عبد الرحمن مراد
قراءة في ديوان “شعراء الغدير والولاية اليمانيون ”
الصراع سمة إنسانية ولها تجليات شتى على مدار التاريخ , والتاريخ الحربي للإنسان هو الاقدر على كشف الحقائق وفضح النقائض , وتظل الحقيقة التاريخية هي العنصر الذي يغيب فقد دلت متواليات التاريخ أن الحقيقة لم تكن هي معيار السلطة السياسية بل كانت مجموعة الحكايات التي يمكن توليدها فالتاريخ العربي تتلاشى فيه الحقيقة والمعرفة على حساب الحكاية وقد رأينا في سياقه وأخباره أن صاحب الحكايات هو الأشد تأثيرا وهو الأقدر على امتلاك الحقيقة وتكوينها كما يريد، فالواقع الذي نعيشه ليس إلا نتاج الوعي البشري بالعلاقات والحكايات على مدار التاريخ ولذلك تصبح الموجودات والفنون والآداب تجليا لمضامين وتوجهات تلك العلاقات والحكايات التاريخية.
فالمؤسسة الدينية التي تحتكر مفهوم المعرفة كانت تعتقد أن هناك شكلا واحدا للحقيقة يحوي خلاص الجميع ولم تدرك يوما أن الحقيقة نسبية وهي على علاقة تقاطعية مع الآخر ولذلك حدث الجدل الفكري وتعدد الواحد وتعددت التفسيرات , فالفلسفة وعلم الجمال هما الأقدر على تفسير الظواهر والعالم ذلك أن المعرفة التقليدية وفلسفتها تملك القدرة على التفسير الذي يخدم أهدافها الخاصة التي بالضرورة تتقاطع تقاطعا سياقيا مع أهداف البشرية وهذه الضرورة لا ترى في الواقع منتجا يتم بناؤه لغويا وسياسيا أو عبر النشاط الثقافي بل تراه واقعا موجودا خارج الوعي والنشاط البشري وقد يكون الوعي بالواقع وعيا جزئيا تبرزه العلاقات بين الموضوعات كونها نتيجة تفاعلية معه وجوهرها الداخلي الذي يكونها قد يكمن في الفنون التي يبدعها البشر والجماعات ولذلك كان حديثنا عن شعر الغدير والولاية في سياقه التتابعي غوصا في المتن الابداعي بحثا عن جوهر الحقيقة.
فنحن نقرأ في سياقات التاريخ المختلفة ظهور جماعات وطوائف عدة أفرزتها عوامل الصراع، انحرفت بها معتقداتها الى مزالق خطيرة وخدشت وجه الدين وأصوله وعقائده الثابتة، ذلك لكون «الأنا» كما يقول «علم النفس» تقوم بسلطة الإشراف على الحركة الإرادية نتيجة للعلاقة التي تتكون من قبل، بين الإدراك الحسي وحركة الواقع، ويتركز دور «الأنا» في حفظ الذات عن طريق تخزين الخبرات المتعلقة بها في (الذاكرة(وبتجنب المنبهات المفرطة عن طريق (الهرب) وبالتصرف في المنبهات المعتدلة عن طريق (التكيف) وأخيراً بتعلم عمل التعديلات المناسبة في العالم الخارجي وفقاً لمصلحة «الأنا» الخاصة عن طريق النشاط، وهو الأمر الذي حدث في سياقات التاريخ المختلفة ونتج عنه نشوء جماعات وطوائف أحدثت تعديلاً في عالمها الخارجي يتوافق ورؤية «الأنا» ومصالحها، ومايزال يحدث -كما لاحظنا ذلك- في جدليات الواقع العربي والاسلامي وسيظل يحدث طالما وكوننا النفسي تتجاذبه القوى الثلاث المتضادة «الهو» (سلطة الماضي) و«الأنا» (سلطة الواقع) و«الأنا العليا» (سلطة المثل والايديولوجيا).
وباستحضار المماثل التاريخي للحاضر من حيث المأساة كـ«كربلاء» مثلاً بما تحمله من بُعد إنساني مأساوي مدمّر نجد أنّ الذاكرة تمتلئ بمخزون معرفي عن «الواقعة» وبتفاصيل دقيقة وجزئيات مهمة تبعث الإحساس بالألم عن طريق زيادة التوتر الذي تحدثه المنبهات عن طريق «الهروب» و«التكيف» وصولاً الى الاحساس باللذة وهو ما يمكن لنا وصفه بالنشاط الحركي المصاحب لـ«الحسينيات» باعتبارها تعديلاً مناسباً كان لابد من الهروب منه الى واقع مغاير أو أفضل.
ولذلك يمكن القول إن أنشطة «الحسينيات» عند شيعة العراق وهم من خذلوا آل البيت ذات بُعد نفسي عميق تتجاذبه المضادات /زيادة/ خفض، ألم/ لذة..، تمهيداً للانتقال أو تعديلاً للشعور الطاغي بالذنب والمأساة، وقد تطور ذلك النشاط بفعل عامل الزمن ليصبح طقساً تعبدياً بلغ ذروته بالمزج بين المعنوي والحسي في الوصول الى الألم.
فـ«كربلاء» أحدثت تعديلاً لها يتجاوز مأساتها ويتكيف مع مفرداتها، ومثلها كل الأحداث التي مرّت في التاريخ، والتفاوت كائن في قدرة كل حدث على التأثير في البنى العامة للمجتمعات الإنسانية.
بيد أنّ ما يُستغرب له أنّ جدلية الغدير والولاية رغم قدرتها على إثارة المنبهات وقدرتها على التفجير والتوظيف للحدث إلا أنّها لم تنتج إلا تفاعلاً أصولياً، وقد ظل العقل اليساري والليبرالي والحداثي وما بعد الحداثي غائباً في مظاهر الحدث وإفرازاته وفي تفاعلاته، وذلك دال على غُبْن يمكن القول إنه مورس بشكل أو بآخر على العقول، ودال أيضاً على هيمنة الأصولي والبراغماتي.. وتلك الهيمنة نتيجة منطقية لسياسة التوازنات التي انتهجتها المعرفة التقليدية من خلال تركيزها على سياسة إضعاف القوى الأكثر ميلاً الى العقل، وتبعاً لتلك المقدمات نشهد الآن تمدداً رأسياً وأفقياً للأصوليات وانحساراً للقوى العقلانية، وهو الأمر الذي يجعلنا في مواجهة جدلية قادمة.
موضوع الولاية كان موضوعا جوهريا في البناء العام للدولة الاسلامية وقد كان سياقه التقاطعي سببا مباشرا في تشظي الفكرة وتعددها دون الوصول الى جوهر الحقيقة الغياب الفلسفة وعلم الجمال عن تفسيره وبيان حقيقته.
ومن خلال تحليل النصوص الابداعية قد نثير سؤالا ربما كنا بحاجة الى إثارته منذ زمن بعيد لعلنا نعيد ترتيب نسقنا ونعيد توحيد الفكرة.
فالثقافة الفلسفية جعلت الشعر الشيعي – كما يقول البردوني – أعمق فكرا , وأجمل وقعا , وأقوى تأثيرا.
شعر الغدير والولاية:
يقول البردوني “ لقد كانت بيعة الغدير وما قيل فيها من حديث وشعر , أمضى الاسلحة في ذلك الحين , كما كانت مراثي “دعبل “ و”الشريف الرضي” للحسين من نفس السلاح بالإضافة الى أشعار الهبل في(ثلب يوم السقيفة) والتنديد بالخلفاء الثلاثة , لهذا تزايدت الشعارات على هذا الاساس فكانت أناشيد الاعراس ودفن الموتى تتضمن الروح الشيعية “ كتاب “قضايا يمنية “ص 303ط2.
وكان العامل التاريخي والثقافي رابطا قويا في الاشتغال على قضايا الجدل المثارة بين المذاهب فحين تحكم الزيدية فهي بالضرورة “تعتمد على الشعائر الشيعية وإن كانت لا تظهر التحيز الى أي جانب , وإنما كانت الحقوق والواجبات لعامة الشعب اليه , إلا أنها كانت تقيم الشعائر الشيعية (كعيد الغدير) ولاء لعلي ابن ابي طالب كرم الله وجهه وشعائر العاشر من محرم تكريما للحسين , ومن الجدير بالإشارة الى أن الامام يحيى حميد الدين (حكم من 1918م الى 1948م) حاول أن يوجد تعادلا بين إقامة الشعائر فأقام الى جانب عيد الغدير عيد أول رجب اعتمادا على بعض الروايات , أن كتاب النبي وصل الى اليمن في أول جمعة من رجب فدخل اليمن في دين الله , لكن هذا لم يمنع عنف الجدل بين السنة والشيعة وكان الشعر أفتك سلاح في معركة الجدل” كتاب “ قضايا يمنية “ ص 289.
فماذا قال شعراء الديار اليمانية في خضم تلك المعركة في أشعارهم ؟
في سياق الجدل يقول محمد بن عبدالله الحميري (وهومن شعراء القرن الاول الهجري):
بحق محمد قولوا بحق
فإن الافك من شيم اللئام
أبعدَ محمد بأبي وأمي
رسول الله ذي الشرف التهامي؟
أليس عليّ أفضل خلق ربي
وأشرف عند تحصيل الأنام؟
ولايته هي الإيمان حقاً
فذرني من أباطيل الكلام
وطاعة ربي فيها وفيها
شفاء للقلوب من السقام
فالجدل الشعري عند الحميري يقوم على حركة الموازنة والتفضيل، وهي ظاهرة فكرية نشأت في القرن الأول الهجري، ولذلك كانت الموازنة نقلية تعتمد المقياس الاجتماعي والثقافي السائد في ذلك الزمن، فجاء الجدل تعبيراً عن المستوى الثقافي , أما الشاعر إسماعيل الحميري (وهو من شعراء القرن الثاني الهجري) فكان جدله جدلا ثقافيا يقوم على بيان الصورة وعلى الحكاية وهي من مصادر المعرفة في ذلك الزمن يقول في نصه:
عليّ أمير المؤمنين أخو هدى
وأفضل ذي نعل ومن كان حافيا
أسرّ إليه أحمد العلم جملة
وكان له دون البرية واعيا
ودونه في مجلس منه واحد
بألف حديث كلها كان هاديا
وكل حديث من أولئك فاتح
له ألف باب فاحتواها كما هيا
فالجدل هنا أخذ مسار المعرفة من خلال حالة التلقي المباشر من الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام، وجاء التفضيل من خلال ذلك التميز العلمي والمعرفي، ولعل الشاعر في هذا النص يمتاح من بئر زمنه المعرفي ومستوى الجدل فيه فكان تعبيرا عن تلك المعرفة في مستواها الثقافي.
أما الشاعر دعبل الخزاعي (وهو من شعراء القرن الثالث الهجري) فإنه من خلال نصه يحاول التكيف مع واقع زمنه من خلال خاصية التذكر هروبا من قسوة الواقع أملا في إحداث حالة التكيف مع ذلك الواقع من خلال استرجاع الماضي وهو واقع يراه مثاليا من خلال خصائصه النفسية والأخلاقية يقول:
سقيا لبيعة أحمد ووصيه
أعني الإمام ولينا المحسودا
أعني الذي نصر النبي محمدا
قبل البرية ناشئا ووليدا
أعني الذي كشف الكروب ولم يكن
في الحرب عند لقائه رعديدا
أعني الموحِّد قبل كل موحِّد
لا عابدا وثنا ولا جلمودا
فدعبل هنا يحاكم ساسة زمنه من بني العباس من خلال خاصية التذكر بعد أن عملت السياسية في العلويين عملا فضيعا , والنص في ظاهره يبدو رثاء في الإمام علي ولكنه وفق نظرية التلقي يهجو زمنه في دلالة السياق، وهو استنطاق للبعد الاخلاقي والقيمي الذي أفسدته السياسية في تعاملها مع العلويين كما تدل الحكايات التي تسردها كتب الأخبار في ذلك الزمن ولذلك نجد دعبل يقول بصريح العبارة:
أرى أمية معذورين إن غدروا
ولا أرى لبني العباس من عذر
“ ولمَّا زاد ركام التوتر بفعل التكاثف الاجتماعي المنعكس على النفس والتعقد الحضاري بالتدرج نشأ الحس بالسلطة كإشباع لجوع التوتر , لأن السلطة هي المسيطرة على ملتقى الفنون “ ولذلك تندر النصوص في القرون التي تلت القرن الثالث الهجري، إذ كان لها غرض جديد يتسق والمراحل التي وصل فيها العلويون للحكم في القيروان وفي مصر وفي اليمن ولذلك لا نكاد نلمس عودة لشعر الغدير والولاية إلا في القرن العاشر الهجري عند الشاعر الهادي بن محمد الوزير وهي قصيدة تقوم على تنظير الولاية وفق أوثق حكاياتها ومروياتها النصية، وكانت ميمية الوزير جدلا معرفيا مستندا إلى أوثق الحكايات والنصوص النقلية.. يقول في قصيدته:
أعني عليا أمير المؤمنين ومن
بالعطف خص من الرحمن ذي القسم
الله أنزل آيات مباركة
في فضله عدها لي غير منتظم
وقال فيه رسول الله سيدنا
يوم الغدير بخم يوم حجهم
من كنت مولاه أي أولى به فعليُّ
أولى به وهو مولاهم بكلهم
قام النبي خطيبا في معسكره
بهذه الخطبة الغراء لجمعهم
وشال إصبعا كريما من أبي حسن
في يوم حر شديد اللفح مضطرم
كي لا يقال بأن النص مكتتم
ما كان إلا صريحا غير مكتتم
فالجدل بين الشيعة والسنَّة في موضوع الولاية وموضوع الولاء والبراء كان يتسع كلما اتسعت الفكرة وتطورت المستويات الحضارية، بيد أن الماضي كان يحضر بكل تفاصيله في تلك الجدلية دون أن نجد تطورا في الرؤية الشعرية أو النظرة الفلسفية تتسق ومعطيات الزمن الجديد بل تجتر الجدل القديم وتعيد بعثه في ذات المدار..
في القرن الحادي عشر الهجري نجد موضوع الولاية في الرؤية الشعرية يتحول إلى حلول صوفي ووجد يستغرق نفسه في الذات ويتماهى معها كما في نص الشاعر بدر الدين محمد الصنعاني وكذلك في نص جعفر الجرموزي الذي يقول فيه:
خليليّ إما سرتما فازجرا بنا ال
مطي وسيرا حيث سار الجنائب
ولا يشعر الواشون إني فيكما
حليف جوى قد أضمرتني الحقايب
إلى الحي لا مستأنسين بقاطن
بريب وأهل الحي آت وذاهب
فإن شمتما برقا من الحي لائحا
متى يبدو منه حاجب يخف حاجب
فلا تحسباه بارقا لاح بالحمى
متى طلعت بين البيوت السحائب
ولكنه ثغر تألق جوه
من الدر سمط لم يقبه ثاقب
وعلى مثل ذلك سار شعر الحسن الهبل حلولا صوفيا في ذات من تحب:
لو كان يعلم أنها الحداق
يوم النقا ما خاطر المشتاق
جهل الهوى حتى غدا في أسره
والحب ما لأسيره إطلاق
أما في القرن الثاني عشر الهجري الذي شهد ولادة الحركة السلفية على يد مؤسسها محمد بن عبدالوهاب، وهي حركة توحيدية سلفية خاضت جدلا واسعا في مسائل العقائد والقضايا الفكرية التي ترتبط بالبعد السياسي وكان لها تمدد واسع في شبه جزيرة العرب وهي صناعة استعمارية بريطانية بهدف تقويض سلطة الدولة العثمانية وكان لها دعم مادي كبير ووصل تأثيرها الى اليمن وكان لها اتباعها، ولذلك مال الشعراء الى تأصيل فكرة الغدير والولاية تأصيلا شعريا يتسم بروح الجدل الهادئ الذي يريد بلوغ الحُجَّة كما نجد ذلك عند الشاعر محمد السمحي في قوله:
المرتضى صنو النبي محمد
وحسامه الماضي على الحدثان
فاروق ما بين الضلالة والهدى
ومبين كل مؤيد البرهان
من يقتبس نور الشريعة والهدى
منه فقد أوفى على رضوان
أما ابن الامير الذي تأثر بالوهابية فقد جاءت قصيدته كبيان يوضح موقفه في ظل الجدل الفكري الذي كان سائدا في زمنه حول موضوع الولاية وموضوع الولاء والبراء الذي خاض فيه الفكر الاسلامي جدلا واسعا، ولذلك استهل نصه بقوله:
تحفة تهدى لمن يهوى عليا
من رقى شأوا من المجد عليا
وقد ألمح الشاعر يحيى ابراهيم جحاف إلى ذلك الجدل في قوله:
ثم وافى يوم الغدير وناهيك
بيوم يشكو من القوم غدرا
قد اتى زائرا يوبخ قوما
أوسعوه بغيا وخدعا ومكرا
جحدوا فضله وفضل إمام كان
أولى بالسبق منهم وأحرى
وقد امتد هذا السجال الى القرن الثالث عشر الهجري واتسعت دائرته وكان علماء ذلك الزمن “ يعتمدون في أحكامهم على النصوص الصريحة من الكتاب والسنَّة , فإذا اعتمد الشيعة على (أحمد بن سليمان) صاحب (الحكمة الدرية.. ونور اليقين) اعتمد رجال السنة على الشوكاني صاحب (الفتح القدير)..و(نيل الاوطار)وإذا فخر الشيعة (بمحمد عقيل السقاف) صاحب (النصائح الكافية) فخر السنيون (بالمقبلي)، صاحب (العلم الشامخ)، وإذا احتج الشيعة بالهادي احتج السنَّة بالجلال صاحب (ضوء النهار) فقد كان لرجل السنَّة مستقيات ثرة من علم الحديث ورجاله وكتب أمهاته ,ولكي يصبح الشعر أحد أسلحتهم صارعوا بقول الشوكاني:
هلموا إلينا معشر الرفض إن يكن
لكم معشر الإنصاف دينٌ كديننا
مدحنا عليا فوق ما تمدحونه
وأنتم سببتم صحب أحمد دوننا
أو مثل قول الجلال:
إذا جادلته بكلام ربي
أجاب مجادلا بكلام يحيى.
وكان السلاح الشعري عند الشيعة أفتك.. فقد كانت عندهم قصيدة (لابن حريوة) في هجو الشوكاني وكانت عندهم قصيدة للهبل في هجو المقبلي، لكن الملاحظ أن الثقافة الفلسفية جعلت الشعر الشيعي أعمق فكرا وأجمل وقعا , وأقوى تأثيرا” البردوني – قضايا يمنية ص 293ط2.
وكانت البراعة في الجدال هي غاية الطموح , ولم يكن ذلك الجدال مرتبطا بالعرق كما يقول البردوني في المصدر الذي أشرنا اليه، فليس الهاشمي متشيعا بالضرورة وليس القحطاني متسننا بالضرورة فقد كان الجدال جدالا فكريا بحتا دون النظر الى العرق وكان من سمات وخصائص كل الأزمنة الثقافية ومن تجلياتها على وجه الخصوص في اليمن فثمة عامل تاريخي يربط الفكرة بالبعد العقائدي من خلال الدور الذي قام به الامام علي كرم الله وجهه في اليمن بداية الدعوة الاسلامية.
في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين كان الجدل قد وصل اوجه لوجود عاملين سياسيين هما الباب العالي العثماني وصراعه الثقافي والسياسي مع أهل اليمن والدعوة الوهابية التي تمددت من خلال الدعم المادي للمستعمر البريطاني الذي تداخلت مصالحه مع العثمانيين في الكثير من بقاع العالم ووصل أثر تلك الدعوة الي اليمن وتركت أثرا وجدلا، فالمستعمر كان يخاف من الحركة التي تقاوم العثمانيين في جبال اليمن خوفاً من أن تمتد المقاومة الى مستعمرته عدن ولذلك كان الجدل في بعدين البعد الثقافي والبعد السياسي.
لم تكن نصوص القرنين الثالث والرابع عشر إلا تجليا لمظاهر الجدل فشكَّل الهروب الى الماضي من خلال بعث قيمه الثقافية ملاذا للاعتصام بالحق والتكيف مع الحاضر لفرض الهيمنة على مقاليده ولذلك جاء نص أبو بكر المحضار في هذا السياق أي في بيان محاسن الولاية وأثرها في البنية الاجتماعية والسياسية وفي الثبات في مقارعة المستعمر من خلال استلهام تلك القيم من سيرة الامام علي عليه السلام يقول:
تجرعت مر الصاب صونا لعهدها
وحفظ مواثيق الهوى وذمامها.
محاسنها الغراء عين محاسن
الوصي قريع الحرب حال احتدامها
ولعل الشاعر محمد ابن أحمد مطهر قد أدرك أهمية الحكاية في توليد المعنى القيمي والسياسي والاجتماعي ولذلك استهل نصه بالقول:
حدثاني عن عيد يوم الغدير
ودعا ذكر زينب والغدير
وأحاديث غزة بل ولبنى
وجميل وعروة وكثير
واتركا وصف غيد ومرد
وجمال وأيكة وسرير
واشرحا لي تلك الولاية بالله
بقول من البشير النذير.
أما شعراء القرن الخامس عشر الهجري الذين تضمنهم كتاب “ شعراء الغدير والولاية اليمانيون “ – والكتاب هو محور هذه القراءة ومصدرها – فهم كثر ويتعذر الوقوف عند كل نص في هذه العجالة إلا أن النصوص في مجملها تحاول ترتيب النسق المتشظي في الذات الشاعرة وتحاول صوغه من جديد لتعيد بناء صورة العالم فالنصوص تلبي الحاجة اليومية لبث روح المقاومة من أجل الخلاص الجمعي في الصراع الكائن بين محور المقاومة والتطبيع وفي الصراع الدائر بين الحق والباطل، فالمبدع اليوم في ظل موجات الصراع والحروب يعيش تجارب معقدة ولذلك شكل نصه في الامام علي وفي موضوع الولاية منبها باعثا للقيم العامة للمجتمع وكان شديد الحرص، على ضوابط الانضباط والخضوع والصبر والثبات من أجل الخلاص الجمعي مستخدما سلطة “الهو “.
ومن الغبن أن نغادر شعراء القرن الخامس عشر الذين تضمنهم كتاب “ شعراء الغدير والولاية اليمانيون “ دون الوقوف عند نص “ فصول الماء “ للشاعر حسن المرتضى , فالنص يشكل كتابا في حد ذاته وكان وجوده في سياق الكاتب منعطفا مهما في الشعرية التي تتناول البعد العقدي والفكري.
“فصول الماء “ سرد شعري يعتمد الحكاية ويرمز مضمونه الى الخلاص من الجفاف والعطش في البعد الدلالي الذي يتسع ولا يضيق به التأويل , فالماء يصنع الحياة ولا يمكن البقاء على قيدها إلا به وهذا المعنى يتعاضد مع السرد الشعري ليوحي بأن الحياة بدون فكرة الولاية لآل البيت لن تستمر ولكنها ستكون مستمرة بها والنص يبدأ ببيان العلاقة بين غديرخم والماء في رؤية شعرية جديدة يقول:
لي أن أٌقول وأن تجيب على جميع الأسئلة
أغدير خم والفرات بزمزم لهما صلة ؟
لهما صلات يا صديقي
فالماء للرحمن أول بوصلة
أو ليس عرش الله فوق الماء
فالماء أول عابد لله قبل تواجد الاحياء
والماء أول راكض من تحت هاجر
حيث زمزم لم تكن إلا يدا أولى تبايع للذبيح.
هنا ثمة رؤية شعرية جديدة تحاول فلسفتها الجملة الشعرية والسطر الشعري والسرد الشعري في تراتبية تتغيا جوهر الحقيقة من بين أشكال الحكاية التاريخية التي تتناسل منها الفكرة وهو نص يعيد إنتاج المعرفة من خلال النفاذ الى جوهر الأشياء، فهو يتجاوز المعرفة التقليدية بمقاربة شعرية تعيد تعريف الأشياء من خلال جوهرها وحقيقتها فالماء في معادله الموضوعي هو من يعيد ترتيب نسقنا وكوننا لنشعر بجمال الحياة وطهرها ونقائها.
والشاعر حسن المرتضى في نصه “فصول الماء” يكسر المعتقد السائد في الذاكرة المعرفية العربية وهو القول إن هناك شكلا واحدا للحقيقة يحوي خلاص الجميع وهو يؤكد ما سلف لنا قوله في السياق أن الفلسفة وعلم الجمال هما الأقدر على تفسير العالم وما فيه من موجودات.
وبالتأسيس على ما سلف سرده وبيانه نخلص الى القول إنه في القرن الأول الهجري كان همّ الشعراء القيام بالموازنة والتفضيل وهي حركة ثقافية امتدت أفقيا ورأسيا في سياق الثقافة العربية في القرنين الأول والثاني الهجري حيث اعتمد المثقف في ذلك الزمن الحكاية وقام بتوليد المعاني وصولا الى المعرفة التي اتسم بها ذلك الزمن ثقافيا وسياسيا واجتماعيا.
أما في القرن الثالث الهجري، فقد هرب الشعراء الى سلطة “ الهو “ أي سلطة الماضي , هروبا من قسوة الواقع وأملا في التكيف مع معطياته , وهم بذلك الهروب يحاكمون الواقع محاكمة قيمية وأخلاقية , وحين نشأ الحس بالسلطة كإشباع لجوع التوتر خفت صوت الشعر أو كاد ابتداء من القرن الرابع الهجري وصولا الى القرن العاشر الهجري حيث عاد الى مربعه الأول في توليد المعاني من خلال سرد الحكايات والمرويات , وحين نلج القرن الحادي عشر الهجري يتحول النص الشعري الى حلول صوفي ووجد يتماهى مع الذات ليستغرق نفسه فيها ثم ما يفتأ أن يعود الى الجدل بعد أن أحدث العامل الثقافي والسياسي تطورا ملحوظا في مسار الجدل فكان التنظير وتوليد المعاني من الحكايات مبررا كافيا في ذلك الجدل ومثل ذلك كان سمة بارزة للقرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجريين.
أما في القرن الرابع عشر الهجري، فشكل الهروب الى الماضي من خلال قيمه الثقافية ملاذا للاعتصام بالحق والتكيف مع الحاضر لفرض الهيمنة على مقاليد المستقبل.
وفي القرن الخامس عشر الهجري، كان الشعراء تعبيرا عن الحاجات اليومية , لبث روح المقاومة من أجل الخلاص الجمعي , وجاء نص “فصول الماء” ليعيد بناء الواقع بناء لغويا يتسق وضرورات الحداثة كبعد ثقافي سائد , والنص يرمز الى الخلاص من الجفاف والعطش , فالماء هو من يصنع الحياة.
ويمكننا القول إن نص “ فصول الماء “ يعيد إنتاج المعرفة من خلا النفاذ الى جوهر الاشياء , وهو نص يكسر المعتقد السائد في الذاكرة المعرفية العربية وهو القول بأن هناك شكلا واحدا للحقيقة يحوي خلاص الجميع.
والملاحظ أن شعر الغدير والولاية يؤثر في الواقع ويتأثر به , ولعل العامل السياسي كان باعثا في كل حقب التاريخ الى يومنا , وقد جاء تكوين الصورة الشعرية في جل النصوص كضرورة لا يمكن تجاوزها ذلك لأنها تمثل تعامل الفكر مع العالم المادي , وهي في حقيقتها تمثل عنصري التكوين الفكري أي المادة والذاكرة , وحين يشعر الإنسان بتهديد الطبيعة يجد باعثا حقيقيا الى الحاجة في إقصاء سمات الزوال والتنافر في الواقع حتى يبدو قابلا للاستقرار والحياة والإيمان.
كانت اللغة في بعض المراحل الزمنية تخفق في استيعاب التطورات المحققة في الحقل المعرفي لكن الأدب الشعبي ناب عنها حيث كان يقوم بالترويج لمعجم لغوي بديل يقتصر على التعبير عن آراء بسيطة لكنها عميقة الدلالة وشائعة.
ففي الأحوال المضطربة ينظر الناس الى ما وراء الطبيعة لإيجاد منابع للاستقرار والإيمان , فالكلمات قد لا تغير العالم المضطرب من حولنا , لكن العالم قد يكون أكثر فظاعة بدونها.