الغربي عمران
دوافع مقتل “رمزي”، والذي سبقه مقتل عمه مارجريت “نرجس”، تلك الجرائم تقودنا الكاتبة آية ياسر من خلالها، إلى سلسلة أخرى لجرائم سمتها الغموض والرموز السرية.
الرواية أساسها ماضي الشابة مارجريت، وما عاشته من وقائع لا تناسب سنها في أسرة مفككة، بداية من أم روسية، مرورا بكفالة عمتها ورعاٍيتها لها حتى مقتلها، تصحبنا آية إلى أعماق مجتمع متخيل، قد يكون المجتمع المصري، وقد يكون أي مجتمع آخر، مجتمع يعيش تحت رجمة شريحة متسلطة، أدواتها سطوة المال والنفوذ، وسيلتها القتل والتصفيات في سبيل بلوغ أهدافها، منها الإثراء غير المشروع والتسلط والاستغلال، متجاوزة القوانين والقيم الإنسانية.
همس الأبواب عنوان مناسب لتلك الحكايات المتداخلة، والمتشعبة لشخصيات بسيطة، وأخرى مركبة، شخصيات عادية وأخرى تعيش على الجريمة وفرض الإرادة. ورغم تكاثر الشخصيات إلا أن الكاتبة استطاعت الإمساك بخيوطها بدراية، وإدارة، تلك الشخصيات وتشابك الأحداث وعلاقاتها بتلك الشخصيات، من لحظات الحدث الأولى إلى تطوره وتفرعه، وتلك الحبكات المتتالية لثيمات متعددة ضمن محور الجريمة والتسلط لطبقة تمتص ثروات البلد، ومن تلك الثيمات: العنف كحياة لطبقة يتحكم في علاقاتها المال والجريمة، دور القدرات الخارقة لبعض الشخصيات، وما يصاحبها من غموض، وتلك الخيوط المترابطة من جريمة إلى أخرى، أثر الماضي وسطوته على شخصيات العمل، الصراع على المال، النفوذ وعلاقاته بالفساد. امتداد أثر الأمس على مارجريت، إلى ياسر، وبقية الشخصيات، إلى غيرها من دوامات سردية مؤثرة، مثل الاغتصاب، المقابر، الصراع…
مارجريت بقدراتها الغامضة من استبصار، إلى قدرات أخرى ذاتية جعلت القارئ في موقف متأرجح بين التعاطف معها كضحية ماضٍ قاسٍ وحاضر تتحكم فيه، وبين أن تكون جلادة، خاصة في علاقتها بجاسر، ذلك السفاح المعتمد على مركز والده في الحزب الحاكم، والذي دأب على حل خلافته بالتصفيات المتتالية، واضعا علامته المميزة كأوشام على أجساد ضحاياه.
ذلك العدد من الشخصيات الرئيسة، إلى الثانوية والأقل من ثانوية عجت بها صفحات همس الأبواب، في تناغم لافت وعلى مدى ما يقارب الثلاثمائة صفحة، جعلتنا نتخيل مقدرة الكاتبة على التخيل، وذلك الأفق المكاني الذي محوره القاهرة، وان امتد إلى ضواحيها وطرقها الصحراوية، ثم إلى العالم الجديد امريكا وبالذات نيويورك، ذلك ما أعطى الرواية مجالا حيويا استخدمته الكاتبة بذكاء يبرز من خلال نفوذ شخصياتها، إضافة إلى موطن والدة ناتاشا “روسيا” لتقدم العالم كمدينة متشابكة اجتماعيا واقتصاديا، وكذلك تلك الطبقة المتنفذة التي لا تقتصر على مجتمع وكأنها سمة بشرية من التسلط والاستقواء.
جانب فني آخر، من خلال تقنية الذهاب بالسرد من الحاضر للماضي، والعودة، في حبكات تضيء جوانب شخصيات العمل وتلك العلاقات الشائكة بين إنسان الامس وإنسان الحاضر، وتغيره في إيقاع متسارع ومخيف.
البناء الحكائي المعتمد على حياة كل شخصية كجزر حكاية منفصلة، ومتصلة في القوت نفسه، استطاعت الكاتبة بتلك الفنية، تكوين لوحة سردية متكاملة بأسلوب رسم لوحات صغيرة لحيوات الشخصيات ضمن لوحة كبيرة أشبه بالجدارة الضخمة، بطلتها مارجريت التي أخذت المساحة الأكبر من خلال حكاية طفولتها وحاضرها، علاقاتها بالشخصيات الأخرى، والدتها الروسية، والدها، عمتها، صديق الطفولة، ثم بهاء وأخوه، علاقتها برأس النفوذ والسلطة جاسر، تلك الحكايات البانورامية مثلت أسلوباً يقودنا لمعرفة قدرة الكاتبة على نسج الحيوات الشيقة والمثيرة، بغض النظر عن الجانب الموضوعي جودته من عدمه، فقط ما يبهر هو القدرة على مزج الحكايات بإدهاش وتشويق جميل.
آية ياسر من خلال هذا العمل تبشر بكاتبة مقتدرة، مدركة لأدوات السرد، متمكنة من استخدامها بفنيات لافتة.
فحين نسجت من حدث قد يبدو بسيطا، جريمة قتل تقود إلى مزيد من الجرائم الأخرى، ضمن علاقات متشابكة لتلك الجرائم دوافعها مازجة بين المعقول واللا معقول في علاقة تلك الشخصيات وتطور تلك الأحداث، ما يدلل كل ذلك على أننا أمام كاتبة تصنع من حدث أو أحداث عارضة، عوالم من الإدهاش، فاضحة لمجتمع تتحكم فيه الجريمة المعتمد منفذوها على السلطة، ما يقودنا إلى التساؤل حول مستقبل ذلك المجتمع بسلطة يفترض أنها حارسة للعدالة، وبين سلطة هي الشر بعينه، بين عدالة تسود المجتمع وعدالة طبقة ترى أن كل الشعب يخصها تفعل بهم ما تشاء.
رواية تطرق باب الحدث البوليسي، بداية من شريحة تعيش وتقتات على التسلط والقوة، لتسلط الضوء على كافة شرائح المجتمع ومستقبله في ظل غياب معايير العدالة والمساواة، فبهاء وهاني ومازن ونزار وغيرهم يمثلون الطبقة الوسطى التي تؤمن بقيم العدل والخير والمساواة، وجاسر ورمزي، نماذج للحيتان أو السواطير سافكة للدماء.
من الصعب الإلمام بكل جوانب هذا العمل الذي يضع القارئ في مشاهد سينمائية متتالية، بل إنه يخيل له أثناء القراءة ، أنه يعيش أحداثاً سينمائية غاية في الإدهاش، فما بالنا لو أن هذا العمل يجد طريقه للشاشة الكبيرة.
ولذلك أكتفي بتحيتي لعمل يضعنا في سياقات عالم مخيف ومتغير، عالم منفلت لا يضع للقيم الإنسانية أي اعتبارات.