الصيـــن.. خارطة استثنائية من الثقافة والنماء


محمد محمد إبراهيم –

ثمة مفارقات تعيشها المجتمعات دون الإحساس بعامل سرعة الزمن وفلسفة التاريخ في التقاط مسار التحولات في حياة الشعوب والأمم عبر خارطة العالم المترامي الصراع والتنافس حول بؤر الثروات. وحين يكون الزمن قد لاك عمر جيل بكامله تحت عجلة مساره ينتبه الإنسان لجوهر هذه المفارقات المرتكزة على معادلة احترام الوقت وتقديس العمل والإنتاج.

هذا ما استشففته وأنا أتصفح كتاب “رحلة إلى الصين” للأديب والإعلامي اليمني شائف الحسيني. من أول المفارقات التي تعمد المؤلف أن يفتح للقارئ من خلالها أفقاٍ إنسانيا يتجاوز عتبات الصراع المشهود في بلدان العالم الثالث هو تساؤله في مقدمة كتابه الذي صدر في ثلاثمائة  صفحة من القطع المتوسط: “لماذا الصين¿ كنت على الدوام أفكر وأسأل نفسي: يا ترى كيف يعيش الصينيون في هذا الحالة الرائعة من الانسجام والوئام والهدوء قلِ وجودها في كثيرُ من البلدان وهم يشكلون أكبر حجم سكاني في العالم (مليار وثلاثمائة وثمانية وعشرون مليون نسمة) ومساحة واسعة من الأرض (9.6 مليون كيلومتر مربع) ولا تسمع فيها عن حروب ولا مجاعة ولا منازعات ويوجد في هذا البلد 56 قومية”.
ويضيف الحسيني مؤصلاٍ تلك المفارقة بشكل مقارن: “بينما دول صغيرة في بعض بلدان ما يسمى بالعالم الثالث لا يصل عدد سكانها إلى سكان مديرية في الصين وهي منهكة من الحروب الأهلية ومشوهة من الدمار التخريب الذي حل بها أرضاٍ وإنساناٍ وكما أن الفقر يطحنها والمجاعة تقتل أطفالها وكل شيء قابل للنمو تم تدميره”.
وكأديب وإعلامي استطاع المؤلف من خلال تجواله في العديد من أبرز المدن والمعالم التاريخية الصينية الإمساك بخيوط وجذور التحولات التاريخية على الصْعدú الثقافية والسياسية والاقتصادية لكل ما شاهده مع تسجيل انطباعاته ومشاعره حيال ذلك بأسلوب سردي ناضح باللغة الروائية حيناٍ والإعلامية التفصيلية حيناٍ آخر وأحياناٍ يغدق على القارئ بتفاصيل ذات منحى بحثي يتكئ على مخزون معرفي عن مجريات التحولات الدولية.
بيجينغ.. المجمِع الأكبِر للصين
يحلق المؤلف في سماء حواضر أهم مدن الصين مثل: “شانغهاي” و”بيجينغ” ويغوص في جذور التراكم التاريخي لبنية المجتمع الصيني وقدرته على صياغة حضارة هذه المدن. ففي بيجينغ (بكين) يشتعل الكاتب شجناٍ وبحثاٍ عن البداية الأهم والأنسب للدخول في حلبة الكتابة عن مدينة هي عاصمة ما يقرب من مليار ونصف المليار نسمة. إنها عاصمة ربع سكان العالم مدينة مترامية الأطراف يتراكم فيها تراث الصين السياسي والإداري والعلمي وعاصمة الإمبراطوريات القديمة من أحفاد جنكيز خان (1215- 1294م) وأسرة “مينغ” و”تشينغ” كما أنها عاصمة الثورة الاشتراكية حولها ستة طرق دائرية ومجموعة حديثة من الجسور المعلقة والأنفاق الطويلة التي تمثل أوردة حية تحت الأرض ونابضة بملايين الصينيين الذين يتحركون من خلالها غدواٍ ورواحا.
المرور والسكان وناطحات تقام وأحياء تختفي وأسواق تحمل أسماء قديمة لكنها تحفل بعصر جديد من الحركة والإنتاج والاقتصاد والحرية التجارية وحكايات وتفاصيل أخرى عن البنية التحتية والمكون البشري لعاصمة الصين خلص المؤلف من خلالها إلى أن ما يعتمر داخل هذه المدينة العملاقة هو تزاوج بين القديم والحديث وتواصل بين الماضي والحاضر وطفرة اتكأت على ثقافة الاعتماد على الذات المختزلة في المثل الصيني الشهير: “لا تْعطي الفقير سمكة بل علمه كيف يصطادها”.
سور الصين العظيم.. الأمن قبل الخبز
عنوان مثل هذا يقودنا إلى أن الأمن يعد أساس كل حضارة وهذا ما أراده الكاتب من خلال فصل بعنوان (سور الصين العظيم.. الأمن لدى الصينيين قبل الخبز) مؤصلاٍ ثقافة الصينيين الدفاعية وحسهم الأمني من خلال استطراد متناهي التفاصيل التاريخية الجميلة عن أهم عجائب الدنيا هو سور الصين العظيم الذي لا يعكس قوة وبأس الصينيين في البناء والتشييد بقدر ما يختزل في تفاصيل إنجازه ثقافة أصيلة تقدس الأمن حيث كان الأمن في الماضي أولوية مطلقة فقد سعوا إلى تحقيقه بشتِى السبل. ويؤصل المؤلف تاريخياٍ هذا المنجز العظيم الذي بني عبر قرنين من الزمنº إذ لم يكن وليد فترة معينة حيث بدأ البناء فيه خلال القرن الخامس قبل الميلاد واستمر العمل متواصلا في الحْقِب اللاحقة وتعاقب الأباطرة على إنشائه حتى حقبة أسرة مينغ. كان الأباطرة يعتبرون أن ما يقومون به هو عمل عظيم لحماية الشعب الصيني حتى بلغ طول السور أكثر6400  كيلو متر. وخلال هذه المرحلة الطويلة والمسافة المكانية تشكلت انحناءاته مع تضاريس الجبال والتلال التي يجتازها هبوطاٍ وصعوداٍ. وفي عام 1978م أدرجته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) في قائمة التراث العالمي. وتبذل الحكومة الصينية جهوداٍ كبيرة للحفاظ على معالمه وصيانته بصورة مستمرة والترويج له بهدف الاستفادة الاقتصادية من عائدات السياحة. يقول المؤلف إن سور الصين العظيم كمعلم يعكس تراكم كبير من الجهود والإمكانات التي حشدها الصينيون عبر قرون لم يوفر الأمن الكامل محفزاٍ بذلك دوافع قيمية أخرى لدى الصينيين كقيم التعايش والتحاور مع الأقوام والأمم الأخرى التي اعتادت الغزو ليخلقوا من خلال هذا السلوك مصالح مشتركة مع تلك الأقوام ولكن الهدف الأسمى منها هو أمني في المقام الأول حيث نشروا المبادئ والقيم السلمية والوسطية في ثقافة وفكر الغزاة معتبراٍ الحفاظ علي سور الصين العظيم إلى اليوم سعياٍ ناجحاٍ لإبقائه رمزاٍ يذكر الصينيين بأهمية الحفاظ على الأمن كعتبة رئيسة للنهوض الاقتصادي والسياسي وهو ما نجح فيه الصينيون.
ثقافة اقتصادية
بعد بيجينغ انتقل المؤلف إلى شانغهاي مدينة الأحلام وبوابة المال والأعمال عبوراٍ من أبرز ثلاثة معالم تميز هذه المدينة وتختزل في اتساعاتها ومكوناتها ومعطيات الحاضر معاني الماضي الملقي بظله على اليوم وشيئاٍ من أحلام المستقبل. أول هذه المعالم شارع المال والأعمال (نانجينغ). وثانيها أحد الأحياء القديمة التي يعيش فيها السكان ضرباٍ من قسوة الماضي المتسم بالفقر فليس كل شيء جميل هنا على الإطلاق. وثالث هذه المعالم المدينة التجارية التي تعكس مستوى عالُ من مثابرة التجار وحركتهم التجارية وسط ذلك السيل الهائل من الزحام في هذا الحي التجاري الذي مثِلِ المرحلة الجديدة لما بعد الثورة الثقافية كصورة لجزءُ من واقع معاش في مدينة الأحلام مدينة المال والأعمال.
هكذا يقرب المؤلف الصورة الحالية والمظهر العام للصينيين من خلال الانطباعات المستندة على معادلة الواقع ومعطياته التي تلتقي فيها عناصر الزمن الثلاثةº الماضي والحاضر والمستقبل. لكن ما لفت انتباه المؤلف بعد تحليقه في فضاءات الدهشة لمدينة شانغهاي بحواضرها وناطحات سحابها وشوارعها العملاقة وحدائقها وإنسانها وبعد استطراده عن إكسبو  شانغهاي 2010 هو أن الصينيين يمتلكون ثقافة نادرة في توظيف مكونات الحياة ومظاهرها من حولها لما يعزز الفكر الاقتصادي الإنتاجي بالذات. حتى المناسبات تستغل استغلال مجدياٍ لتكريس ما يتصل بها على الصعيد الإنتاجي فالحفل الذي حضره المؤلف احتفالا بمرور أربعين  سنة على إرسال أول بعثة طبية صينية لليمن أقيم في مقاطعة آنهوي بهدف تكريس الشهرة الحقيقية لهذه المقاطعة التي أرسلت منها أول بعثة طبية إلى الجزء الجنوبي من اليمن إضافة إلى إن هذا المقاطعة مشهورة تاريخياٍ بالطب والصناعات الدوائية.
كما يسجل المؤلف تفاصيل شيقة حول رحلته للجبل الأصفر (هوانغشان) أحد أشهر المقاصد السياحية في الصين لما يحتويه من مكونات طبيعية وما يدور حوله من أساطير قديمة ومساحته الشاسعة وكذلك ارتفاعه عن سطح البحر أكثر من ألف وثمانمائة متر. وتتطرق إلى ثقافة الصينيين الترويجية في تقديم معالمهم السياحية من خلال تطوير الأفكار وتحويلها إلى واقع ملموس يعكس نفسه إيجاباٍ على نماء كل مقدرات البلد السياحية. كما يسجل في فصل آخر مظاهر التقاء الثقافة العربية الصينية من خلال موضوعين هما “صينيات بأزياء صومالية” و”يوم آخر في مهرجان الفن العربي في الصين”.
العلم والوقت.. المعادلة السحرية للنهوض
العنصر البشري هو محور دوران حياة التنمية ووقود النهوض ومتى نجحت الأنظمة في العالم في توجيه هذا العنصر وتكوينه معرفياٍ فثق بأنها ستجتاح العالم ما لم تسبقها نْظم أخرى بأساليب صناعة الكادر البشري واستغلال طاقاته الكامنة. ولإدراكهم لجوهر هذا المحرك الأساسي في الحياة بنى الصينيون معادلة في منتهى الدقةº ما أتقنتها أمةَ إلا واصلت بخْطى لا تخطئ طريقها إلى قلب العصر وصدارة الأمم. هذا المعادلة التي تلمس خيوطها المؤلف شائف الحسيني في كتابه “رحلة إلى الصين” مؤكداٍ إنها تقتضي (المعرفة+ الوقت+ العمل= النجاح والانجاز). هكذا سطعت المعادلة السحرية لبروز الصين كقوة اقتصادية عظمى أبرز المؤلف مظاهرها من خلال حديثه عن منتجات الصين التي تصل إلى كل بيت في معظم أرجاء العالم وبالأخص منها بلدان العالم الثالث. يقول الحسيني في رؤيته الذاتية عن الصين: “لا شك أن كل مكان زرناه قد أبهرنا بالجديد من الصناعة والتجارة وهيمنة الدولة وقوتها وهو ما طغى على ما يمكن رؤيته من السلبيات التي لا يخلو منها أي مجتمع غنياٍ أو فقيرا متطوراٍ أم متخلفاٍ فرأينا الصين الجديدة بلدا نحمل له بين جوانحنا محبة واعتزازاٍ فهو يقدم نموذجاٍ متميزاٍ في جوانب متعددة كالسياسة والاقتصاد والتطور العلمي والتقني.”
إذاٍ ما المعادلة السحرية التي رقت بالصين إلى هذا المستوى¿.. يقول المؤلف الحسيني في فصل آخر من كتابه تحت عنوان”التعليم طريق الصينيين في القرن الحادي والعشرين” إن الدولة كانت في العقود الماضية تضمن لكل متخرج في المدارس والجامعات فرص العمل والسكن والكل تحت مسؤولية الدولة لكنها اليوم مع سياسة الانفتاح وتدفق الاستثمارات الأجنبية ومشاركة القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي وإدارة القطاعات الاقتصادية في البلاد لم يعد كل شيء حكراٍ على الدولة في سوق تكاد تكون مفتوحة ومحكومة بالتنافس لذلك فإن التعليم هو من يحدد في هذه السوق التنافسية الأشخاص الجديرين بالتفوق والارتقاء.
المعرفة غاية أساسية والوقت وسيلة مقدسة للوصول إلى أعلى مراتب المعرفة.. لترجمة هذا المبدأ الصيني ركز المؤلف على ثقافة الصينيين في استغلال الوقت وعدم التفريط في دقيقة من حيث يقول: من هنا بدأ الشباب الصيني يتوجه نحو المزيد من الاهتمام برفع مستواه العلمي ويكرس كل فرد جهده ووقته للتحصيل المعرفي وفي نفس الوقت تقوم الدولة بتطوير وسائل ومناهج التعليم لتواكب التغيرات التي تجري في الصين ومحيطها العالمي باعتبار أن العلم هو مفتاح التطور على مستوى الأمة ومستوى الفرد.
وتلخيصاٍ لمستوى الإدراك المعرفي والوعي الانتاجي الذي وصل إليها الصينيون وحققوا من خلالها تلك النقلة النوعية يقول المؤلف: “لقد برهن الصينيون بما هم عليه اليوم من القوة والحياة المزدهرة والنمو الاقتصادي والعلمي والمعرفي المتعاظم عاما بعد عام ووصول بضائعهم ومنتجاتهم وثقافتهم إلى كل بيت في المعمورة تقريبا أنهم قد تجاوزوا انتكاساتهم في الماضي وصار وطنهم ساحة للعمل الشريف ومنبعا للعزة والكرامة والحياة السعيدة والرغدة بعد أن استيقظ المارد من سباته فلم تعد تلك المقولة الشهيرة عن نابليون بونابرت التي أطلقها ذات يوم: (الصين مارد نائم فدعوه نائماٍ لأنه إذا استيقظ هزِ العالم) سوى دعابة ترددها الألسن لا أقل ولا أكثر.

قد يعجبك ايضا