د. العمري وعناصر التميز ..
أحمد يحيى الديلمي
شدني كثيراً آخر كتاب قرأته لعالم التاريخ اليمني الكبير الاستاذ الدكتور حسين عبدالله العمري – أطال الله عمره – بعنوان (اليمن بين عهدين – ولاية عثمانية ودولة متوكلية) فلقد عكس حالة التجدد والأفق الواسع لمثقف واع باحث عن الحقيقة ينقل الوقائع كما هي ثابتة في المصادر الأصلية مع بعض الإضافات الهامشية التي يقصد بها تصحيح المعلومة إن كانت الأهواء قد زاغت بصاحبها إلى مكان بعيد عن الحقيقة وفق الثقافة العليلة التي تناسلت في بعض حقب التاريخ وحتمت الانحياز للسلطة ، فأكد الدكتور العمري تمسكه بنهج المصداقية والتعاطي مع تاريخ اليمن بتجرد جمع بين قيم الانتماء الصادق للوطن والمنهجية العلمية الهادفة إلى تنوير الأجيال ومدهم بتاريخ ناصع خال من مؤثرات التشويق والإثارة أو حالات المدح والذم ، هذه السمات ميزت الدكتور عن غيره وهي التي عادت بذاكرتي إلى الوراء قليلاً لاستحضار شهادة مبكره أفصح عنها المؤرخ والفقيه العلامة المرحوم عبدالله عبدالوهاب الشماحي ، عندما كنا في المحابشة على هامش اجتماعات لجنة إعداد دستور دولة الوحدة طلب مني المرحوم الأستاذ عمر الجاوي قراءة صفحات من كتاب تاريخ اليمن للعلامة الرازي الذي حققه الدكتور العمري وقد عقب القاضي الشماحي بقوله “لاشك أن الولد حسين سيبدع في هذا الجانب فلقد اكتملت لديه صفات النبوغ من زمن مبكر وصقلها بالدراسة الأكاديمية إلى جانب أنه انحدر من أسرة عريقة مشهود لها بالعلم وكانت تمتلك مكتبة زاخرة بأثمن الكتب إلا أنها حرقت للآسف ” انتهى كلام الشماحي ، العبارة الأخيرة أعادت إلى ذهني أسباب مسحة الحزن والألم التي كست وجه الدكتور حسين وهو يحدثني بمرارة عن أبشع جريمة أقدمت عليها القبائل بعد فشل انقلاب 1948م حيث أقدموا على حرق المكتبات ومنها مكتبة آل العمري الزاخرة بأنفس الكتب والمخطوطات النادرة ، للآسف هذه الحالة هي سبب الكثير مما نعانية لأن شهوة الحكم تجعل المتغلب يستبيح كل شيء لضمان استمراره بسبب جذور التخلف واستمرار نزعات التفرد فلقد حالت هذه الظاهرة دون حدوث التطور التاريخي بأبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية ودون تجذر منظومة قيمية سليمة حاكمة للسلوك ، وهذا ما أدركه الدكتور العمري بإحساسه العميق حيث استوعب التناقضات الموجودة في بطون الكتب وتعامل مع مشاهد التاريخ بوعي ومسؤولية لشد أذهان القارئ إلى أهم الحقائق الكفيلة بتحقيق الفائدة المرجوة من أغوار الماضي للاستفادة منها في رسم ملامح المستقبل بعيداً عن التوظيف الخاطئ الذي يستقطب المشاعر إلى مواقع غير سوية تؤدي إلى التهالك على السلطة واستباحة كل شيء من أجلها.
من يمعن في قراءة مؤلفات الدكتور العمري ببُعد وطني سيلاحظ الجهد الكبير الذي بذله في البحث عن المصادر من مكتبات ومتاحف خارجية كون مصادر التاريخ تعرضت للحرق أو التهريب أو البيع باثمان بخسه ، الموضوع يطول شرحه لأن كتب الدكتور العمري تجاوزت العشرات ولا يزال في حالة تجدد وشغف بالتاريخ يبحر في المصادر بذهن حاضر وثقافة أصيلة وأسلوب متميز ويتعاطى معها بطريقة المُلهم الحريص على ترجمة الولاء الصادق للوطن والحب العميق لتاريخه ، ما يحسب للدكتور أنه لم يصب بمرض شهوة السلطة ولم يسرع مهرولاً نحوها وكلما هرولت إليه يتخلى عنها ويعود إلى محرابه الفكري يستدعي ما غاب عن الأذهان من صفحات التاريخ .. نتمنى له طول الصحة والعافية والمزيد من الإبداع لفك طلاسم التراث بنفس المستوى الراقي والأفق البعيد الحريص كل الحرص على الحقيقة .. والله من وراء القصد ..