د.أسماء الشهاري
الشهداء هم من تُسبِّح الرمال تحت أقدامهم، وتنحني الجبال لشموخ هاماتهم، وتداعبهم الشمس بخيوطها الذهبية لتستمد ضياءها من وهّج أنوارهم..
عندما نتحدث عنهم فإننا نكتب بأحرف من نور، ومداد برائحة العطر الذي يستمد شذاه من طيب ذكراهم وممشاهم، نعم إنهم أولئك الشامخون الأباة.
إنَّ محور حديثنا اليوم هو ذلك المجاهد العظيم الذي لم توجد جبهة إلا ووطأتها قدماه الحافيتان الطاهرتان، فكان على الأعداء والطغاة ريحٌاً مرسلة يسلطها الله ببأسه الشديد فتقتلعهم وتجتثهم من الأرض اجتثاثاً.
ستجده هناك في الجوف وفي مارب وباب المندب وفي كل مكان يستوجب عليه واجبه الديني والوطني أن يكون فيه، حامياً الحِمى وليث العرين، وكأنّما هو أرواح في جسد مؤمن عظيم بِهمته وعزيمته واندفاعه وحماسه الجهادي والإيماني الخارق للعادة والمنقطع النظير.
وستراه ليس أخيراً في نهم مقاتلاً شرساً ومجاهداً مقداماً، يقتحم المواقع ويعتلي الجبال ويفرّ من أمامه العشرات، وتسقط تحت يدي بأسه المواقع وتتبعثر المزنجرات، فلا تزال روحه هناك تقاتل ولا تزال دماؤه من تحت الأرض براكين تتفجّرّ، ولا يزال هنالك الليث يزمجر ويصدح بصوته فاتحاً “الله أكبر”..
نعم هذا هو الشهيد البطل عبدالإله عبدالملك الغرباني” وكل الكلام في حقه وأمثاله من العظماء قليل.
تُرى هل هي الجبال والقفار وحدها تحن إليك، أم ماذا تركت في قلوب أحبائك من أسى لبفراقك أيها الفارس المقدام؟!
ومهما تكن مرارة الفقد لكنها ممزوجة بطعم العزة والإكبار للخالدين أمثالك.
نعم إنَّ الرائعين والعظماء يتركون فراغاً كبيراً في أرواح وقلوب من عشقوهم وعاشوا معهم، فتلك والدتك لا تزال إلى اليوم تناجي صورتك وأنت عريس وهي تتذكر كل مواقفك وقصصك والابتسامة ترتسم على محيّاها والدمعة تترقرق في مقلتيها، وكأنها تقول لو لم تكن بتلك الدرجة من الطاعة لها ربما لما شعرت بهذا الألم الذي يعتصر قلبها لكنها تستبشر بأنها قدمت بين يدي الله ورسوله وفداءً للوطن الغالي هذا القربان.
كذلك هنَّ أخواتك فقد كنت لهن نعم الأخ العزيز والغالي، فهكذا العظماء عظماء بأخلاقهم وبسلوكهم وفي كل نواحي حياتهم.
لكن لماذا والدتك لم تتخل عن صورتك وأنت عريس من بين يديها ولا من أمام ناظريها!
لأنها تعرف جيداً أنك لم تتهنَ ولم تسعد بعد في زواجك، فعلى الرغم من جهادك العظيم قبل عرسك إلا أن عشقك لساحات الكرامة والروحية العظيمة التي بين جنبيك لم تجعلك تظل مع عروسك طويلاً كما قد يفعل غيرك وكأنَّ الجهاد والوطن مسؤوليتك وحدك وكأنَّ البلد حُمّل على عاتقك دون سواك، ومن غير أن تلتفت للمتخاذلين من حولك.
ولأنها أيضاً ظلت تنتظر طويلاً علّها تحظى بأن تُلقي عليك نظرة الوداع الأخيرة، كما هو حال زوجتك وأخواتك وأحبائك.. لكن كما كنت دائماً تقول لزوجتك :
“سيأتي اليوم الذي أرجع فيه إليك شهيدا وقد يعود جسدي وقد لا يتبقى منه شيء ليعود”.
فهكذا كانت أمنيتك التي عشقتها وكانت تسري في دمائك وتتنفسها مع كل نسمة هواء، فبصدق ولائك لله وللوطن نلت ما تمنيت، فلتخلد هنيئاً منعما في عليائك.
فقد كانت زوجتك نعم الزوجة العظيمة المؤمنة المحتسبة والمجاهدة في كل الميادين بكل ما تستطيع والسائرة على درب جهادك، فها هي تقول في كل يوم بعد أن زفت روحك الطاهرة إلى معشوقتها الشهادة:
“هنيئا لك ما عشقته ونلته.. هنيئا لك الشهادة يا سيدي وتاج راسي.. ”
فهي تعرف أنها لن تفيك حقك من الكلمات مهما قالت وتحدثت، ولكنها حاولت أن تتكلم عن أبرز ما وجدت فيك من معانٍ سامية وأخلاق عظيمة وهي تشعر بكل الفخر والاعتزاز بكونها كانت زوجة رجل بمثل أخلاقك وعظمتك.
وها هي تقول:
شعوري هو شعور فخر وعزة بأنني كنت زوجة أحد الشهداء العظماء، شعور فخر ممزوج بحرقة وألم الفراق، حيث أن الحياة ولو للحظات مع العظماء تساوي آلاف السنين من الحياة مع سائر الناس، فهم ملائكة الأرض.
من هو الشهيد؟
فلنعرف أن الشهادة لا ينالها سوى من يستحقها فقد كان أبرز ما كان يتصف به الشهيد أنه:
– لا يمكن ليومه أن يخلو من قراءة القرآن والاستفراد به أو سماعه..
– كثير التسبيح والاستغفار..
– كان قليل الكلام قبل المغرب، فقد كان التسبيح بـ(سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله ،والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله..) يشغل لسانه وقلبه.
– كان أكثر أخوته طاعة وأحبهم إلى قلب أمه وأخواته..
– كان كريما كثير الإنفاق كثير التصدق، فلا يرد يد من سأله خائبة.
– كان صادقاً لا يخلف وعده، ويتعامل بتواضع مع الجميع وبالأخص مع إخوانه المجاهدين.
– كان متفانياً في عمله الجهادي مندفعاً فيه بكل جوارحه وإحساسه، وكان ممن وصفهم الله بقوله<< مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا>>
وها أنا أقول لك يا زوجي الغالي (لبيك يا شهيد، لبيك يا شهيد، لبيك يا عبدالإله) وأعاهدك أني على دربك ماضية إلى ان يأخذ الله أمانته”.