عبدالله هاشم السياني
أركان الصلاة وفروضها بعد أن يستجيب العبد لنداء مولاه وسيده يمتلئ قلبه فرحاً واستبشاراً وهو يشارك المنادي في ترحيبه ودعوته بقوله: “حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على خير العمل”، ويشعر بدخول وقت لقاء من يحب، بل يشعر بالسعادة لأن ذلك الوقت قد حلَّ وحان، فيتجه لتطهير نفسه وجوارحه كما أمره خالقه ثم يسير بخطى حثيثة لينضم إلى جماعة المسلمين في الصلاة، فيكون بين صفوفها المتراصة المنتظمة واحداً منها، ومعها يسمع ألفاظ الإقامة ويشهد فيها من جديد لله بالوحدانية ولرسوله الخاتم بالرسالة ويشاركها لحظات إقامة هذه العبادة العظيمة والاجتماع عليها والدخول فيها.ثم يبدأ بالتوجه إلى مالك الملك وفاطر السماوات والأرض، معلناً حنيفيته واستسلامه حامداً لمن لا شريك له بالكلمات التي اختارها له الحق جل وعلا من كلماته ليقولها في هذا الموضع من عبادته الذي أصبح فيه قاب قوسين أو أدنى من الولوج إلى ساحة رحمته الواسعة وفيضه الإلهي ومشاركة أهل سمائه وأرضه في الثناء عليه /////.
النية أول أركان الصلاة حينها لم يبقَ إلا أن ينطق قلب المؤمن ويناجي ربه الذي يعلم السر وأخفى المطّلع على سرائر جميع خلقه بكلمات لا يسمعها إلا هو ولا يعرف بمراد صاحبها وقصده فيها غيره، ولا يسمعها أحد من خلقه، فيقول له: “اللهم إني نويت أن أصلي صلاة الفجر أو الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء فرادى أو جماعة مؤتماً أو إماماً”، واصفاً حاله وما ينوي القيام به لمن يراه ويعلم مكانه المطّلع على خلجات نفسه وما دون ذلك مما هو أعظم منها وأخفى، محدداً للأول والآخر والظاهر والباطن صلاةَ أي وقت من الليل والنهار، تلك التي هو على عتباتها./////
هذه النية التي محلها القلب، ويخاطب فيها الإنسان ربه ومالك أمره بقلبه لا بلسانه وإن تحركت شفتيه بها بدون صوت مسموع، هي أول ركن من أركان الصلاة وفروضها التي يقوم بها، فكيف ننظر إليها ونتعامل معها؟ بل وكيف نفهمها ونقوم بها؟ وما تأثيرها على بقية الأركان سواء الأذكار منها أو الأفعال؟ ولماذا جعلها الخالق جل وعلا أول أركان عبادته العظمى وفروضها التي بهاتصح الصلاة أو تبطل بدونها؟ وفي أي مقام هي حتى يترتب الإخلاص عليها؟
إن النية بالنسبة لنا كلمات وألفاظ نُلقيها على قلوبنا أول كل صلاة ولا تصل إليها، وتتحرك بها شفاهنا ولا ندرك ما وراءها، وقد نستحضرها وقد لا نستحضرها، قد نداوم على شكلها الظاهري المعهود لدينا وقد لا نداوم عليها، مثلها مثل بقية أركان وفروض الصلاة، سواء الداخلة فيها أو الخارجة عنها التي نتعامل معها كأشكال وقوالب تعودنا على أدائها والاستمرار على فعلها، ولم نكلف أنفسنا حتى معرفة حقيقتها أو التفكير في أصلها وجوهرها ٠فنحن لا نعرف حتى تعريفها، هل هي عزيمة وإرادة، أم علم ومعرفة، أم ظن واعتقاد، أم قصد وتوجه..والمتحري فينا هو الذي يستحضرها في أول صلاته ثم تنتهي علاقته بها مع دخوله في الركن الذي يليها٠ مع أن الإخلاص الذي هو أساس قبول الأعمال عند الخالق جل وعلا مرتبط بهذه النية، والمصطفى خاتم الأنبياء –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قد قال فيها: “إنما الأعمال بالنيات وإنّما لكل امرئ ما نوى”، والصلاة عمل، أي واحدة من الأعمال المفروضة علينا من قبل الحق بل أعظمها، وهي مجموعة من الأفعال والأذكار٠والنية ركن من أركانها التي يجب أن تكون مصاحبة لكل فعل أو ذكر فيها، بل وحاضرة في كل لحظة فيها لأنها إن غابت أو غفل عنها الواقف بين يدي ربه وخالقه اتجه بثنائه وطاعته وعبادته وركوعه وسجوده ومناجاته إلى غيره، وتقرب بها إلى أحد من خلقه، وحينها قد يخرج من دائرة الرحمة الإلهية إلى عرصة الغضب الإلهي الذي أراد الفرار منه، وتحولت القربة التي أراد الولوج بها لكنف محبته إلى معصية يهوي بها في قعر سخطه..
ولكن كيف نحوّل (النية) تلك الكلمة التي ننطقها بقلوبنا إلى حالة من الإخلاص التي تحافظ على وجهتنا نحو الخالق جل وعلا ونحن بين يديه في كل صلاتنا وتجعل من كل أركان الصلاة أعمالاً خالصة للحق جل وعلا لا يشاركه فيها أحد، وهي التي لا تستغرق من الوقت سوى ثوانٍ معدودة في صلاتنا حين نقولها إننا إن عرفنا ونحن نقول بقلوبنا (( اللهم إني نويت أن أصلي ٠٠٠)) من نخاطب في تلك اللحظة وعلى أي عمل وعبادة عظيمة نحن داخلون ، وكنا على وعي كامل بعبوديتنا المطلقة لله وحاجتنا إلى الثناء لصاحب الغنى المطلق واستحقاقه لذلك، وأدركنا أن وقوفنا بين يديه فضلاً وشرفاً ونعمة إلهية اختصنا الكريم بها نحن عبيده.. حينها يمكن أن يكون للنية معناها ودورها الذي أراده الحق جل وعلا عندما أمرنا بها، وجعلها أول ركن من أركان عبادته وذكره الأعظم وسنلمس أثرها في بقية الأركان التي تشكل بمجموعها جوهر هذه العبادة الربانية الكبرى وعلى كل أذكارها وأفعالها إلى حين الخروج منها بالسلام آخر أركانها.ولاشك أن ركن النية أكبر مما قلنا وأسرارها وأبعادها أعظم بكثير مما ذكرنا، والخُلَّص من عباده لديهم القدرة للوصول إلى جوهرها وحقيقتها وجميعنا مدعوون عند كل صلاة للوقوف أمام حقيقتها والتأمل فيها من خلال لحظات المخاطبة القلبية التي تنشأ بين العبد وربه حينها.
الركن الثاني الله أكبر الركن الثاني بعد أن يخاطب المرء ربه بقلبه ويبوح له بما يلزم عليه ويعلن عن قصده وإرادته في الركن الأول من هذه العبادة العظيمة، وبينما يعيش حالة السمو والانجذاب نحو مالك السماوات العلى على أمل أن تتفتح له أبواب السماوات بتلك المناجاة القلبية ينطلق لسانه فيقول بصوت مسموع (الله أكبر) وبهذه الألفاظ التي لا تزيد عن كلمتين، وبهذه الجملة الاسمية القصيرة التي لا نحتاج من الوقت لنطقها إلا الشيء اليسير جداً يكون الواقف بين يدي خالقه قد انتقل إلى الركن الثاني في ثنائه وطاعته وعبادته لمولاه ومالك أمره، ليعلن بتلك الألفاظ أول مصاديق إخلاصه بجارحة لسانه نيابة عن بقية أعضائه الظاهرة والباطنة التي سوف تمضي في تعظيم خالقها وبارئها ومصورها وموجدها في بقية الأركان.فما الذي نعنيه نحن المصلون بقولنا “الله أكبر”؟ وكيف ننظر إلى أركان الصلاة ومكانتها عموماً في الثناء على الحق جل وعلا الذي أمرنا بها خمس مرات في اليوم والليلة؟ وهل ندرك لماذا جعل العلي الكبير أعظم فروضه العبادية تبدأ بتعظيمه؟ ولماذا سميت بتكبيرة الإحرام؟ ثم ما هو الإحرام الذي دخلنا ساحته وعلينا الوقوف عند حدوده؟ وما الذي أراده الحق جل وعلا من هذا الركن وهذه التكبيرة مع بداية الثناء عليه والركوع بين يديه والسجود في ساحة قدسه؟ ولماذا أمرنا بتكرارها بين كل ركن وركن؟ وما المعاني والأسرار الإلهية التي تحملها في كل موضع من تلك المواضع؟ وهل ورودها في الأذان ثم الإقامة ثم الصلاة بهذا العدد الكبير وهذه الكثافة في كل ركعة له مدلوله وأبعاده الربانية؟ وما الذي يجب أن يستقر في أعماقنا عقولنا وعلى صفحات قلوبنا ونحن نرددها في كل تلك المواضع؟أسئلة كثيرة كم نحن محتاجون للإجابة عنها حتى نصل إلى منزلة من يُقدِّرون الله حق قدره، ويعبدونه حق عبادته.. ولكن إثارتنا لها على الأقل هنا سيدفع بكل الذين يتسابقون إلى عبادته ويشتاقون للوصول إلى درجة الخشوع الإيماني ومرتبة الإحسان العملي عند الثناء عليه إلى الإجابة عنها والتفكير فيها ٠ ليكون ذلك أول خطوات تعظيم الخالق جل وعلا الذي يجب أن يسكن قلوبهم ويظلل على بقية أذكارهم وأفعالهم في هذه العبادة الإلهية العظيمة ويصحبهم فيها حتى الخروج منها بالسلام.
مامعنى الله اكبر ما معنى “الله أكبر”؟الكثير منا لا يعرفون المعنى الدقيق اللغوي لمضامين هذه الكلمة وأبعادها التي تمثل أحد أركان الصلاة التي لا تقوم إلا بها ولا يدركون مراد الخالق منها ولا يشعرون باستحقاقاتها وآثارها ولا يجدون لها أثراً في نفوسهم عند النطق بها وهم بين يدي ربهم وخالقهم وهو الذي ملأت عظمته أركان كل شيء في الوجود من حولهم وفي أنفسهم وتشهد لعظمته كل الموجودات في الوجود.في اللغة الكبير هو العظيم، وتطلق الكبير على: الطاعن في السن، العظيم حسياً ومعنوياً، الرئيس والزعيم.فمن ازداد عمره وعظم سنه يقال له كبير، ومن ازدادت مكانته بين الناس حتى صار لهم رئيساً أو زعيماً يسمى كبيراً، ومن فاق على غيره بعلم أو معرفة وعظم به كان كبيراً، ومن اتصف بخلق أو شجاعة أو كرم حتى فق على أقرانه سمي أيضاً كبيراً، ولذلك نقول أكبرهم سناً وأكبرهم علماً وأكبرهم شجاعة.. أي أعظمهم.والعظمة تطلق على الأشياء الحسية والمعنوية فنقول جبل كبير أي عظيم، وحيوان كبير، ونجم كبير أي عظيم، كما نقول صاحب عقل كبير وقلب كبير، مع أن الناس متساوون في قلوبهم وعقولهم من الناحية المادية الحسية، وإذا نظرت في كل شيء في الوجود فإن فيه الكبير والصغير والعظيم والحقير.ومِن الكبير الذي هو العظيم جاء التكبر والمستكبر فكل من كبّر نفسه وعظمّها أو ادعى ذلك أو اتصف به وانعكس ذلك على تصرفاته ومواقفه وكلامه سُمِّي متكبراً، في حين أن المستكبر هو المتعاظم الذي يبالغ في تعظيم نفسه وتكبيرها حتى يصير متعاظماً على الحق وأهله في أي وجه من جوه الحق، لا يخضع للحق عناداً أو لا يقبله ترفعاً، وأساس المتكبر والمستكبر واحد، فكل منهم رأي نفسه أعظم وأكبر من الآخرين حتى انعكس ذلك على سلوكه عند تعامله مع الناس أو على مواقفه من الحق، فالأول معظم لنفسه والثاني في نسه —-وكأن التكبر يجر الإنسان إلى الاستكبار، وأصلهما واحد، وكلاهما يريد من الآخرين أن يعترفوا له بأنه أكبر منهم ويقروا له بذلك.
ومن زاوية أخرى فالناس بطبيعتهم إذا وجدوا زعيماً كبيراً في صفاته وتصرفاته ومبادئه عظموه وكبّروه وإذا وجدوا عالماً كبيراً في علمه عاملاً بعلمه عظموه، وكلما كبُر الإنسان في أعين الناس كلما تاه الناس في حبه وبالغوا في احترامه وحرصوا على طاعته وتسابقوا في تنفيذ توجيهاته وبذلوا أرواحهم في الذود عنه والدفاع عن مكانته ومقامه، وقد يصبح عندهم شخصية مقدسة لا يقبلون حتى الحديث عن ضعف يعتريه أو قصور يبدو منه خوفاً على عظمته في نفوسهم.ولذلك صار معلوماً أن عظمة الشيء يكون سبباً في تقديسه وعلو منزلته ومكانته، ولذلك فقد قالت قريش كما حكى عنهم القرآن الكريم: (لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف:31] باعتبار معايير العظيمة عندهم، في حين أن نبي الله إبراهيم صلوات الله عليه أدرك أهمية العظمة لدى قومه في اختيار ألهتهم وحاول تقريب هذا المفهوم إلى عقولهم فنظر إلى النجوم والقمر والشمس يبحث فيها عن أهم صفات الإله وهي العظمة والكبرياء فقال (هذا أكبر) أي يستحق العبادة، وعندما رأي أن تلك الصفة ليست من الصفات الملازمة لها قال (لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ) [الأنعام:76]، (إِنِّيوَجَّهْتُوَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضَ) [الأنعام: 79] باعتبار أن العظيم والكبير هو خالق السماوات والأرض..فما الذي أراده الحق جل وعلا عندما أمرنا بأن يكون أول مظاهر الثناء عليه والعبودية بين يديه هو تعظيمه بقولنا “الله أكبر”؟ مع أن الغالب في الأدعية الإلهية والأذكار النبوية التي أمرنا بها تبدأ بالتسبيح ثم الحمد ثم الشهادة وتنتهي بالتعظيم كما هو معروف في أكثرها، مثل: “سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر”، أو في الدعاء المأثور المعروف بتسبيح الزهراء (عليها السلام) الذي أمرنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن نقول فيه: “سبحان الله والحمد لله والله أكبر” ثلاث وثلاثين مرة عند النوم أو عقب كل صلاة، وغيرها من الأدعية والأذكار التي تقوم على الإيمان والإقرار والثناء وتعد من أرقى أنواع الذكر وأسماها حيث بدأت بتسبيح الله وتنزيهه عن كل نقص والاعتراف الكامل بكماله ثم ثنت بحمده والإقرار بأنه أصل كل المحامد ثم بالشهادة بوحدانيته وألوهيته وتفرده ثم انتهت بتعظيمه وكأن تعظيم الحق جل وعلا في خاتمتها بالقول “الله أكبر” هو تنزيه للتنزيه وحمداً فوق الحمد وشهادة أعلى وأسمى..فلماذا عند الصلاة (الذكر الأكبر) وعند الوقوف بين يديه وحالما نصبح في ساحة قدسه وفي موقف الثناء عليه نبدأ بتعظيمه بقولنا “الله أكبر”؟
ثم تأتي أنواع الذكر والتسبيح والحمد القولي والعملي امتداداً لها وبعدها ويظل التعظيم حاضراً مع كل ركن فيها؟عند التأمل في الأدعية التي يذكر الله بها المؤمن في أوقاته العامة من الليل والنهار نجده في تسبيحه وحمده وتعظيمه للحق جل وعلا قائماً ومنطلقاً من التفكر والتأمل في خلق السماوات والأرض وما فيهما من جميل صنعه وعظيم تدبيره الدالة على آياته التي أمرنا بالتفكر فيها والتي توصلنا إلى معرفة العلي الأعلى بأسمائه وصفاته، لذا فإن هذا الذكر في أوقات المؤمن العامة يعد من أعلى مصاديق الإيمان ومراتب اليقين لأن المؤمن فيه يرى ويشعر وينظر إلى كمال الحق المطلق جل وعلا في كل ماحوله ومن خلال جميع خلقه مخلوقاته، فينّزه جلّ وعلا عن كل نقص قد يخطر على قلب بشر بقوله “سبحان الله” ثم ينسب -على وجه اليقين- كل المحامد في كل وقت وحين وفي جميع الأحوال إلى الله بقوله “الحمد لله” ثم يختم ذلك بتعظيم العلي العظيم ليستكمل ذلك الذكر الإيمان بقوله “الله أكبر”.أما عندما يتجاوز المخلوق المخلوقات ويقف بين يدي الخالق لعبادته والثناء عليه ويقف بين يديه بدون حجاب –وبأمره هو- فإن الأمر يختلف لذا فقد أمره العلي الأعلى بأن يبدأ عبادته له والثناء عليه بتعظيمه ليفتتح بها لقاءه والمثول بين يدي وهو على عتبات حرمه وساحة قدسه، إلا أن التعظيم الذي أراده الحق جل وعلا منا نحن العبيد في هذا الموقف وهذا الموضع من عبادته وذكره الأكبر لازالت المسافات بيننا وبين إدراك حقيقته درجات ومراتب وإن أدركنا بعض ملامحه.
ولذا فإن علينا المجاهدة للوصول إلى حقائق أركان هذه العبادة الإلهية بالتأمل في كل شيء فيها والتمعن في تفاصيلها بغرض معرفة مراد الحق جل وعلا منها واكتشفافرأسرارها التي يفتحها الرحمن الرحيم لخاصة أوليائه.ومع ذلك فعندما يقول العبد وهو في حضرة سيده ومولاه وبين يدي خالقه ومالك أمره امتثالاً وطاعة وثناء واستسلاماً وعبادة وإيماناً واعترافاً وتصديقاً: “الله أكبر” فإن هذا الإعلان اللساني في تلك اللحظة يعبر عن ما يشهد به قلبه وتذعن له جوارحه وتؤمن به حواسه وتصدِّق عليه جميع ذرات وخلايا جسده، وهو في ذلك الموقف المهيب الذي يرى فيه رأي العين أن الله أكبر من كل شيء يراه في الوجود وأعظم، بل إنه عزَّ كبرياؤه أعظم وأكبر من عظمة خلقه واتساع ملكه ونفاذ حكمه وشمول إرادته وخفي تدبيره وإبداع صنعه التي يحكم بها على عظمته وكبريائه ويستدل بها على جميل صفاته وأسمائه، ويعلن فيه بأن “الله أكبر” وأنها هي الحقيقة الكبرى التي تهيمن على الوجود من حوله، وتحدد مكانة المخلوقات فيه مهم عظم شأنها وطغي تأثيرها وامتدت مقومات بقائها وتبقيها في نفس الوقت في دائرة المخلوقات الضعيفة المحتاجة أمام خالقها الذي أبدعها وأوجدها ثم صورها وهو الغني عنها.ووهو بهذه الكلمات وبنطقها يدخل إلى حرم الملك القدوس وساحة رحمته وفضاء الثناء عليه الذي اختص به عباده وبها –أي الله أكبر- يصبح محرماً لنيل كل عطايا الكريم الأكرم، ألا ترى أن الحاج يُعلن حجه ويدخل في مناسكه بمجرد لبسه ثياب الإحرام حيث يصبح محرماً فكذلك المصلي بقوله “الله أكبر” يصبح محِرماً من كل عمل غير أركان صلاته ومهيئاً لعمل بقية الأركان العبادية التي هي حرم الحق جل وعلا، ولذلك سميت بتكبيرة الإحرام.ولاشك أن قول الواقف بين يدي ربه وخالقه “الله أكبر” في هذا الموضع من هذه العبادة الإلهية في أجواء لها جلالها وقدسيتها ولها معانيها التي تنسجم وتتوافق مع تلك الأجواء المنفتحة والممتدة في الزمان والمكان حيث تجعل كل عابد يلتقط من معانيها ما يتناسب مع مقامه ومنزلته ودرجة توجهه وحضور قلبه، خاصة أولئك الذين يدركون آفاق ذلك التعظيم الذي نطقت ألسنتهم به، وأنهم لن يكونوا أقل حظاً في إدراك عظمة المولى عز وجل والتماهي فيه والذوبان في معانيه والتحليق في آفاقه والخروج من دائرة المكان والزمان الذي يعيشونه من نسوة امرأة العزيز اللاتي أكبرن جمال نبي الله يوسف وعظمة إبداع الخالق في تصويره حتى وصل إكبارهن وتعظيمهن لذلك الجمال إلى نسيان أنفسهن وإخراجهن من دائرة المكان والزمان حتى أفقدهن الإحساس بالألم وقطّعن أيديهن لـمّا رأينه ووقعت عيونهن عليه وقلن حاشا لله ما هذا بشر إن هذا إلا ملك كريم٠ فكيف بمن يعبد الله كأنه يراه ويصل إلى درجة الإحسان؟ كيف سيكون تماهيه وإكباره وتعظيمه لخالق السماوات والأرض من له الأسماء الحسنى مصدر الجمال الطلق وإليه تعود كل المحامد في هذا الكون؟ومن ذلك التماهي والإكبار والتعظيم للحق جل وعلا ما يستقر في قلب المؤمن من تعظيم لخالقه في كل أسمائه وصفاته من عِظَم علمه وقدرته وجبروته وإحاطته وعفوه وبره وحكمته وعزته.. وهو يقول “الله أكبر”.ولكن حضور معنى عظمة الله المطلقة وقوته المطلقة وعلوه المطلق وكبريائه المطلق على عظمة وقوة وعلو وكبرياء وطغيان وجبروت كل مخلوقاته وعلى رأسها طغيان الإنسان وجبروته وظلمه وعلوه هي التي تكون أكثر حضوراً لأن من يقول “الله أكبر” مقراً ومؤمناً ومعترفاً خمس مرات وهو في أوضاع مختلفة في الركعة الواحدة من أوضاع العبودية والتذلل للعلي العظيم الأكبر التي تشمل كل أنواع العبودية لا يمكن أن يبقى في قلبه مثقال ذرة من التعظيم والإكبار لغير الواحد القهار، ولا يمكن أن يبقى في قلبه مثقال ذرة من خوف أو جبن أو جزع أو خنوع أو ذلة لكائنٍ من كان، مهما بلغت قوته وجبروته وسطوته فإنه في تلك اللحظات الربانية التي يقضيها العبد بين يدي ربه وخالقه ومالك أمره ومن بيده مصيره ساجداً وراكعاً ويردد ما بين كل لحظة ولحظة قوله “الله أكبر” لن يرى في الوجود كله والكون بكل اتساعه سوى قوة الله وعزته وجبروته وعظمته، ولا يمكن لجوارح وحواس الإنسان وعقله وقلبه التي تعلن صادقة مؤمنة بأن الله أكبر أن تخضع لطاغية أو تخاف جبار أو تهادن ظالم أو تصبر على حيف أو منكر، فإذا كان قد قال أحد الدعاة: “إن اصبعي السبابة التي تشهد لله بالوحدانية في كل صلاة لا يمكن أن تكتب حرفاً تقر به حكم طاغية”، فكيف والجسد كله بلسانه ويده وجميع جوارحه وأحاسيسه وبعقله وقلبه يقول “الله أكبر” مع الفجر عشر مرات في الفريضة وعشر مرات في السنة، وفي الظهر مع انتصاف نهاراليوم يقول “الله أكبر” ثلاثين مرة، وفي صلاة العصر عشرين مرة، ومع غروب اليوم ونهايته خمس وعشرين مرة، وفي العشاء مع سنته والوتر خمس وأربعين مرة.إن من يقول في يومه “الله أكبر” عشرات المرات لا يمكن أن يخضع لغير الله ولا يخاف سوى سطوة الجبار المنتقم ولا يتقرب إلا لمن بيده الحياة والموت.
وإن من يقول “الله أكبر” بهذا العد الكبير في صلواته الخمس سيكون ذالك كفيلاً بتحرير قلبه وعقله وروحه .. وهل يمكن لمن يقول عشرات المرات في اليوم والليل وهو ما بين قائم وراكع وساجد للعلي الأعظم مالك السماوات والأرض (( الله أكبر))أن يرى في الوجود غير الله أو يسكن في قلبه غير الحق جل وعلا.إن الله جل وعلا عندما أمرنا في ذكره الأكبر في هذه الدنيا بأن نعظمه مع كل ركن من أركان صلاته ذلك الذكر -بل ويسمي هذه العبادة التي نجول في رحابها بأنها ذكر الله الأكبر- لا ريب أن الحق جل وعلا يريد أن تصبح عظمته وكبرياؤه أساساً لعبادته والثناء عليه، وأن تكون حياتنا –كل حياتنا بكل تفاصيلها وأحوالها- مجسدة لتلك العظمة ومنطلقة منها..ومن هنا تبدو عظمة الركن الثاني من أركان هذه العبادة الإلهية العظيمة وتبدو عظمة بقية الأركان التي تشكل بمجموعها هذه العبادة، والتي سوف يستمر السير في رحاب عظمتها وجمالها ونورها الملكوتي.
قد يعجبك ايضا