مكر التاريخ يتخلّق في النهايات

 

ملاحظات المبعوث الأممي على رؤية السلام التي قدمتها صنعاء تشبه الرد الرمادي لهنري كيسنجر على وثيقة مماثلة قدمها جيش التحرير الفيتنامي في السبعينيات
لجوء التحالف السعودي الأمريكي إلى التصعيد وتحريك الخلايا الإرهابية النائمة محاولة لكسب الوقت وتحسين أوراق دول العدوان ومرتزقتها

على امتداد الشهرين الماضيين حرصتُ على متابعة القنوات الفضائية اليمنية المستنسخة والمختطفة والموؤودة والنطيحة وما أكل الضبع ، وجميعها يشتغل بتمويل من دول العدوان والاحتلال بهدف ممارسة أعلى أشكال التضليل والحرب النفسية والدعاية السوداء ، بهدف إرباك المشهد السياسي والعسكري ، ورفع معنويات المرتزقة الذين يبحثون عن وميض ضوء خافت في نهاية النفق المظلم بعد خمس سنوات من الهزائم والخيبات والانكسارات.

احمد الحبيشي


اللافت للنظر أن الجهاز الإعلامي المأجور في هذه القنوات الضالة يكرر كالببغاء اسطوانة مشروخة تدعو الى الحسم العسكري وتسليم المدن والأسلحة الثقيلة والمعسكرات ، لحكومة المسطول الفار عبدربه منصور هادي المقيمة في حجر جماعي بفنادق الرياض ، منذ ست سنوات سابقة لظهور فيروس كورونا، الذي وصفه ثعلب السياسات الإستراتيجية الأمريكية هنري كيسنجر بأنه ليس جائحة عالمية فقط ، بل زلزالاً سيتغير تحت تأثيره النظام العالمي الذي انكشف ضعيفا وعاريا ، بعد ان فقد مناعة القطيع بحسب وصفه في مقال نشرته صحيفة (وورلد استريت جورنال ) الأمريكية أسبوعين!!
ربما تكون قناة (اليمن اليوم) الديسمبرية من القاهرة أكثر ولَعاً وخِدراً وتسويقا لأوهام الحل العسكري في جبهات الحديدة وتعز ونهم والجوف ومارب والبيضاء وصعدة ، لكن المُخدّرين بالصنف الذي يتعاطاه مرتزقة قنوات العدوان لا يخفون مشاعر اليأس والخيبة من الحصاد المر الذي تجرّعه مرتزقة العدوان على طول وعرض تراب الوطن اليمني الكبير طوال السنوات الخمس الماضية.
في الأسبوع الماضي استقبلت قناة (اليمن اليوم) الديسمبرية في القاهرة مكالمةً من شخصية عسكرية سعودية في الرياض ، وكان واضحاً من صاحب تلك المكالمة أنه يعمل قائداً في جهاز الاستخبارات العسكرية للجيش السعودي الغارق في مستنقع الحرب التي أوقعت السعودية في خسران مبين بعد أن أصبحت تبيع نفطاً رخيصا بأقل من سعر التكلفة ، وتُغلق السياحة الدينية التي كانت تدر على خزانة حروبها في المنطقة مليارات الدولارات.
استرعى انتباهي أن القائد العسكري السعودي قال لقناة (اليمن اليوم) الديسمبرية الضالة ، إنه يشاهد على مدار الساعة اربعين قناة فضائية يمنية (حرة) بحسب وصفه ، مشيرا الى أن الجبهة الإعلامية لما أسماها (الحكومة اليمنية الشرعية) تعمل بشكل أفضل من جيشها في الميدان ، لكنه استدرك قائلاً إن الساعات الأخيرة تشهد حراكا عسكريا بريا وجوياً متصاعدا في جبهات الساحل وتعز والبيضاء وقانية وناطع وعفار والزاهر وحرض ونهم والجوف ومارب وتعز،فيما يقوم طيران التحالف (العربي) بقصف مكثف على مخازن الأسلحة والصواريخ ومراكز القيادة والتوجيه في قلب العاصمة صنعاء، حسب زعمه.
مما له دلالة أن يتزامن اتصال القائد العسكري السعودي بما تُسمى قناة (اليمن اليوم) الديسمبرية الضالة في القاهرة ، مع قيام طيران العدوان الأمريكي السعودي بشن مئات الغارات الجوية على محافظتي مأرب والجوف ومديرية نهم ومحافظة البيضاء.
كما تم رصد عشرات الخروقات لقوى العدوان في محافظة الحديدة خلال الأسبوع الماضي ، والتي شملت اعتداءات على موقع رقابة كيلو 16 الذي يربط الطريق العام بين صنعاء والحديدة ، فيما شن طيران العدوان أكثر من 50 غارة على مديرية صرواح.
لا ريب في أن لجوء قوات التحالف السعودي الأمريكي الى تكثيف القصف الجوي والزحوفات البرية الانتحارية وتحريك بعض الجبهات النائمة ، وإرسال قوافل عسكرية إلى معاقل خلايا تنظيم القاعدة وأنصار الشريعة وداعش في الزاهر وقانية وناطع بمحافظة البيضاء ، يندرج ضمن المراهنة على العمليات الانتحارية الاستعراضية قصيرة النفس ، في ظل التسابق المحموم على كسب الوقت ، وتحسين أوراق دول العدوان ومرتزقتها ، بعد أن أصبح المجتمع الدولي غير مقتنع باستمرار الخيار العسكري.
في هذا السياق أعلن السفير الروسي لدى اليمن ، فلاديمير ديدوشكين ، أن طرفي النزاع في اليمن يخططان لعقد محادثات بصيغة قناة تلفزيونية مغلقة (أونلاين) قريبا جدا.
وقال السفير ديدوشكين في تصريح لوكالة تاس الروسية : “لم يتوقف كل شيء، فعلى الرغم من الوباء لا تزال العملية السياسية اليمنية مستمرة”.
وأضاف: “بغض النظر عن الأعمال القتالية المتواصلة في مختلف أنحاء البلاد، فإن طرفي النزاع مستعدان للحوار”.
ولفت إلى أن المبعوث الأممي، مارتن غريفيث، هو الذي يقوم بالعمل الأساسي، عبر اتصالاته مع ممثلي طرفي الصراع.
وأشار إلى أن المهمة الرئيسية التي يتعين على الطرفين اليمنيين إنجازها في ظروف التوتر العسكري الراهن هي وقف إطلاق النار في عموم أراضي البلاد ، مؤكدا على أن المهمة الثانية هي استئناف العملية التفاوضية والتسوية السياسية وحل المشكلات الإنسانية و تبادل الأسرى، بحسب وكالة تاس الروسية.
ونوّه إلى أن سفراء الدول الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن الدولي (روسيا، الولايات المتحدة، الصين، فرنسا، بريطانيا) سيجرون عبر قناة تلفزيونية مغلقة ، لقاء مع الأستاذ محمد عبدالسلام المفاوض باسم حكومة صنعاء ، بالإضافة إلى وزير خارجية حكومة عبدربه منصور المقيم في الرياض محمد عبدالله الحضرمي، بهدف تبادل الآراء حول سبل إنهاء الأزمة اليمنية.
من جانبه قال السفير البريطاني لدى اليمن ، مايكل آرون، في خديث متلفز، إن الحاجة باتت مُلحّة اليوم لاتفاق سياسي شامل يوقف الحرب في كل الجبهات باليمن ، مؤكداً على أن الواقع تجاوز المرجعيات المنصوص عليها في القرار 2216 واتفاق ستوكهولم ، وهو ما طالب به الأستاذ محمد علي الحوثي عضو المجلس السياسي الأعلى في تغريدة على حسابه بتويتر مؤخرا.
وأكد السفير آرون على أن اتفاق ستوكهولم كان جيداً في وقته ، مشيراً إلى أن الواقع تغير اليوم ولم يعد كما كان قبل نجاج قوات صنعاء في استعادة جبهة نهم والجوف والتقدم نحو مدينة مأرب!!
وأضاف: الموقف تغير اليوم ، حيث تحتاج كافة الأطراف الى جدية في الوصول إلى اتفاق سياسي شامل ينهي الحرب في جميع الجبهات.
وقال ارون: “أنا أفهم موقف بعض الذين يريدون تقدماً أكثر في هذا المجال على ضوء تفاهمات ستوكهولم ، لكن كثيراً من الأمور تغيرت منذ اتفاق ستوكهولم، فقبل سنة كان الإماراتيون موجودين على الأرض، وقد انسحبوا الآن، و ليسوا في الميدان، كذلك كان هناك تغير مهم في الموقف السعودي فيما يخص وقف الحرب، إلى جانب القتال الذي حصل في الجنوب، و بعده اتفاق الرياض!!
وتابع السفير البريطاني قائلا : “لذلك يمكن القول إن اتفاق ستوكهولم كان مهماً قبل سنة ، ورأينا تقدماً نسبياً لوقف إطلاق النار في الحديدة ، لكن الآن تغير الموقف ، ونحن نحتاج جهوداً من كل الأطراف للوصول إلى اتفاق سياسي شامل، و ليس محدداً بالحديدة أو تعز فقط، نحتاج وقف الحرب تماماً في كل الجبهات ، وهذا يحتاج مفاوضات جدية بين الأطراف على أسس واقعية..
ووفقاً للسفير البريطاني، “كانت هناك فترة من الهدوء وإن كانت قليلة لكنها مهمة، لم تشهد إطلاق صواريخ أو طائرات من دون طيار أو قصفاً جوياً. كانت تهدئة ناجحة ، ولكن رأينا في نهم هجوماً والقتال الذي تلا ذلك ، وإطلاق صواريخ في مأرب وسقوط الجوف والاستيلاء على معدات عسكرية ضخمة وأسلحة نوعية ومتطورة تركتها القوات الحكومية (الشرعية) في الميدان قبل انسحابها واستسلامها ، وهذا يعني أننا لسنا في نهاية الحرب ، بل نحتاج إلى جهود أكثر من كل الأطراف في هذا الصدد.
ولفت إلى أنه من الواضح أن الشعب اليمني يريد السلام، والمجتمع الدولي يريد السلام، بما فيه السعودية ودول التحالف!!
وفي هذه الأثناء جاءت مبادرة المجلس السياسي الأعلى وسلطة صنعاء بشأن ضرورة التوافق على رؤية حل سياسي يوقف الحرب وفق مرجعيات واقعية جديدة ، ليشكل استجابة جادة وفاعلة لكل هذه التحديات والمتغيرات.
كيف قرأ غريفث رؤية صنعاء؟
من يحلل ملاحظات المبعوث الأممي على وثيقة الرؤية التي تقدمت بها صنعاء لوقف الحرب ورفع الحصار وتدشين عملية التسوية السياسية ، يتذكر الرد الرمادي لهنري كيسنجر على وثيقة مماثلة تقدم بها جيش التحرير الوطني الفيتنامي في منتصف سبعينيات القرن العشرين ، والتي تشبه إلى حد كبير وثيقة السلام التي سلمتها حكومة صنعاء للأمم المتحدة في الشهر الماضي.
صحيح أن روبرت مكنمارا وزير الدفاع الأمريكي أثناء الحرب على فيتنام ، رد على وثيقة كيسنجر بتصعيد هستيري للعمليات العسكرية على الشعب الفيتنامي برا وجوا وبحرا على نحو ما يحدث في الحرب على اليمن هذه الأيام.. لكن ذلك التصعيد كان يتزامن مع التحضير غير المعلن لمفاوضات السلام في باريس عام 1975م ، جنبا إلى جنب مع التخلي الأمريكي البريطاني عن ما كانت تسمى (الحكومة الشرعية) للرئيس فإن ثيو التي لاذت بالفرار إلى تايوان وكوريا الجنوبية والفلبين بعد نجاح مفاوضات السلام في باريس وانسحاب القوات الأمريكية من فيتنام وخليج تونكين..!!
يتساءل المبعوث الأممي إلى اليمن مارتن غريفيث عن أسباب اصرار وثيقة السلام المقدمة من حكومة صنعاء على تجاهل ما أسماها (الحكومة الشرعية)؟
ويكرر ما قاله مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة غونار إلى فيتنام في السبعينيات والذي كان يصر على أن الحرب في فيتنام تدور بين طرفين فقط هما الحكومة الشرعية و(المتمردين الفيتكونج) ، مستبعدا دور التحالف السباعي بقيادة أمريكا وبريطانيا ، بينما بدأ الأمريكيون يفقدون الثقة بقدرة حكومة فان ثيو على الصمود!!
كان القرار الحاسم بيد الشعب الفيتنامي الذي كبّد تحالف العدوان السباعي بقيادة أمريكا وبريطانيا هزائم منكرة على الأرض ، وجاء كيسنجر بعد ذلك ليعترف بهشاشة وفساد حكومة فان ثيو وما يسمى (جيشها الوطني) الذي كان يبيع ما تيسر من أسلحته قبل أن ينسحب من ميادين القتال.
قرر كيسنجر انطلاقا من مكر التاريخ ضرورة الإعتراف بجيش التحرير الوطني الفيتنامي ، حيث اختفى بعد ذلك دور الأمم المتحدة تدريجيا..
كان التحالف السُّباعي الذي حارب في فيتنام تحت شعار (دعم الحكومة الشرعية) ، يتكون من أمريكا وبريطانيا وكوريا الجنوبية واستراليا ولاوس والفلبين ونيوزلندا.
بعد سنوات مريرة من الصمود الأسطوري ، تمكن جيش التحرير الوطني الفيتنامي من تفكيك حكومة فإن ثيو وتدمير جيشها المرتزق الذي وصل فساده إلى البنتاجون ، ووسائل الإعلام الأوروبية والأمريكية.
كان مندوب الأمم المتحدة مبرمجا على قرارات مجلس الأمن الدولي التي امتنع الاتحاد السوفييتي عن التصويت لها ، لكن ذلك لم يكن ينقضها على نحو ما حدث في القرار رقم 2216 بشأن التدخل العسكري الخارجي في اليمن.
بدأ الأمريكيون في عهد الرئيس نيكسون ووزير خارجيته هنري كيسنجر ، بإعادة قراءة أوراق القضية الفيتنامية في ضوء المتغيرات والمعادلات الجديدة التي حدثت على امتداد سنوات الصبر والصمود.
قال كيسنجر حينها (ليس عيبا أن نعترف بفشلنا في فيتنام بعد أن راهنت واشنطن على دمى ميتة وتجار حروب فاسدين وسياسيين انتهازيين في فيتنام).
من جانبهم انفتح الوطنيون الفيتناميون على توجهات الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون ووزير خارجيته هنري كيسنجر ، وتقدموا بخطة للسلام تستبعد أي تفاوض مع ما كانت تسمى (الحكومة الشرعية) ، لكن الخطة كانت منفتحة على خطوط أخرى موازية في قيادة الجيش العميل والجهاز الإداري للحكومة السابقة.
أحالت الحكومة الأمريكية خطة السلام الفيتنامية إلى المبعوث الأممي لأنها كانت تعرف أن وظيفته مبرمجة وفق قرارات الأمم المتحدة التي عفا عليها الزمن ، وأصبحت غير ممكنة التنفيذ ، لكن وزارة الخارجية الأمريكية أنشأت خطوطا مباشرة في بداية الأمر للتفاهم المباشر مع الثوار الفيتناميين على الأرض وممثلهم في باريس.
كان البنتاجون منقسما في الموقف من هذه النهايات ، لكنه كان موحدا في الموقف من ضرورة حماية أرواح الجنود الأمريكيين الذين يموتون يوميا في حرب عبثية يستفيد منها الفاسدون وتجار الحروب ومصاصو الدماء.
عرض مكنمارا بالمقابل سيناريوهات مأزومة للنهايات ، تمثلت بتصعيد هستيري للعمليات العسكرية جوا وبرا وبحرا ، بهدف إجبار جيش التحرير الوطني الفيتنامي على تعديل خطته للسلام وقبول التفاوض المباشر مع ما كانت تُسمّى (الحكومة الشرعية) ، لكن الثوار الفيتناميين صمدوا ببسالة ، وقاموا بتصعيد عملياتهم في الساحل الجنوبي والشرقي لخليج تونكين الذي يعتبر ممرا حيويا للتجارة العالمية في بحر الصين الجنوبي ، حيث تم إغلاق جزئي للخليج ، وأسر وإعطاب بعض السفن الحربية الأمريكية.
طلب كيسنجر من مفاوضيه الفيتناميين إطلاق سراح كل الأسرى التابعين للبحرية الأمريكية والبوارج المعطوبة ، ووقف التقدم نحو مدينة سايجون ، مقابل إضفاء طابع علني ورسمي على تلك المفاوضات برعاية فرنسا ، مع عدم إعلان موقف سلبي ضد خطة السلام الفيتنامية التي كانت تصر على أن تكون المفاوضات مباشرة بين أمريكا وجيش التحرير الوطني الفيتنامي في باريس.
بعد ذلك توقف التصعيد المتبادل ، واعلنت واشنطن قبولها لخطة السلام الفيتنامية بعد أن أدخلت عليها كافة الأطراف تعديلات تقنية تتعلق بعدم انتهاك حقوق الإنسان ، وتوفير ضمانات لاحترام حقوق الخدمة المدنية والعسكرية للموظفين والجنود المتورطين في دعم ما كانت تسمى (الحكومة الشرعية) و(جيشها الوطني) الفاسد..!!
وافق الفيتناميون على كافة التعديلات التي تقدم بها الأمريكيون من خلال الأمم المتحدة باستثناء وقف التقدم نحو مدينة سايجون.
في العشرين من شهر ابريل 1975م اقتحم الجنرال نجوين جياب قائد جيش التحرير الوطني الفيتنامي مدينة سايجون ، إيذانا ببدء مفاوضات السلام المباشرة مع أمريكا وحلفائها في باريس.
وفي الثلاثين من ابريل 1975م، تم التوقيع في باريس على اتفاقية السلام في فيتنام ، واعترف العالم باستقلال ووحدة فيتنام ، فيما أعلن روبرت مكنمارا وزير البنتاجون الأمريكي بدء عمليات انسحاب القوات الأمريكية من فيتنام.

قد يعجبك ايضا