فقه التمدن وفكرة الحريات والتدافع
عبدالرحمن مراد
يبدو الواقع الإسلامي اليوم ضبابيا ومتوحشا وغابيا بعد أن عملت الجماعات التابعة للجهات الاستخبارية العالمية على تفكيكه وتشويه صورته المثالية في الأذهان .
فالجماعات التي تدعي الانتماء إلى الاسلام وتعمل باسمه وتحت رايته هي من يفت في عضده , وهي من تعمل على تقويضه من خلال أخلاق التوحش والغابية والفوضى التي ساد منطقها وتداولها الإعلام منذ مطلع العقد الثاني من الألفية , تلك الصورة التي تسيطر بقتامة مشهديتها على العقول اليوم هل تمثل الجوهر الحقيقي للإسلام ؟
نحن نرى أن فقه التمدن في الإسلام , وفكرة الحريات العقائدية , وفكرة التدافع بين الجماعات سياقات ذات تجذر وعمق في الفكر الثوري الإسلامي الذي قاد مرحلة انتقال من أصعب المراحل ليبدع واقعا اجتماعيا وثقافيا جديدا في عهد الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام ويوم السقيفة كان سببا مباشرا في كل التنظيرات والتخريجات الشرعية لنظرية الحكم التي تستند اليها الجماعات التي تشوه في الاسلام وجل تلك المدخلات الثقافية لا أصل لها في جوهر الإسلام بل فرضتها ضرورة العصبيات وروح الاستبداد في الذات القروية , تلك الروح التي تستند الى مبرر فساد الخروج واستقرار الدولة هي التي عززت هذه الروح الى درجة الاعتقاد بجوهريتها في الدين وأصوله وثوابته ومنطلقاته النظرية, فالتاريخ يتحدث عن خروج الناس في زمن الامام علي كرم الله وجهه ولم يسعه الا مناجزتهم بالسيف سواء في واقعة الجمل أو صفين.
والأمويون تعاملوا مع أسباط الرسول عليه الصلاة والسلام بتوحش الى درجة أن تركوا يحيى بن زيد مصلوبا حتى دفنه أبو العباس السفاح وفق ما تقوله – بعض مصادر التاريخ – دون مراعاة لقربة أو حرمة والعباسيون طبعا نبشوا القبور وأحرقوا الرمم وقتلوا وشردوا بني أمية ولم يراعوا فيهم إلا ولا ذمة ثارا وحقدا.
ولم تمنع العباسيين قرابة النسب أن يعملوا سيف السلطة في الطالبيين فقد قتلوا النفس الزكية وابناءه واخوته بمبرر الخروج عليهم , هذا التراكم ترك في حياتنا الثقافية خَلَلاً بنيويا لابد من تصحيح مساره حتى نتمكن من الخروج من دورات العنف والثأر والتوحش.
فالسيرة النبوية تحمل رموزا كان التفاعل معها تفاعلا جامدا غير متحرك في فضائها الإيحائي الذي تحمله فرحلة الإسراء لم تكن إلا حالة تكامل في خط متواز بين رمزية المكان ( مكة / والقدس ) وتلك الرحلة في خطها المتوازي بين رمزية المكانين تشكل قاعدة الهرم, والهرم يكتمل بالمعراج والعودة الي مكة فرأس الهرم يوحي بواحدية المصدر والقاعدة في طرفيها اللذين يشيران الى المكانين (مكة / والقدس) يوحيان الى اختلاف الشرعة والمنهج وهو المعنى نفسه الذي تؤكده سورة المائدة حيث يقول تعالى :
: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}المائدة48
كما أن الهجرة كانت تشكل حالة انتقال من عصبية القرية الى روح التعايش المدني الذي شكلته يثرب بتعددها الثقافي وبقيم التعايش الذي أسسته صحيفة المدينة وهي وثيقة تنظم العلاقة بين أطياف المجتمع في المدينة من مهاجرين وأنصار وعرب مشركين ويهود وهذه الوثيقة تمثل أول دستور لتأسيس الدولة الاسلامية الجديدة.
معنى ذلك أن الاسلام مدني بطبعه وجوهره التعايش والسلم والتسامح
والسقيفة شكلت نقطة الانحراف في مدنية الإسلام بالعودة إلى العصبية القروية وهذه العصبية قادت وأسست كل تشوهات التاريخ الاسلامي بكل مستوياته.
وبالعودة إلى الشاهد الذي سلف ذكره من سورة المائدة نجد المعنى بكل ظلاله لا يحتمل تأويلا وليس به مظان اللبس والغموض فمسار الحياة قائم على التعدد والمعيارية فيه هي الخيرية للبشرية والنفعية العامة وهذا هدف رباني من هذا التعدد ولو لم يكن هدفا ربانيا جوهريا لكان جعل الناس في مستوى واحد لم يتجاوزوه “ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة “, فالقضية تتجاوز ما تذهب إليه الجماعات التي حصرت نفسها في المفاهيم الضيقة , وترى في نفسها النقاء المطلق وهي لم تبلغه , لذلك فالدعوة إلى الله تعتمد الموعظة الحسنة , والجدال ” وجادلهم بالتي هي أحسن ” والقرآن في هذا الاتجاه واضح في نصوصه وهي قطعية الدلالة ,فقد حصر الأمر في البلاغ .
وجعل للقوة قيودا وشروطا فاستخدامها مشروط ومحدد , وللفكر الاسلامي صولات وجولات في ذلك , فالبلدان التي تم فتحها عنوة لم تفتح عنوة بل بسبب رفضها لفكرة البلاغ أي فكرة التعدد والتدافع والنفع العام بدليل أن الفاتحين لم يفرضوا معتقدهم على أهل الديار المفتوحة بل تركوا لهم حرية المعتقد وممارسة الشعائر والطقوس الخاصة بهم وأمام مثل الأفق المتسع الذي يؤثر عن السلف إلاّ أن المتلقي المعاصر للرواية التاريخية ما يزال يتعامل معها كنص ثابت غير متحرك في فضاء الفكرة والمعنى حتى يتجدد في ذاته وفي معناه ويتفاعل مع المستويات الحضارية الحديثة بل جعله مقيدا في العبارات وأراد أن يجعل منه بعدا نظريا يبرر له السبي وبيع الإماء في زمننا المعاصر والأدهى والأمر فالبيع والشراء لا يتم إلا بالعملة القديمة الدرهم والدينار كما تدل الكثير من الشواهد عن الحركات الجهادية والمبثوثة في وسائط الاعلام المتعددة .
فالتدافع في الاسلام هدفه الجوهري العدل ومنع الاستغلال فأبعاده النظرية اقتصادية واجتماعية وثقافية وليس هدفه الاستغلال والظلم والاضطهاد والطغيان أو تسلط جماعة على أخرى .