
الأستاذ الكبير محمد عبدالرحمن المجاهد .. ينتمي إلى جيل المعاناة والتضحيات .. ذلك الجيل الذي ولد في منتصف أربعينيات القرن المنصرم .. وعاش حياة مريرة وقاسية لا مكان فيها لإنسانية الإنسان .. ورغم بؤس الواقع ذهب يتنقل مشياٍ على الأقدام بين مدينة وقرية بحثاٍ عن النور والعلم والمعرفة والحرية.
وكغيره من جيل الخمسينيات ظل الأستاذ المجاهد يحلم بالثورة على العبودية والظلم والتفرقة والاستعمار.. وعندما صعد نجم ثورتي 26 سبتمبر و14 أكتوبر ..انخرط بالعمل الوطني يبشر بأهداف الثورة ومبادئها ..يرصد مسارها وتحولاتها ..إنجازاتها وانكساراتها .فقد جمع بين السياسة والصحافة والثقافة .. بقلمه وفكره خاض معارك مختلفة من أجل حرية شعبه وكرامته وعزته ووحدته ..تبنى هموم وطنه على غير صعيد ومازال حاضرا في المشهد السياسي وأكثر عطاء في ميدان الكلمة .
والأستاذ المجاهد الزاهد يتميز بدماثة الخلق ورقة الأسلوب وشاعرية السلوك ونقاء السريرة وعفة النفس ..ولعل هذه الصفات هي التي جعلته مخلصاٍ في أداء وظيفته في كل المناصب الحكومية التي تقلدها بدءا بعمله في مكتب الزراعة وحتى رئيسا لتحرير ومجلس إدارة مؤسسة الجمهورية للصحافة والطباعة النشر في تعز ليخرج منها دون أن يؤمن لأولاده حتى منزلاٍ.
لكن تلك الصفات الجميلة .. لا تمنعه من أن يقول لك آراءه الصريحة أحياناٍ إزاء قضايا تتعلق بالعمل العام أو السلوك السياسي وبهذه الروح عرفته ..وهو لم يزل متمسكا بها حتى اللحظة ..إذن تجربة ومسيرة الأستاذ المجاهد التي تنشرها “الثورة” هي في الواقع قصة حياة كفاح وعطاء جيل الخمسينيات والستينيات الحافلة بمحطات عديدة من تاريخ يمن لا يعرفه كثيرون من شباب اليوم.
وإلى تفاصيل الحلقة الأولى..
, رابطة الطلبة اليمنيين في مصر شكلت مركز إشعاع وحدوي ووطني لأبناء الشمال والجنوب
, رفضت رغبة والدي في حب القضاء فهربت إلى “الأحمدية “بموافقة الإمام أحمد
, تفكير أبناء جيلي انصب على التخلص من التخلف وقيام نظام جمهوري عادل
, رشحت مع علي محسن للالتحاق بالكلية الحربية في القاهرة فرفض المصريون قبولي
, عندما رفضت الخروج من كلية الضباط والأركان بالقاهرة أعادوني إلى صنعاء”مزفرا
, الذين ينكرون انجازات ثورتي سبتمبر وأكتوبر لا يعرفون تاريخ اليمن ويفكرون بعقلية المصالح الخاصة
¶ قلت له :أستاذ محمد المجاهد.. ونحن نبحث عن الحاضر ورؤيتك للمستقبل فدعنا نبدأ حوار الذكريات من الميلاد إلى الطفولة والصبا ..فكيف كانت ظروفها ¿
– ميلادي كان في عام 1944م وهو العام الذي قام فيه الطاغية ولي العهد أحمد حميد الدين بحملة اعتقالات واسعة لعدد من الشخصيات الوطنية في كل من صنعا وذمار وإب وتعز بحجة معارضتهم للحكم الإمامي البغيض الذي اعتمد في حكمه وتسلطه على الشعب بالتجهيل والشعوذة والدجل حيث تم جمع كل ألئك الأحرار الوطنيين إلى تعز لوجود الطاغية فيها ثم تم ترحيلهم إلى حجة على حافلات كبيرة تسمى “بالبوابير” وهم مقيدين كل اثنين أو ثلاثة بقيد واحد ومن جملتهم كان والدي رحمه الله القاضي العلامة عبدالرحمن عبدالولي المجاهد .. وهناك تم توزعهم على سجني الرادع والقلعة حيث مكث والدي في القلعة عامين ونصف ولم يكتف الطاغية أحمد بحبس الوالد بل أمر أن يهدم دار الأسرة المسمى بدار (العطبة) وذلك بعد هدمهم لدار جازم الحروي ولولا وقوف أعمامي وعديد من آل المجاهد وفي مقدمتهم القاضي العلامة احمد بن علي بن عبدالكريم المجاهد الذي كان يحظى بتقدير واحترام الطاغية أحمد حميد الدين لكان تم هدم الدار الذي كان الطاغية يسميه (دار الندوة) على غرار دار الندوة الذي كانت تجتمع فيه قريش لتتآمر على رسول الله محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم ..
¶ وبالعودة إلى الطفولة .. ماذا تقول عنها ¿
- طفولتي لا تختلف بشيء عن طفولة كل الناس الذين عاشوا في زمن ذلك العهد البغيض عهد الخوف والجهل والمرض أيام ما كانت الأمراض تحصد المئات بل والآلاف من المواطنين لا ينجوا منها إلا أبناء الأسرة الحاكمة وزبانيتهم وبعض سراة القوم فلم تكن هناك مستشفيات ولا أطباء ولا أدوية فكان الناس ليس أمامهم إلا الأعشاب ليتداووا بها أو الوسائل البدائية واللجوء للدجل والشعوذة والعبد لله لولا عناية الله سبحانه وتعالى ورعاية خالتي التي تولت تربيتي واحتضاني لكنت ذهبت ضحية أية (جازعة) مرضية كأمثالي من الأطفال وغير الأطفال ..
¶ تلقيت تعليمك الأولي في تعز ثم زبيد .. ماذا بقي من صور تلك المرحلة ¿ خاصة التعليم أيام زمان ¿
- عند بلوغي العام السابع أخذني والدي للعيش معه وفي كنفه في مدينة تربة ذبحان مركز قضاء الحجرية وناحية المقاطرة أيضا حيث كان حينها يعمل حاكما شرعيا لناحية المقاطرة عقب ذلك أحضر والدي معلما من يفرس مركز ناحية جبل حبشي كان يدعى سيف سلطان درست على يده القرآن الكريم وبعض متون الفقه واللغة والفرائض ثم ذهبت إلى مدينة زبيد واستكملت دراسة ما بدأته في مدينة التربة إضافة إلى مصنفات ومتون أخرى في أصول الفقة واللغة العربية والمواريث وغيرها من العلوم على يد بعض علماء ومشايخ زبيد منهم العالم الجليل السيد محمد بن سليمان الأهدل رحمه الله والشيخ الجليل محمد حنفي والشيخ الجليل عبدالله زيد رحمهما الله ومكثت في زبيد عاماٍ كاملاٍ ثم لظروف قاهرة عدت إلى مدينة يفرس لمتابعة تعليمي على يد عمي القاضي العلامة عبدالله عبدالولي المجاهد رحمه الله الذي كان حاكما شرعيا هناك وبعد عدة أشهر جاء والدي و أخذني معه إلى التربة لأواصل تعلمي على يديه وبعد فترة بدأت أتطلع للالتحاق بمدرسة التربة التي كانت ضمن المدارس الحكومية المحدودة في اليمن كله بعدد أصابع اليد ورغم محدودية منهج تلك المدارس إلا أن الرغبة كانت في تعلم بعض العلوم الحديثة التي كانت تدرس هناك كالرياضيات وبعض المواد العلمية الأخرى ورغم ممانعة والدي إلا أني استعنت حينها لإقناعه بالقاضي علي الحداد مساعد حاكم قضاء الحجرية الذي كان متنورا تجاه العلوم الحديثة بل أن أولاده كانوا يدرسون في دول عربية منهم الأستاذ المرحوم أحمد علي الحداد وكيل وزارة الخارجية في عام 1967م وما قبلها .
المهم أني التحقت بتلك المدرسة ومكثت فيها عاماٍ دراسياٍ كاملاٍ بعد ذلك عمل والدي جزاه الله عني خيرا أن يلبسني العمامة تمهيدا لأصبح قاضيا مثله ولكني لعدم اقتناعي بما يريده والدي وحتى لا يجبرني على ما يريد قررت الفرار مشيا على الأقدام إلى تعز وذلك لنفوري الشديد من الممارسات التي كان القضاة حينها يتبعونها مع الرعية من ارتشاء وغيره وما أن مضت أيام قليلة على بقائي في تعز حتى حررت رسالة إلى الإمام أحمد أطلب منه الموافقة والتوجيه بقبولي طالبا في المدرسة الأحمدية وذلك لأن الإمام الطاغية كان رابطا شئون البلاد صغيرة وكبيرة بيديه حتى ( البقشة ) التي كانت لا تساوي واحد من أربعين من قيمة الريال لا تصرف إلا بأمره وكذلك الحال على كل شيء وبعد مضي شهرين وجه الإمام بقبولي طالبا في المدرسة والتحقت قي الصف الرابع ابتدائي الذي كان يوازي الصف السادس ابتدائي في النظام الحديث لضعف معلوماتي في المواد العلمية الحديثة كالرياضيات وغيرها ومكثت عام دراسي ونجحت في الامتحان النهائي ونتيجة للوساطة التي جاءت تطوعية من بعض أصدقاء الوالد منهم القاضي محمد بن حسن الإرياني جزاه الله عني كل خير استخار الله والدي وأرسلني على نفقته إلى مصر للدراسة أسوة بأولاد عمي الذين سبقوني قبل عام.
¶ ومن هم أبرز أساتذتك وزملاء المدرسة¿
- أساتذتي في المدرسة الأحمدية هم الأستاذ المرحوم محمد الشيخ مدرس اللغة العربية وقد مارس بعد الثورة العمل الصحفي في صحيفة الثورة وفي مجلة معين مديرا للتحرير والأستاذ المرحوم محمد الحوثي مدرس الرياضيات والأستاذ المرحوم حسن مسواك مدرس العلوم والأستاذ المرحوم محمد مثنى مدرس مادة الدين والأستاذ المرحوم محمد الحسني مدرس مادة القرآن والأستاذ المرحوم المصري عبدالرحيم مدرس اللغة الإنجليزية أما زملائي في الدراسة كثيرون في مدرسة التربة حجرية والمدرسة الأحمدية منهم الدكتور أحمد نعمان الشريف والعميد منصور محمد أحمد ناجي والمرحوم محمد يحيى البصير والمرحوم محمد عبدالله عبدالمجيد المنصوب والمرحوم محمد عبد الرحمن الناظر والمرحوم أمين أحمد محمد نعمان والمرحوم عبدالعزيز سلطان عبدالله مغلس ..
¶ وكيف تصف لنا البيئة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي عشتها في ظل العهدين.. الإمامي والبريطاني¿
- لك أن تتصور كيف ستكون البيئة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في نظام إمامي في شمال الوطن واستعمار بريطاني في جنوبه فلم يكن حينها إلا الخوف البطش والجوع والجهل والانعزال ليس بين اليمن والخارج وإنما بين المدن والقرى في الداخل نتيجة لانعدام الطرق وكل وسائل الاتصالات ونتيجة لانعدام التعليم الجيد والمتطور ونتيجة أيضا لانعدام المرافق الصحية والأطباء وقبل كل ذلك نتيجة للبطش والإرهاب والجبروت الذي كان يمارس ضد المواطنين شمالا وجنوبا فقد كانت الثقافة رجساٍ من عمل الشيطان ويكفي قول الإمام أحمد الشائع مهددا معارضيه الأدباء والمثقفين ( إني أحب أن ألقى الله وسيفي مخضب بدماء المثقفين ) أوالمتثقوفين بحسب تعبيره لنعرف وضع الثقافة والمثقفين في عهد الظلم والظلام ..
¶ دعني أعود وأسألك عما كان يشغل أبناء جيلك ¿ وبأي شكل كنتم تفكرون في مستقبل اليمن¿
- لم يكن يشغل أبناء جيلي من عرفتهم وزاملتهم أو احتككت بهم سوى التحصيل العلمي ليكون ذلك عاملاٍ مهماٍ في الخلاص من الحكم الإمامي المتخلف في شمال الوطن ومن الاستعمار البريطاني في الجنوب لذلك كان التفاعل المطلق مع وفي المواقف النضالية سواء في الشمال أو الجنوب الذي انعكس على واقع النشاط السياسي والثقافي من خلال تكوين الجمعيات والمنظمات والأحزاب وقد كان كل تفكير غالبية جيلي ينصب في التخلص من الواقع المتخلف وقيام نظام جمهوري يرتكز على المساواة والعدالة والتطور في كل مناحي الحياة واللحاق بركب الحضارة الحديثة ..
¶ وما تأثير ذلك الواقع على نشأتك ..وعلى أبناء جيلك ¿
- طبعا كان للواقع الذي كنا فيه تأثير مؤلم وسيئ ويكفي أننا حرمنا من التعليم المتطور وأن شعبنا تخلف قروناٍ عدة عن غيره من شعوب العالم ولكن ذلك خلق فينا العزم والتصميم الذي كانت نتيجته ثورتي سبتمبر وأكتوبر وما سبقتهما من إرهاصات ثورية ونضالية ..
¶ هل يتذكر الأستاذ محمد المجاهد دخوله الميدان السياسي¿
- لا أتذكر متى كان دخولي الميدان السياسي إلا أن وعي الثقافي والسياسي بدأ مبكرا جدا وذلك بفضل استماعي للإذاعات المصرية وغيرها وما كنا نسمعه عن الثورة المصرية وحديثها عن حرية الشعوب واستقلالها عن الاستعمار والاستبداد ثم تأثري حينذاك بمحتوى الصحف والمجلات العربية والمصرية منها بالذات التي كانت تأتي لعمي القاضي محمود عبدالولي المجاهد من عدن وأيضا للحديث الذي كنت أسمعه من والدي وأعمامي عن الواقع في اليمن وفي العالم العربي أثر كبير في تكوين وعي الثقافي والسياسي وذلك أيضا ولد في نفسي حب القراءة ومطالعة الكتب بمختلف مشاربها ولن تصدق أني في عمر الثالثة عشر قرأت كل أجزاء تاريخ الإسلام لجورجي زيدان وأجزاء الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني وغيرها من الكتب كل ذلك خلق في نفسي القدرة المبكرة على الفهم والتحليل وعند سفري إلى القاهرة بدأت أتلمس الاتجاهات السياسية والفكرية وبالذات ما يدور من خلافات فكرية بين الطلاب والجالية اليمنية ولم أنتمي حينها لأي حزب إلا أني انجذبت لحزب البعث بحكم الصداقات الكثيرة مع بعض المنتمين إليه ولأن البعثيين كانوا الأكثر نشاطا رغم ما كانوا يعانونه من مضايقات المخابرات المصرية وملاحقاتها مما أكسبهم تعاطف أغلبية الطلاب اليمنيين ومكنهم من النجاح في السيطرة على نادي الطلبة اليمنيين حينها ..
¶ محطتك التالية كانت مصر للدراسة .. في أي عام ¿ ما هي ذكرياتك عن تلك المرحلة.. الحياة الطلابية نشاط رابطة الطلبة اليمنيين¿
- سافرت إلى القاهرة عام 1961م .. أما الحياة الطلابية فقد كانت مرتبطة بهموم الوطن وما يعانيه وما يجرى من أحداث كحادثة مظاهرات الطلبة قي صنعا تعز وموت الإمام أحمد عقب مظاهرات الطلبة وأيضا ما يحدث في الشطر الجنوبي من الوطن ونشاط رابطة الطلبة أو ما سمي بنادي الطلبة اليمنيين فقد كانت تنشط كثيرا في متابعة قضايا الطلاب سواء المتواجدن في القاهرة أم الذين يصلون من اليمن إضافة إلى تفاعلها مع الأحداث الوطنية أوالعربية أما ما كانت تسمى برابطة أبناء الجنوب فقد كانت شبه معزولة عن نشاط الطلبة اليمنيين ..
¶ كانت القاهرة في ستينيات القرن المنصرم زاخرة بنشاط التيارات السياسية القومية والليبرالية والإسلامية ..ما ملامح القضايا والصراعات التي رصدتها¿
- نعم كان النشا ط السياسي على أوجه.. إلا أنه تغلب عليه السرية بحكم أن السلطات المصرية كانت تحرم النشاط الحزبي إلا أن الواقع في صفوف الطلاب وكافة اليمنيين المتواجدين أنهم كانوا لا يعبأون بذلك فكان أغلبهم متحزبين منهم البعثيين والحركيين المنتمين لحركة القوميين العرب والشوعيين والإخونجين إلا أن أكثريتهم كانوا منتمون للبعث وبعدهم يأتي الحركيون أما حينها فقد كان الشوعيون قلة وأقلهم الإخوان المسلمون ومع ذلك لم تكن هناك صراعات حادة بين الطلبة بل كان هناك وئام وبالذات عند الأحداث الوطنية وعند الملمات .
> ماذا أعطتك مصر مثلا¿
- أعطتني القاهرة الكثير من الثقافة والعلوم وعرفت ما لم أعرفه قبل وجودي فيها ويكفي أنها غرست في وجداني النزوع إلى المبادئ الثورية والإيمان بالوطن وبالقومية العربية التي كان يشدوا بها الزعيم الخالد جمال عبد الناصر وتتبناها كافة الأحزاب القومية ..
¶ ولكنك غادرتها عائدا إلى الوطن دون أن تكمل دراستك الجامعية..ما الحكاية¿
- هذه لها قصة طويلة .. فبعد مكوثي ما يقرب العامين ونصف وبعد قيام الثورة السبتمبرية المباركة وفي يوم من الأيام وأنا متواجد في السفارة اليمنية لفت نظري إعلان لمن يرغب في الالتحاق بالكلية الحربية في القاهرة وسريعا ما توجهت إلى الملحقية العسكرية المختصة بذلك وسجلت اسمي ضمن المتقدمين وفعلا حددوا لي الموعد مع جميع زملائي المسجلين وأغلبهم جئ بهم عبر السلطات المصرية أو عبر قيادة قواتهم في اليمن وهم إما أولاد مشايخ أو أعيان وكنت أنا والكابتن علي محسن المريسي فقط اللذان كنا في مصر منذ سنوات وسجلنا عبر السفارة المهم أننا تجمعنا في الكلية ومكثنا ما يقارب فيها نصف شهر أو أكثر لغرض اختبارات القبول وللأسف لم أقبل لأسباب صحية أنا وبعض من أتوا من صنعاء ثم أرسلنا إلى التوجيه المعنوي للقوات المسلحة وهناك التقينا بالمسؤول المختص الذي رحب بنا واقترح علينا أن يرسلونا للالتحاق بكلية ضباط احتياط التي تتبع نظام الدورات أي لن نمكث فيها سوى ستة أشهر ونصبح ضباط احتياط ولكن عند ذهابنا إلى هناك فوجئنا أن الدراسة قد مضى عليها في الكلية شهر كامل فتم إعادتنا إلى التوجيه المعنوي في القاهرة ومرة أخرى يقترح المسؤول المختص علينا أن نلتحق في مدرسة المشاة لأخذ دورة في سلاح المشاة إلى أن تبدأ الدراسة في كلية ضباط احتياط فوافقنا وتم بعد ذلك استئجار شقة من قبل التوجيه المعنوي في مصر الجديدة لنا ولعدد من الضباط اليمنيين الذين يأخذون دورات في المدارس العسكرية المصرية وبقينا نذهب يوميا إلى مدرسة المشاة للدراسة والتدريب على أسلحة المشاة لعدة أشهر.
¶ وبعدين ما الذي حدث ¿
- في يوم ما وبعد تناول وجبة الغداء وكما هي عادتي في وقت الفراغ كنت أقرأ أي كتاب تطاله يدي وقد كان بحوزتي في تلك الفترة كتاب في سبيل البعث لميشيل عفلق أعطاني إياه الأخ عبدالمجيد الخليدي (همرشولد) كما كنا نلقبه لأنه كان دائما يتكلم سياسة وينشط كثيرا في العمل الحزبي والسياسي وهو الآن دكتور نفساني كبير فحدث أن أعطاني الكتاب في وقت كنت فيه متوجها إلى الكلية الحربية فأخفيته في طيات ملابسي حتى حانت الفرصة لقراءته وأثناء القراءة فوجئت بأحد الزملاء ويدعى محمد الحذيفي أو الجحيفي لا أتذكر لقبه يخاطبني مستنكراٍ قراءتي للكتاب فأجبته بأنه ليس هناك ما يمنع فسكت حينها ولكنه وأثناء التدريب في المدرسة يخاطب المدرب ويدعى الشاويش سليم قائلا له: أن محمد المجاهد يقرأ كتاب في سبيل البعث .. فقد أجبت بتأكيد الكلام وانقطع الحديث حينها ولكن بعد مضي أربعة أيام وفي يوم خميس وكان هذا اليوم من كل أسبوع يخصص للتوجيه المعنوي أي للمحاضرات وخلافها وأثناء المحاضرة وكانت عن القضية الفلسطينية وغيرها من القضايا العربية وكنت الوحيد أعقب على المحاضر بل وأصحح له بعض المعلومات وإذا به فجأة يلتفت نحوي ويسألني هل تقرأ كثيرا¿ فأجبته بنعم ..فقال :أي كتب تقرأ ¿ فأجبته بأني أقرأ أي كتاب أحصل عليه أو اشتريه .. فقال :حتى كتاب في سبيل البعث ¿ فأجبته بنعم ..وعاد يقول باللهجة المصرية: “بس دي كتب هدامة ” فأجبته لكن عبدالناصر قال بأنه يجب أن نقرأ عن الأفكار الأخرى والمعارضة حتى نحتاط منها فأفحم وسكت ولكنا نحن الطلبة أنا وزملائي السبعة فوجئنا بإبلاغنا بان الاختبار بعد ثلاثة أيام.. أي أنهم اختصروا شهرا من مدة الدورة وفعلا جرى اختبارنا وكنت الأول على أقراني وفجأة وجدنا أن ملفاتنا والمسؤولية علينا انتقلت إلى مكتب شؤون اليمنيين في مبنى القيادة العامة للقوات المسلحة وكان يرأس ذلك المكتب لواء يلقب بالبريمي فقاموا هناك بإرسالنا إلى معسكر الاستقبال قي العباسية لإجراء الفحوصات الطبية علينا مرة أخرى تمهيدا للالتحاق بكلية ضباط الاحتياط ومرة أخرى يظهر الفحص الطبي بأني مصاب بالتهاب الرئتين وعليه قرر مكتب شؤون اليمنيين إعادتنا أنا و ستة من الذين أتوا عن طريقهم إلى صنعاء .. فاعترضت على إعادتي معهم إلى صنعاء بحكم أني تقدمت للكلية الحربية عبر السفارة اليمنية وأني أرغب بمواصلة دراستي كما كنت قبل الالتحاق قي الكلية وتدخل في الموضوع العقيد محمد عبدالوهاب نعمان نائب الملحق العسكري اليمني وأظهروا له أنهم قد اقتنعوا بكلامه وأنهم سيرجعوني إلى السفارة .
¶ وكيف انتهت القصة ¿
- بالطبع النهاية لم تكن سارة بالنسبة لي .. فقد حدث بعد ما عدنا إلى السكن المخصص لنا وأتذكر ذلك جيدا ..أي في الساعة الوحدة بعد الظهر فوجئنا بمجموعة من الشرطة العسكرية تدخل علينا وتطلب منا التوجه إلى مبنى القيادة العامة مكتب شؤون اليمنيين وفعلا ذهبنا وما أن دخلنا على سكرتير مدير مكتب اللواء البريمي وكان يدعى بالمقدم عصمت حتى بادرنا بالقول أنهم سيعيدوننا في ذلك اليوم إلى صنعاء ..وعند ما اعترضت على ذلك التصرف وطالبت بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه صباحا مع العقيد محمد عبدالوهاب نعمان نائب الملحق العسكري إذا به يشخط فينا ونخط.. وعندما بدأنا نشاغب رفع سماعة التلفون وطلب مجموعة من الشرطة الجوية حيث تم احتجازنا هناك حتى الساعة الثانية بعد منتصف الليل محاطين بخمسة عشر من جنود الشرطة الجوية وكانوا قد رتبوا (طائرة أنتي نوف) حربية وفي الساعة الثانية بعد منتصف الليل أخذونا بسيارة عسكرية وبرفقتنا جنود الشرطة الجوية إلى المطار الحربي وهناك أركبونا الطائرة التي أقلتنا إلى صنعاء أي أنهم رموا بنا في المطار لا مال ولا ملابس إلا ما كنا نرتديها..تخيل أنهم عندما حجزونا في مكتب شؤون اليمنيين لم يسمحوا لي شخصيا أن أذهب إلى السكن لأخذ ملابسي ومتعلقاتي وهذه قصة عودتي من القاهرة.. أي أني عدت ( مزفرا ) أو مطرودا كما يقولون …
¶ وأين كنت عشية قيام الثورة¿
- كنت حينها في مصر ..
> وماذا فعلت مع أبناء جيلك يوم إعلان إذاعة صنعاء نبأ سقوط الملكية وقيام الجمهورية¿
- فرحنا كثيرا وسرعان ما تجمعنا في السفارة اليمنية وقام البعض منا بنزع وإبعاد صور الإمام أحمد وصور أفراد أسرته وأي شيء يكرس المظاهر الإمامية وقد تجمع معنا هنالك كل اليمنيين وعلى رأسهم وفي مقدمتهم أبو الأحرار الشهيد محمد محمود الزبيري والأستاذ أحمد المعلمي رحمهما الله حيث ألقى الشهيد الزبيري خطابا أشعل حماس الحاضرين تجاه الثورة والجمهورية ..
¶ وماذا بقي من الصور الحية في ذاكرة الأستاذ المجاهد عن المد الجماهيري أو الشعبي في عموم اليمن (من الشمال إلى الجنوب).. كما الصور التي عبر اليمنيون بها عن وحدة الثورة والنضال¿
- كثيرة هي الصور والمواقف الحية التي تختزنها الذاكرة وأهما ذلك الالتفاف الجماهيري الذي حصل من جانب كل المواطنين الذين انخرطوا جميعا في القوات المسلحة وفي الجيش الشعبي من الشمال والجنوب دفاعا عن الثورة والجمهورية وقدموا الأرواح والدماء رخيصة لدحر الإمامة وأعوانها في الداخل والخارج ومثل ذلك التلاحم عن وحدة النضال والمصير الواحد ..
¶ كيف عشت مسيرة ثورة 14 أكتوبر 1963م منذ الإرهاصات الأولى ثم اندلاعها وحتى خروج آخر جندي بريطاني من عدن وإعلان الاستقلال في نوفمبر 1967م¿
- منذ بداية الإرهاصات الثورية والنضالية ضد الاستعمار البريطاني وأنا وكثير من أبناء جيلي نتفاعل مع ذلك المد النضالي بل وأحيانا كنا نشارك في أي نشاط أو فعالية تناصر وتبارك مطالب إخواننا في الجنوب في الاستقلال والتحرر من الوجود الاستعماري ولذلك كانت مواقفنا نحن الطلبة اليمنيين داعمة ومؤيدة لكل مبادرة أو نشاط يخدم القضية النضالية ويسرع بخروج الاستعمار .
¶ أستاذ محمد لو انتقلنا إلى الحديث عن أجواء الثورة اليمنية الراهنة¿
– في الواقع ان الحديث يتجدد عن ثورة سبتمبر 1962م وقد مضى على اندلاعها 51عاما ..وثورة أكتوبر 1963م وهي في يوبيلها الذهبي هذا العام ..وما زال الجدل يحتدم بين أنصار وخصوم الثورتين حيث تغيرت مواقع ومعالم وتحققت مكاسب بالرغم من وجود سلبيات.. ولعل هذا النقاش هو الذي يفرض السؤل التالي ..كيف نضع الثورتين في ميزان التقييم التاريخي بدون تشويه ¿ – سؤالك هذا كبير ومهم جدا ..والإجابة عليه بحاجة إلى وقت وصفحات لكني استطيع القول ان التقييم المنصف لا يمكن أن يتجاهل أن للثورتين 26سبتمبر و14أكتوبر إنجازات عظيمة أهمها التغيير الذي حدث بهما وبعدهما حيث تبدل الوضع الحال إلى الأفضل والأحسن فقد أزيل حكم الطغاة من آل حميد الدين وأعوانهم وجاء نظام جمهوري ينادي بالعدالة والمساواة والتطور والحرية والانطلاق في شمال الوطن وأخرج الاستعمار البريطاني وطرد إلى غير رجعة وانتهت العزلة والانعزال الذي كان مفروضا على الشعب شمالا وجنوبا ويكفي الثورتين فخرا أنهما انتصرتا على أعدائهما في الداخل والخارج..
¶ .. ومع ذلك نجد أن هناك من يغلب السلبيات على الانجازات.. فماذا ترى¿
- الانجازات التي تحققت طوال عمر الثورتين لا يمكن أن تمحوها السلبيات أو تقلل من شأنها مهما كانت تلك السلبيات ومن يغلب السلبيات فهو إما حاقدا موتورا تضررت مصالحه الشخصية أو مصالح أسرته أو قبيلته بفعل الثورتين أو من لم يعايشون ولم يعرفوا عهود الإمامة والاستعمار وما كان يطغى على البلاد من جهل وتخلف وخوف وجبروت وهذه مسئولية الدولة التي قصرت في توعية الأجيال الجديدة بما كان يعيشه آباؤهم في الماضي المباد ..
¶ ولكن العدالة الاجتماعية وبناء الإنسان والتعليم والمواطنة المتساوية والدولة الحديثة والنظام الديمقراطي وغيرها من أهداف ومبادئ الثورتين لم يزل اليمنيون يبحثون عنها حتى اليوم.. في رأيك ..هل يكمن الخلل في غياب برامج الحكومات المتعاقبة ..أم يعود إلى الصراعات بين ما يسمى بالنخب ¿
- صحيح ما جاء في الشطر الأول من سؤالك .. فالعدالة الاجتماعية وكرامة الإنسان لم تتحقق ..والدولة العصرية القوية والحديثة لم تقام ..والعدل غائب والقضاء أكثر فساد مما كان عليه في عهد الأئمة والاستعمار وتلك تركة ورثها الشعب اليمني ولم يتجرأ أحد أن يصحح المسار خوفا من تهمة معاداة الشريعة الإسلامية وكل محاولة تواجه بعراقيل من ذوي المصالح ودعاة التمسك بالشريعة .. أما التعليم فالوضع أفضل كثيرا عن العهود السابقة فلو نظرنا مثلا لعدد المدارس وعدد الطلاب ونوعية المناهج الدراسية والتعليمية لوجدنا فارق كبير وبون شاسع بين ما كان قبل الثورتين وما بعدها فقبل الثورتين كانت المدارس لا تزيد عن عدد أصابع اليدين وبالذات في شمال الوطن وعد طلابها لا يزيدون عن 2000طالب فقط أما مستوى المناهج الدراسية فقد كانت لا توازي مناهج الصف الرابع الابتدائي في أحسن الأحوال مع مناهج الدول العربية الأخرى مع أنه كان هناك في بعض المدارس في اليمن فصول الابتدائية والإعدادية والثانوية ولكن ما كان يدرس فيها وحتى الثانوية لا يساوي منهج الرابع أو الخامس ابتدائي وهذا كان يشكل للطلاب الذين يذهبون إلى الخارج للدراسة حرجا كبيرا بحكم أنهم كبار في السن على أقرانهم من طلاب المرحلة الابتدائية في الدول الأخرى لولا أن الحكومة المصرية في عهد جمال عبد الناصر وتقديرا للظروف المشار إليها آنفا سهلت للطلاب الوافدين بالاختبار ثلاثة أعوام في عام واحد حتى يكون مستواهم مقارب لأعمارهم وكذلك في الجوانب الأخرى فقد حدث تطورا ملحوظا وإن كان لا يبلغ الحد الذي يلبي الطموح العام للشعب بسب قلة الموارد وبسبب الفساد الذي طغى واستشرى إلا أن الوضع مقارنة بالعهود السابقة سواء في شمال الوطن أم في جنوبه فهو أفضل بكثير وأية سلبيات حدثت في عهد الثورتين أو بعدها فلن تكون إلا نتيجة لموروثات العهد الاستعماري والإمامي البغيض لأن الشعب لم يرث من عهد ما قبل الثورتين إلا الجهل والتخلف والفقر ومن قاموا بالثورة أو حكموا بعد ذلك هم تحصيل أو ناتج ذلك الموروث البغيض وماذا نتوقع أن تكون المحصلة ¿