تحقيق وإعداد/عدنان الجنيد
ابن علوان (مجتهدٌ ومجددٌ):
كان شيخنا الأعظم ـ قدس الله سره ـ مجتهداً ومجدداً سواء في العلوم الشرعية أو في علوم التصوف .
* في التفسير: لم يكن مقلداً للمفسرين في تفسيرهم لآيات القرآن الكريم؛ لأنه فاقهم بعلوم اللغة بما فيها من بلاغة ومعانِ وألفاظ ومبانٍ . فعلى سبيل المثال تفسيره لقوله تعالى: [فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ… ] وقوله تعالى:[ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا] وقوله ـ أيضاً ـ [يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ].
قال ـ قدس الله سره:
أما قوله تعالى: [فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ] فإنه أراد من هذه الأمة المحمدية.[ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ]، والسهو على وجهين:
ـ سهو في الصلاة كما يعرض فيها من الوساوس والخواطر، وهو ما يحتمله عفو الله تعالى لقوله: [لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا]. وليس في وسع النفس الإنسانية دفعاً لكل خاطر.
ـ وسهو عن الصلاة وهو إيثار ما لنفسك من الحظوظ الدنيوية على ما لله، والتشاغل به إلى آخر الوقت والتباسه بوقت آخر، فهؤلاء هم المرادون بالآية.[الذين هم يراءون] أي يقصدون بالصلاة الحياء من الناس، والتعرض لحسن ثنائهم عليهم، وإقبالهم بوجوههم إليهم، أو ليأمنوهم على أموالهم ونفوسهم، فيحصلون بذلك على ما يريدون، والله أعلم بما يوعون [فبشرهم بعذاب أليم].
والماعون هو كل ما عَدِمه أخوك أو جارك ووجدته، فاحتاج إلى عاريته أو مواساة منه، فإن حَرمته ذلك فقد منعت الماعون.
وأما قوله تعالى : [وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا].
فإن طائراً هاهنا من التطُّير، وهو أن يصيبك شر أو بلاء، فتتطير بشيء تسمعه أو تراه، فتضيف ذلك الشر إليه وتحمله عليه.
وهذا مما قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : “لا طيرة”
فإذا أراد الله تعالى بذلك أنه قدم الأمر والنهي على ألسنة رسله، في تنزيل كتبه، وبَيَّن وعَيَّن، ووعد وأوعد.
فإذا كان يوم القيامة أقام الحجة عليهم بما أرسل إليهم، فيعترفون بذنوبهم، ويسارعون إلى مقت أنفسهم ولومها.
فالطائر الذي في أعناقهم هي اللائمة والمقت والتطير الذي يقع منهم عليها، [وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ].
وأما قوله تعالى : [يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ]، كل من أخذت عنه دينك وعقيدتك، وعلمك وعملك، وسيرتك ومِلّتك، دعيت به، فإن كان مُحِقاً نجا ونجاك، وإن كان مُبطلاً هلك وأهلكك.
* في العقيدة: لم يقلِّد أيَّة فرقة لا الأشعرية ولا المعتزلة ولا غيرها، بل خالفهم في ذلك، فانظر كلامه في القضاء والقدر وغيرها من مسائل العقيدة فستجد البلسم الشافي والكلام الوافي الذي تطمئن إليه القلوب، وتزداد معرفة بعلاَّم الغيوب
قال قدس الله سره ـ:
وأما القضاء الذي يلزمنا العبارة عنه، والكشف عن مشيئة ما أشكل منه، فإنه على ثلاثة أوجه :
قضاء علم ، قضاء حكم ، قضاء حتم.
ـ فأما قضاء العلم: فهو العبارة الجامعة لكل ماسبق في أم الكتاب كَوْنه، وقَدّر فيه وقته وأينه، وهو ما جرى به القلم في اللوح المحفوظ، من أقوال الخلق وأفعالهم ونيّاتهم، وهو الإمام المبين، الجامع لأشكال الخلق أجمعين.
ـ وأما قضاء الحكم: فهو ما قضى الله به في محكم كتابه من الأمر والنهي، والأحكام والحدود، والشرائع والسنن، وهو موقوف من كل مُكَلّف على الاختيار لا على الاضطرار والإجبار، كما قال تعالى:[ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ]. [اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]. [إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا] وما أشبه ذلك.
ـ وأما قضاء الحتم: فإنه ما قضى الله عز وجل به من خلق الخلق ورزقهم، وخيرهم وشرهم، ونفعهم وضرهم، وغناهم وفقرهم، وصحتهم وسقمهم، وخصبهم وجدبهم، وحياتهم وموتهم، وثوابهم وعقابهم، تدخل فيه الحسنة الدنيوية والسيئة، وتخرج عنه الحسنة الدينية والسيئة، وهو ما أراد الله عز وجل بقوله حيث أخبر عن الكفار:[ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ].
لأن الكفار كانوا في جاهليتهم لا يعرفون الحسنة إلا صحة الجسم، وكثرة المال، وذكورة الولد، وخصب البلاد، وما أشبه ذلك، ولا يعرفون السيئة إلا مرض الجسم، وقلة المال، وإناث الولد، وجدب البلاد، وما أشبه ذلك.
فنسبوا كل حسنة تأتيهم مما هذا سبيله من الله فضلاً، ونسبوا كل سيئة تأتيهم مما هذا سبيله من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تطيُّرا.
وأما القدر: فإنه مشتق من التقدير لا من القدرة، وتفسير لفظه: تأريخ المعلومات وتعينها متى تقع، وكيف تقع، وأين تقع، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (كل شيء بقضاء وقدر، حتى العجز والكيس)، أي بقضاء وقدر، معلوم أو محكوم أو محتوم، على ما ذكرنا أولاً.
ومن هنا نعلم ونعتقد أن الله قضى بالمعصية قضاءً معلوماً، وقدّر كونها من فاعلها قدراً معلوماً. ولم يقض بها قضاءً محكوماً، ولا قدّرها قدراً محتوماً؛ لأن قضاءه الحق والمعصية باطل، وحكمه العدل والمعصية ظلم، وحتمه الجبر والمعصية تمكين، والله أجلّ وأعظم وأعدل وأكرم من أن يعيب شيئاً أو يقبّحه أو يذمّه أو يغضب منه أو يعاقب عليه، وله شركة فيه بمشيئتة أو إرادة أو قضاء محكوم أو قدر محتوم.
وللاستزادة انظر كتابه (التوحيد) لا سيما الجزء الأخير الذي حوى عقيدته قدس الله سره .
* لم يقلد مذهباً :
فلم يكن منتمياً ولا مقلداً لأي مذهب من المذاهب الإسلامية، بل كان محمدياً صرفاً، وما ذُكر في مقدمة عقيدته بأنه شافعي المذهب، فإنما هو مدسوس عليه من قبل النُسَّاخ الذين جاؤوا بعد زمنه، وقد وجدنا في بعض النسخ المخطوطة أنه زيدي المذهب .وكل ذلك ليس بصحيح؛ لأن الأولياء الكُمَّل لا يتقيدون بأي مذهب كما حكى ذلك الشيخ الأكبر سيدي محيي الدين بن عربي في فتوحاته المكية.
ولأنهم ـ أيضاً ـ قد بلغوا مرتبة الاجتهاد، بل قد صار أخذهم من سيدنا رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ مباشرة دون واسطة. كذلك كلامه وقصائده ـ قدس الله سره ـ تثبت بأنه لم يكن شافعي المذهب، فقد قال ـ مشيراً إلى نفسه ـ
وخـذوا فمِـنْ بحـرِ الحقيقة تأخذوا ممَّـــن أتـــتــه بـــذلك الأنــبــــاءُ
ممَّـــن يـديــن بـديــن آلِ مـحـمــدٍ وعلــيه مــنهــم بــهـجــةٌ وضـياءُ
وهذان البيتان ضمن قصيدة طويلة في كتابه التوحيد .
فلاحظ هنا قوله: ( ممن يدين بدين آل محمد) فكلامه صريح لا يحتاج إلى تأويل . كذلك كيف يُقلِّد مذهباً من المذاهب وهو يُعدُّ إماماً من أئمة آل البيت ـ عليهم السلام ـ الذين أمرنا سيدنا رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ باتباعهم، كما جاء في حديث الثقلين وهو حديث متواتر فاعتبر واستبصر.
* في التصوف: إن شيخنا الأعظم لم يُقلِّد الصوفية الذين سبقوه أو الذين عاصروه في ضرورة اتخاذ الشيخ المربي للمريد السالك، ولا بضرورة المبايعة ولبس الخرقة ولا بأمور أخرى. وقد تكلمت عن هذا الموضوع في مقابلة صحفية.
وإليك المقال مع عنوانه:
ابن علوان …إبداعٌ يلامس أدواء العصور ويُطبِّب النفوس
أجرت الصحيفة الثقافية في العدد( (487 ) تاريخ 21 جمادى الآخرة 1430 هـ الموافق 14\6\2009م حواراً مع بعض العلماء والباحثين حول شخصية الشيخ أحمد بن علوان ، وكان السؤال الموجه للسيد عدنان الجنيد هو مايلي : هل تتلمذ الشيخ أحمد بن علوان على يد أحد رجالات التصوف ؟وإذا كان كذلك فمن هو الشيخ الذي تأثر به ؟وبماذا تميز الشيخ ابن علوان عن غيره من مشايخ الصوفية ؟ فأجاب السيد عدنان بما نصه: قبل أن نجيب على الفقرة الأولى من هذا السؤال لابد من تمهيد حتى يتسنى للقارئ فهم الجواب .
:إن من يستقرئ القرآن الكريم فسوف يجده مشحوناً بالآيات التي تبطل التقليد وتذمه وتدعو إلى إعمال العقل فمنها قوله تعالى: [وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ]البقرة:170
وقوله تعالى :[وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون]المائدة :104
إن التقليد لا يجوز عند أكابر الصوفية من المحققين فهذا الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي يقول في فتوحاته{2/162} ما نصه :((والتقليد في دين الله لا يجوز عندنا لا تقليد حي ولا ميت )).
وأمّا شيخنا الإمام أحمد بن علوان فقد نبذ التقليد بجميع أشكاله ودعا إلى تحرير العقل من كافة أشكال التقليد، ومن يقرأ كتبه فسيجد صدق ما قلناه، يقول في مقدمة كتابه التوحيد الأعظم :((الحق على الحقيقة واضح الطريقة ,ما لم تجد العقول الصافية , والأسرار الموجبة النافية ,سبيلاً إلى نفيه ولا طريقاً إلى جحوده ,اضطراراً قام عليه البرهان ,لا تقليداً لما رواه فلان عن فلان…)).
ويقول ـ أيضاً ـ في قصيدة له وإليك جزء منها :
تـدوم حـيـاة الفـرع مــادام أصـلــه علـى الـدهــر حياً يستمد من النهـرِ
فـإن غِيـض مــاء أو أصـابته علــة تنكّـس فاستلقى الجميع على الظهرِ
كذا الـروح مهما قارن الجسم قـائـم وينـقـل عنـد الانتـقـال إلــى القـــبرِ
إشــارة حــيٍّ نَّـور الحـيُّ عــقــلــه فـأصبح يـدري والمـقلِّـد لا يــدري
فالشيخ ـ قدس الله سره ـ لا يرى ضرورة اتخاذ الشيخ المربي إذا ما كان المريد عارفاً بكتاب الله وسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فلا داعي إلى أن يقلد أي شيخ من مشايخ التصوف، يقول في توحيده :((فإنه إذا كان المريد مراداً من جهة الحق عارفاً بكتاب الله عاملا ًبه ,متبعاً لسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ مقتدياً به,أثمر فيه ذاك الاقتداء,مع ما سبق له من الإرادة والهدى ,حكمة يرفعه الله بها إلى مقام المقربين ويغنيه بها عن الخلق أجمعين ,ألا تسمع إلى قوله تعالى على لسان نبيه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ[لن يتقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت’ له سمعاً وبصراً ويداً, ومؤيدا]، فهل هذا الخبر موقوف على العمل بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ؟ أم على الأخذ بأيدي المخلوقين ـ أي من مشايخ التصوف ـ [وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا] إذاً فشيخنا ابن علوان يرى أن العمل بكتاب الله وسنة رسول الله مباشرة أولى من التتلمذ والأخذ من رجال التصوف إلاّ إذا كان المريد جاهلاً بكتاب الله ,وسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فعليه بالبحث عن شيخ ليدله على كيفية العمل بكتاب الله وسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يقول شيخنا ابن علوان في توحيده :« متى كان المريد جاهلاً بكتاب الله ومعانيه وسنة رسول الله ومبانيه ,احتاج في ذلك إلى شيخ يفقِّهه في الدين ويدخله في جملة السالكين » .
وهنا سؤال ـ وهو بيت القصيد ـ ما سبب طرح ابن علوان لهذا الكلام السابق ؟! الجواب: هو أن شيخنا ابن علوان كان موهبة من مواهب الحق، ومراداً من قبل الله تعالى، عاش عيشاً هنياً طيباً، وتوفرت له جميع إمكانات طلب العلم، حيث ورث مكتبة عظيمة من أبيه تحوي جميع فنون العلم، والذي ساعده على هذا هو أن أباه كان كاتباً للملك المسعود بن الملك الكامل، فقد ذكر العلامة الجندي في كتابه (السلوك) بأن علوان كان كاتباً للملك المسعود وأنه كان يسكن مع الملك في جبل صيد المسمى الآن بجبل سمارة محافظة إب ثم أنتقل إلى قرية ذي الجنان إحدى قرى جبل حبشي ..
المهم أن الشيخ نشأ والكتب بين يديه، فبحث واطلع على جميع الفنون وتبحَّر بكل العلوم حتى لمع اسمه ,واشتهر ذكره, فتكلَّم في الحقائق الوهبية ,والعلوم الغيبية , والغرائب العلوِّية, مما أذهل فقهاء عصره ,وعلماء مصره ,فأنكروا عليه بحجة أنه لم يتتلمذ في بداية سلوكه على يد شيخ، ولهذا ردَّ عليهم برسالة في إثبات الشيخ وصفاته التي استحق بها ذلك ,ثم تلاها الجواب على سؤال : متى يحتاج المريد إلى الشيخ ومتى يستغني عنه؟! انظر كتابه التوحيد صفحه (311ـ316)..