الزامل .. ودوره في معركة التحدي والصمود
عبد الرحمن مراد
ربما عاشت اليمن واقعا مغتربا على ذاته في سنوات الانفتاح على العولمة ،وطرأت في حياتنا وفي تعاطينا مع المستويات الحضارية الجديدة بعد عام 90م مصطلحات العولمة والتحديث والحداثة والابوية والقطيعة مع الماضي وغيرها من المصطلحات التي ساهمت في تغريب الذات عن واقعها وانفصالها عنه بشكل أو بآخر، ولذلك خرج المجتمع عن نسقه الثقافي والحضاري , وكانت ثورة 21سبتمبر 2014م بمثابة عودة النهر إلى منابعه الاصلية , وفي ذلك تكمن أسرار الاستمرار والصمود الذي يجسده مجتمعنا في مواجهة تحديات المرحلة وظروفها وصعوباتها في ظل هجمة التحالف الدولي في محاولة فرض ثنائية الخضوع والهيمنة عليه.
لقد ظل اليمن عصيا على تلك الثنائية بقوة وتضافر العوامل الحضارية والثقافية والتاريخية وكان الزامل هو الرافد الاساسي في بعث الهمم وشحذها ،وهو من الفنون التي تعارف مجتمعنا عليها منذ القدم , فهو يحضر مع الانسان في حربه وفي سلمه وفي علاقاته الاجتماعية وفي كل مناشط دورة الحياة مع الفنون الاخرى.
سوف يتحدث التاريخ الثقافي اليمني عن حركة أنصار الله كقوة اجتماعية وثقافية وسياسية حاولت أن تعيد الانسان الى ذاته وتبعث فيه مقومات وجوده الحضارية وتشعره بقيمته الحضارية وبأهمية ما أنتجه أجداده من موروث ثقافي في صياغة وجه الحياة والتأثير في السياقات الحضارية للبشرية جمعاء.
لقد كان تأثير الزامل مشهودا في صياغة ملحمة الصمود اليمني الذي أبهر العالم وأحرار العالم فوقفوا أمامه بقدر كبير من التمعن والدهشة.
لقد شكَّل لطف القحوم ظاهرة جديدة في الزامل تستحق القراءة والتأمل، فقد كان امتدادا متجددا لهذا الفن وبعثه وتجديد ألحانه حتى كادت أن تلهب القلوب حماسا ,- ودور لطف لا يلغي دور عيسى الليث وغيره – فالزامل الذي أبدعه لطف عمل على ربط الوطنية بهويتها وربطها بجذرها الحضاري والثقافي، وقد ساهم في بعث فنون أخرى كادت تندثر كالبالة والشلة والرزفة ، وهي فنون انتقلت عبر الهجرات إلى شمال الجزيرة في النصف الثاني من القرن العشرين ،فالبالة أصبحت تعرف بفن المحاورة عند عرب الصحراء , والشلة أو الهجلة وتعرف بالشيلة والرزفة في اليمن وبعد انتقالها مع حركة الهجرة إلى شمال اليمن أصبحت تعرف بفن العرضة ،في حين أن عرب الصحراء لم يكن لهم من الفنون سوى فن حداء الابل وهو معروف في اليمن ولهم فيه صولات وجولات تعبِّر عن مستواهم الحضاري الذي وصلوا اليه والذي يختلف كثيرا في الشكل وفي المضمون العام.
وأمام تيار العولمة الجارف أصبح من الواجب الوقوف أمام التراث اللا مادي اليمني واعتباره مادة للدرس والبحث صونا لهويتنا الثقافية والحضارية من الانجر اف في مستنقع العالم الجديد، فالمنظمات الثقافية الدولية اليونسكو تقول :
“يشكل التراث الثقافي غير المادي- رغم عامل الهشاشة- ركيزة مهمة في الحفاظ على التنوع والتراث الثقافي في عصر العولمة المتزايدة، ففي فهم التراث الثقافي غير المادي للمجتمعات المحلية المختلفة يساعد على الحوار بين الثقافات ويشجع على الاحترام المتبادل لطريقة عيش الآخر.
ويعتبر الحفاظ على التراث غير المادي حماية للهويات الثقافية، وبالتالي التنوع الثقافي للبشرية، ويشمل التراث غير المادي على سبيل المثال لا الحصر -المهرجانات التقليدية والتقاليد الشفهية، والملاحم، والعادات، وأساليب المعيشة، والحرف التقليدية، وما إلى ذلك، فقد أصبح واحداً من أولويات اليونسكو في المجال الثقافي. “.
وقد وصلت اليونسكو الى مفهوم محدد للتراث اللا مادي ،حيث ترى أنه :
الممارسات والتمثلات والتعابير والمعارف والمهارات وكذا الآلات والأدوات والأشياء الاصطناعية والفضاءات الثقافية المرتبطة بها والتي تعترف بها الجماعات والمجموعات وإذا اقتضى الحال الأفراد باعتبارها جزءا من تراثهم الثقافي، وهذا التراث الثقافي اللامادي ينتقل من جيل إلى جيل، ويقع بعثه من جديد من قبل الجماعات والمجموعات طبقا لبيئتهم وتفاعلهم مع الطبيعة ومع تاريخهم، وهو يعطيهم الشعور بالهوية والاستمرارية، بما يساهم في تطوير احترام التنوع الثقافي والإبداع الإنساني”..
وعلى ضوء هذا التعريف يتجلى “التراث الثقافي غير المادي” بصفة خاصة في المجالات التالية:
* التقاليد وأشكال التعبير الشفهي، بما في ذلك اللغة كواسطة للتعبير عن التراث الثقافي غير المادي.
* فنون وتقاليد أداء العروض.
* الممارسات الاجتماعية والطقوس والاحتفالات.
* المعارف والممارسات المتعلقة بالطبيعة والكون.
* المهارات المرتبطة بالفنون الحرفية التقليدية.
ويقصد بعبارة «الصون» التدابير الرامية إلى ضمان استدامة التراث الثقافي غير المادي، بما في ذلك تحديد هذا التراث وتوثيقه وإجراء البحوث بشأنه والمحافظة عليه وحمايته وتعزيزه وإبرازه ونقله، لا سيما عن طريق التعليم النظامي وغير النظامي، وإحياء مختلف جوانب هذا التراث. ”
ولعل الواقع قد أفصح عن أهمية هذه الفنون اليوم ،فقد كان دورها محمودا ومشهودا في زمن الصمود والتحدي في مواجهة الهجمة الشرسة التي تشنها دول التحالف على اليمن منذ أعوام أربعة وأكثر،كما أن الانفصال عن السياقات الثقافية والحضارية وعن الفنون التقليدية اغتراب وتيه , وإذا اغتربت الذات عن زمنها وواقعها وتاريخها وثقافتها فقد حكمت على نفسها بالفناء المؤجل , لذلك كان بعث العادات القبلية والطقوس والممارسات الاجتماعية هو العامل الأبرز في توحيد الصف وردع الخصم الغشوم , ولعلنا نذكر حضور النكف وحضور الفنون بقوة في سياق هذه المعركة، ولا يستطيع أحد نكران الدور الفاعل الذي أحدثته في الوجدان الجمعي وفي المخيال الابداعي الذي استنفر كل طاقته ليبدو قويا بقوة حضارته وبعمقها التاريخي ولذلك كان النص الشعبي، والفنون الشعبية الأكثر حضورا ومقاومة لعوامل الفناء التي أرادها التحالف لليمنيين ،وهي لا تقل أهمية عن صاروخ “كروز” الذي استهدف مطار أبها والذي أحدث تحولا في مسار المعركة العسكري والسياسي والإعلامي.