد. قال لنبيه صلى الله وعليه وآله وسلم: “وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ” وها هو النبي صلى الله وعليه وآله وسلم يكرر قوله لجيشه قبل معركة بدر “أشيروا علي أيها” الناس فما دخل ساحة المعركة حتى اطمأن إلى إجماع جيشه المبارك.
وقد استمع لرأي جندي مسلم طلب من النبي صلى الله وعليه وآله وسلم تغيير المكان إن لم يكن بأمر من الله واستصوب رأيه وبادر فورا للعمل بمشورته، وفي أحد ظل يشاور أصحابه حول البقاء في المدينة أو قتال المشركين خارجها ،فانصاع لرأي الأغلبية، وكان مخالفا لرأيه صلوات الله عليه وآله وسلم.
من كتاب السيرة النبوية للشهيد العلامة الدكتور / المرتضى المحطوري