د.سامي عطا
في الجزء الأول تعرضنا إلى أطروحتين متقابلتين متعارضتين داخل نظريتي صراع الحضارات وحوار الحضارات ، أطروحة المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما التبشيرية بنهاية التاريخ وأمركة العالم وأطروحة فخ العولمة للمفكرين الألمانيين هارالد شومان و هانس بيتر مارتن التحذيرية من الذهاب إلى أمركة العالم والانسياق وراء البرامج الاقتصادية الليبرالية بأدواتها الكارثية القائمة على اقتصاد السوق وفتح الأسواق أمام التجارة الحرة.
وفي هذا الجزء سنعرض اطروحتين متقابلتين و متعارضتين داخل النظرتين. أطروحة حوار الحضارات للمفكر الفرنسي روجيه جارودي وأطروحة صراع أو صدام الحضارات للمفكر الأمريكي صومائيل هنتينجتون.
الأطروحة الأولى للمفكر الفرنسي روجيه غارودي قضى روجيه جارودي معظم حياته عضواً في الحزب الشيوعي الفرنسي، وكان من أهم مفكريه، وأشهر أعضاء قيادته المتمثلة في المكتب السياسي، وشهد أزمة العالم خلال الحربين العالميتين ، ولكنه تحت وطأة صدمات العصر الحديث والتقدم العلمي والتغيرات التاريخية المتسارعة والكارثية، أخذ يعيد النظر في كثير من أطاريح ماركسيته السابقة وينتج فكراً جديداً لا يتسق مع القوالب الحديدية الجامدة لها ولم يكن هذا يتسق مع وضعه القيادي في حزب حديدي، ففصل من الحزب الشيوعي الفرنسي، بعد محاكمة (فكرية) شهيرة.
عرف جارودي محطات عديدة في حياته كانت بدايتها مع الماركسية حيث أنتمى إلى الحزب الشيوعي الفرنسي عام 1933 مكنته من الاطلاع الواسع والإلمام بمؤلفات كارل ماركس ورغم ارتباطه بالحزب الشيوعي إلاّ أنه لم يجد في ذلك تعرضاً بين اعتناقه المسيحية وارتباطه بالحزب الشيوعي ، تحصل سنة 1933 على إجازة في الفلسفة من كلية آداب ستراسبورغ وعين استاذاً في مدرسة آلبي.
وخلال مسيرته الفكرية القلقة تنقل قارب جارودي الفكري المضطرب ، حيث أخذ يعيد النظر في كثير من الأطاريح وأصدر عدداً من الكتب أحدثت ضجة واسعة وسجل فيها نقطة خلافه الأساسية مع الفكر الماركسي التقليدي.
ولقد تسنى للمفكر روجيه جارودي القلقة أن يحط رحاله في نهاية المطاف عند تخوم قضية مركزية ظل ينافح عنها ويطرحها في كتب عديدة يمكن تلخيصها بضرورة حوار الحضارات والثقافات والأديان، وذلك من أجل تجاوز شرور ومآسي الرأسمالية وبشاعتها.
ونجد هذه القضية بارزة ومتكاملة ومتداخلة في ثلاثة كتب من كتبه أولها: كلمات إنسان، وثانيها: من أجل حوار بين الحضارات، وثالثها: كيف يصبح الإنسان إنسانياً؟
ولقد بدأ لقاء روجيه جارودي الأول بالحضارة العربية الإسلامية كما يقول : ” بدأ اهتمامي الأول بهذا الموضوع سنة 1947 حين أصدرت كتاباً صغيراً بعنوان (محاولة تاريخية لفهم الحضارة العربية)، وقد أسعدني أن أعرف أن بعض الشباب الوطني في مصر ترجمه وقدمه إلى جمال عبدالناصر، ولكن، سبق لي قبل ذلك حادث لا أنساه أبداً: في سبتمبر 1940، خلال الاحتلال الألماني لفرنسا، كنت شيوعياً أعمل في المقاومة ضد حكومة فيشي، فألقي القبض علي وأرسلوني إلى معسكر اعتقال عند واحة (غرداية) في قلب صحراء الجزائر الكبرى، وبعد وقت قصير، قمنا بحركة تمرّد في المعتقل، وأمر الضباط جنودهم الجزائريين بإطلاق النار علينا وقتلنا. كان عمري سبعاً وعشرين سنة، ولكن الجنود الجزائريين العرب رفضوا إطلاق النار، فأنا عشت بعد ذلك بفضلهم” (1).
ويلخص روجيه جارودي كل مصائب الدنيا مصدرها أن العالم الغربي يظن أنه صاحب الحضارة العظمى ومصدر كل التقدم لمجرد أنه – اليوم – هو الأقوى، وهو المصدر.
ويدحض فكرة المركزية الأوروبية في نشوء العقل ، الفكرة التي باتت شائعة في الفكر الأوروبي يتبناها مفكرون كبار كالفيلسوفين البريطانيين براتراند راسل في كتابه “حكمة الغرب” وكارل بوبر لاحقاً في كتابيه “من أجل عالم أفضل ” و” أسطورة الإطار” وعدد غير قليل من الفلاسفة ومنهم الفيلسوف الفرنسي رينان في محاوراته الشهيرة في القرن التاسع مع المفكر الإسلامي جمال الدين الأفغاني. ويبدو أن جارودي يقتفي في دراساته إثر نصيحة المفكر الفرنسي لويس ماسينيون(2) الذي يقول ” لكي نفهم الآخر، لا ينبغي إلحاقه بنا، بل ينبغي أن ننزل في ضيافته”(3)
ويطلق جارودي صيحة أذهلت مواطنيه: أن الغرب مجرد عرض “صدفة”(4)، الغرب – بالنسبة إليه – ليس تعريفاً جغرافياً، ولكنه تلك المجموعة من القيم والقوى والثقافات والماديات التي تميزه كحضارة متقدمة في عصرنا الراهن. ولكنها حضارة لم تولد من العدم، وإنها كأي شيء له أصل وله جذور، ولو نظرنا نظرة صحيحة فاحصة إلى كل ما لدى الغرب اليوم، وما يسهم به في العالم اليوم من أفكار ومبادئ ونظم وفنون وماديات، فسنجد له جذوراً في حضارات أخرى. كما أن الغرب – كحضارة حديثة – عمره لا يزيد عن مائتي سنة! إلاّ أنه يبدو على وشك جر العالم إلى الهلاك بإنجازاته العلمية (الاختراع الذري) واستعمال القوة الغاشمة. مهدداً نفسه بالفناء السريع ولم يثبت بعد قدرته على البقاء زمناً طويلاً كالحضارة المصرية القديمة التي استمرت زاهرة ثلاثة آلاف سنة أو الحضارة الصينية التي عاشت ألفين سنة.
ويخلص جارودي إلى أن الحضارة الغربية قد أثبتت أنها عاجزة عن قيادة العالم.
ولكي يتدارك معضلة الغرب وحضارته الراهنة، فإنه ينصحه بأن يدرك حجم حضارته الحقيقي بين حضارات العالم الأخرى، وعليه أن يبعد عن حالة استعلائية ويتبنى حواراً بين الحضارات، يتم فيه تبادل المفاهيم والمثل والتجارب على قدم المساواة من أجل تحقيق العيش المشترك ويسود سلام حقيقي.
والسؤال كيف تسنى للمفكر روجيه جارودي الماركسي هذا الانعطاف في حياة الفكرية وهو سليل فكر يؤمن بمبدأ العنف الثوري كمحرك من أجل تغيير العالم!!
ولكن، متى بدأ روجيه جارودي الفرنسي الماركسي، هذا الانعطاف المهم؟
وردّاً على ذلك يقول : إنه تدرج في نفسه طويلاً وببطء، ويردف جارودي: إنه ليس أول من قال بهذا الرأي، وإن كان هو قد عكف على شرحه وقرر جعله موضوع ما تبقى من حياته.
ويذكّرنا بكلمة قالها الكاتب الفرنسي الشهير (أناتول فرانس): (إن أهم تاريخ في حياة فرنسا هو معركة بواتييه سنة 732 ميلادية، حين هزم شارل مارتل جيوش الوالي عبدالرحمن، ففي ذلك التاريخ بدأ تراجع الحضارة العربية أمام البربرية الأوروبية!) (5).
وهذه الجملة بين مزدوجين استشهد بها في محاضرة له في تونس سنة .1955 وكانت تونس لاتزال تحت الاحتلال الفرنسي، وعلى إثرها طردته السلطات الفرنسية من تونس بتهمة قيامه بدعايات مضادة لفرنسا!
ويعتبر روجيه جارودي (الغرب.. صدفة) في كتابه (حوار بين الحضارات). ويسهب في شرح هذا الحكم.
وإذا فتشنا في العناصر الثلاثة التي صنعت الغرب حسب قول (بول فاليري):
الأخلاق المسيحية الكاثوليكية تحديداً وقوانين روما التي أرست مداميك السياسة والتشريع.
فهي ليست عناصر غربية في منشأها، المسيحية ككل الديانات ولدت في آسيا شرق أوسطية، وحتى حضارة الإغريق والرومان ولدت في البحر الأبيض المتوسط وفي تلاقح وتأثير شديد جداً من شواطئ أفريقيا وآسيا، فكلها عناصر (شرقية)، خارج (الغرب) بمعناه المعاصر.
ويسترسل جارودي: إن حضارة أوروبا نبتت جذورها كلها لأول مرة في أفريقيا وآسيا: وفي مصر تحديداً، وبلاد ما بين النهرين (العراق)(6).
فروح حضارة الغرب ومنطلقها هو التوجه نحو سيطرة الإنسان على عوامل الطبيعة، وعلى ذاته وإعلائها. فمنذ خمسة آلاف سنة قبل (إلياذة هوميروس)، يرفع الستار عن أسطورة (جلجامش) في بلاد ما بين النهرين ، تتحدث الأسطورة عن مارد ثلثه إنسان وثلثاه إله، ظهر في مدينة (أور) بعد الطوفان، ورحل إلى أرض الأنهار الخمسة، حيث تجري الأسطورة متحدثة عن كل أشواق الإنسان إلى تحدي الطبيعة والسيطرة عليها، وتجاوز إمكاناته كبشر، أي منذُ أربعة آلاف سنة قبل ميلاد المسيح، كان (فاوست) الذي ألفه (جوته) واتخذ رمزاً لروح الغرب، قد ظهر في أسطورة (جلجامش).
وحين سئل جلجامش في الأسطورة العراقية القديمة (ولماذا تحاول المستحيل؟) ردّ قائلاً: (إذا كان هذا الأمر لا تجوز محاولته، فلماذا اتقدت في نفسي نار القلق والرغبة فيه؟)
ذلك هو أساس كل حضارة الغرب، التي تناقلها بعد ذلك فلاسفة الإغريق حتى أوصلوها إلى أوروبا.
أما (الجرثومة) الأخرى للفلسفة الإغريقية التي ولدت في فينيقيا وكريت، وخصوصاً عن طريق أفلاطون فنجدها في مصر.
لقد تأثرالفلاسفة والمؤرخون الإغريق تأثراً كبيراً واعجبوا إعجاباً عميقاً بمصر القديمة، وفكرة الدولة الفاضلة عند أفلاطون التي ألهمت أوروبا في الجمع بين الاستقرار السياسي والديمقراطية الحية، استوحاها أفلاطون – حسب قول جارودي – من مصر، فلقد ألهمت مصر كل تجارب الإغريق.
وكل ما أنجزه الإغريق، بدءاً من فن النحت إلى الفلسفة إلى السياسة نجد تأثرهم العميق بمصر وتمثلهم الدائم بها.
ويضرب جارودي المثل بثلاث (مساهمات) مصرية قديمة أساسية في تراث الإنسانية كلها:
الأولى: أسطورة أوزوريس الذي يقاوم الطبيعة فيمزّقه أعداؤه إلى قطع ينثرونها في الوادي كله، ثم تجمعه من جديد، موجهة بفكرة البعث، أخته إيزيس بحبها ودموعها عبر سنوات المعاناة الطويلة، فهي أول حديث عن رموز العلاقة اللانهائية بين الإنسان، والطبيعة والآلهة.
والثانية: (كتاب الموتى)، ثم صراع الفراعنة التاريخي ضد الموت بفكرة إقامة مبان تدوم إذا فني الإنسان، وتسجل طابعه وعمله دهوراً بعده، كالأهرامات وقبور وادي الملوك، وهي فكرة جوهرية في حضارة الغرب.
والثالثة: أخناتون الفرعون الذي مات في الثلاثين من عمره بعد أن اكتشف أول فكرة انقلابية في التاريخ وهي عقيدة التوحيد، بعد تعدد الآلهة التي نجدها بعد ذلك في فلسفة الإغريق وفي التوراة.
ويضيف جارودي فضلاً ثالثاً إلى أخناتون، فيقول أنه أول من رفع المرأة، فبدت في تماثيله جالسة على حجره، وقد نقش على الجرانيت أول قصائد حب.
(هكذا نجد جذور الغرب وقد تشكلت في مصر وبلاد ما بين النهرين: صراع الإنسان ضد الطبيعة للسيطرة عليها، ونضاله لكي ينفرد من بين كل المخلوقات بصفاته، وبقدرته على التفكير المجرّد، وكل محاولة لقطع جذور الغرب عن جذوره الشرقية لا تؤدي إلا إلى إفقار الإنسان).
ويسوق جارودي نقد إلى (عصر النهضة) في أوروبا، ويراه عصر نمو الرأسمالية وتدشين الاستعمار، إنه حقاً بداية صعود الغرب ، ولكنه كان بداية تدمير هذا الغرب نفسه لحضارات أخرى أرقى من حضارته، سواء في علاقة الإنسان بالله، أو علاقة الإنسان بالطبيعة أو في علاقة الإنسان بالمجتمع، وهي العناصر التي تحدد رقي أي حضارة.
وقد تمكن الغرب من فعل ذلك عن طريق شيء أساسي وهو: تفوّقه في استخدام القوة العسكرية دون أي نوع آخر من القوى ذات العلاقة بالتقدم والرقي.
ولا يكتفي جارودي بذلك ، بل يتعداه إلى تحليل حضارة الغرب الراهنة – السائدة – تحليلاً فلسفياً طويلاً ، حيث يرى أن تاريخ الإنسان يتلخص في ثلاث مراحل:
أولاً : مرحلة سيطرة الطبيعة على الإنسان، أي حين كان الإنسان يصارع عن مركز ضعفه ضد قوى الطبيعة الأقوى منه.
ثانياً : مرحلة سيطرة الإنسان على الطبيعة، وهي حين نجح الإنسان في التقدم بدرجة سمحت له باستئناس الطبيعة إلى حد كبير بما أوتي من عقل وعلم وحضارة.
وثالثاً : وهي التي نعيشها حالياً ويسميها (مرحلة محاولة سيطرة الإنسان على نفسه)، ذلك أن الإنسان بما وصل إليه من تقدم وعلم وصناعة أطلق قوى تدميرية هائلة من عقالها باتت تشوّه حياته وتدمّر بيئته ومقوماته، وتهدد وجوده ذاته، والنتيجة في هذا الصراع الأخير مشكوك فيها!
والأخيرة، مسؤولة عن حضارة الغرب، بتخليها عن القيم المشتركة مع الحضارات الأخرى و المستلهمة منها.
ويرى جارودي أن حضارة الغرب قامت من ثلاثة منطلقات.
أولوية العمل كقيمة أساسية ((والعمل) كما يقول تقليد برجوازي وقيمة اشتراكية).
وأولوية العقل بوصفه أداة حل كل المشاكل والرد على كل الأسئلة.
وأولوية كأسماء هيجل (باللامتناهي).
بيد أن هذه القيم تحوّلت وشوّهت بحيث ركزت كلها على الذكاء، ولم تترك مجالاً للحب، والشعور، والضمير.
والأولويات الثلاث صارت أثقالاً، لا حوافز.
قيمة العمل تحوّلت إلى خضوع الإنسان للاستهلاك.
قيمة العقل تحوّلت إلى خضوع الروح للذكاء.
وقيمة اللامتناهى تحوّلت من الكيف إلى الكم. والسؤال الوحيد الذي يطرحه الآن الإنسان على نفسه كل ساعة إزاء أي مشكلة أو موقف هو: (كيف؟)
ولم يعد أحد يسأل أبداً السؤال الأكثر أساسية وإنسانية وهو: (لماذا.؟)
جارودي وضرورة نزع استعمار التاريخ وحوار الحضارات
ويشير جارودي في فصل مهم عن (الفرص الضائعة) في إسهاب عن ضياع فرص تأثر الغرب باطراد وتواصل الحضارات الأخرى، ويضرب مثلاً بالحضارة العربية، وتزوير الاستعمار الغربي للتاريخ بتصويره التوسع العربي، منذ القرن الثامن الميلادي، على أنه موجة من موجات (البربرية الآسيوية) التي هددت الغرب!
ويقارن ذلك بالغزاة الإنجليز والفرنسيين والأسبان هم الذين دخلوا أرض الإسلام مدمّرين للحضارة العربية في كل أشكالها. (.. إن ما يسميه الغرب بـ (غزو أسبانيا) لم يكن غزواً عسكرياً فقط كغزوات الأوروبيين، أسبانيا كان فيها من السكان عشرة ملايين ولم يدخلها من الفرسان العرب أكثر من خمسين ألف فارس، ولو كان الأمر حرباً فقط لما نجحوا. ولكن تفوّق حضارة على أخرى كان هو عنصر النجاح الساحق). وما فعله العرب في أسبانيا يجعلنا نفهم ما فعله ماوتسي تونج في الصين)! أتى بنظام اجتماعي أرقى، حرر العبيد وأنهى الرق، وسوى الحقوق، ودعم النظام. وعلى أنقاض الفوضى الاقطاعية، أقام العرب أعظم مساقط المياه في ذلك العصر وأغنى البساتين القائمة إلى الآن. وما رأيته في تونس، من آثار عربية قديمة تدل على سابق الازدهار، ومن واقع – خلال الاحتلال الفرنسي – ينم عن الإفقار والدمار، يعطينا صورة ساطعة عن الفرق بين حكم الأغالبة في شمال أفريقيا، وحكم الفرنسيين. الحضارة التي زرعها العرب عندنا في أوروبا وبالقرب منا في أفريقيا تمتد جذورها إلى الشرق في آسيا، وحين سافر الفرنسي (جيربر) إلى معاهد الشرق وعاد حاملاً علومه، قال الناس في أوروبا إنه قد اتصل بالجن لكثرة معارفه! وبعد قليل، جعلوه بابا على روما باسم البابا سيلفيستر الثاني. ونحن مدينون للعرب بأول كليات الطب، وأولها كلية الطب في مونبليه الفرنسية. وحتى القرن التاسع عشر كانوا يدرسون في جامعات فرنسا وإنجلترا بإسهاب علوم الطب العربية، ومؤلفات الرازي. ولكن منذ انتصار شارل مارتل على العرب في بواتييه تكونت لدى أوروبا عقدة اسمها (حماية الحضارة الغربية من البرابرة!). إن كتب التعليم تلقن الأوربيين منذ طفولتهم أن بواتييه كانت نقطة تحوّل إذ طردت الهمج عن أوروبا المتحضّرة، وهذا هو استعمار التاريخ بعينه، وفي الواقع هو العكس، في هزيمة العرب ضيّعت على فرنسا وأوروبا فرصة لالتقاط المبكر لحضارة العرب، وأخّرت أوروبا عشرة قرون على الأقل، حتى بدأت أوروبا ترى النور بعد القرون الوسطى!
ولم يحصر جارودي استشهاداته بمآثر العرب، لكي يدحض قلب أوروبا لحقائق التاريخ أو أطلق عليه محقاً “استعمار التاريخ”، بل تعداه إلى الاستشهاد وبنفس الأسلوب بحضارات أخرى غير إسلامية، ولعل أهمها الحضارة الصينية من أجل أن يرسي مداميك حوار الحضارات وتكاملها.
ولكن المهم أنه يستشهد بالأسلوب نفسه بحضارات أخرى غير الإسلام، أهمها الصين، وعدم الاستفادة منها، إنها فكرة عداء الحضارات لا تكاملها.
لقد نذر جارودي نفسه من أجل قضية أمن بها وتحمل بعدين:
(1) نزع استعمار التاريخ، وتصحيحه.
(2) إقامة حوار بين الحضارات كلها.
أو بحسب ما قال (كيف يمكن بناء تاريخ لا تحتكره حضارة واحدة.؟)
أكثر من نصف قرن قضاه جارودي في الدفاع عن مشروعه ورأى في هذا المشروع الخلاص الوحيد للبشرية من خطر الفناء، ورحل الفيلسوف دون أن يتحقق مشروعه، لا بل زادت أحوال العالم سوءاً، فهل يمكن أن يتحقق هذا المشروع؟ وهل هو مشروع قابل للتحقق؟
صومائيل هنتيجتون وصراع الحضارات
وبعد أن عرضنا لأطروحة حوار الحضارات سنعرض للأطروحة المقابلة والمتعارضة معها أطروحة صراع الحضارات للمفكر الأمريكي صومائيل هينتجتون(7).
رأت أطروحة صراع الحضارات أو صدام الحضارات النور مع نهاية الحرب الباردة، وتُقِرُّ بالتحوُّل الجذريّ للعلاقات الدوليّة، وتبشر بشكل سلبيٍّ ومتشائمٍ لما ستكون عليه الحضارات من صراعاتٍ عنيفةٍ بدلاً من أن تقوم على مصالح اقتصاديّة متبادلة، ويُعتبَرُ البروفيسور صامويل هنتنجتون Samuel Huntington مِن أشهرِ مَن تحدَّثَ عن نظريّة صراع الحضارات. واستهل هنتنجتون فكرة صراع الحضارات في البداية على شكل مقالٍ صغيرٍ نُشِرَ عام 1993م في إحدى المجلاّت الأمريكيّة. وانتشر المقال بشكلٍ كبيرٍ وواسع، وكان المقال الأكثرَ قراءةً منذ أن صدرت هذه المجلّة، وبعد عدّة سنوات قام هنتنجتون بصياغة مقالته في كتابٍ شرحَ فيه نظريَّتَه بشكلٍ مُوسَّعٍ، كما برَّرَ كلَّ ما ذكرَه في ذلك المقال.
يرى صامويل هنتنجتون في كتابه (صراع الحضارات) أنَّ الصّراعات التي سوف تنشأ بعد الحرب الباردة ستكون صراعات حضاريّة ذات أبعاد ثقافيّة ودينيّة وستختفي الصراعات القوميّة والأيدولوجيّة أو حتى الاقتصاديّة، ومن أهمّ القضايا التي تحدّثَ عنها هنتنجتون في كتابه:
تَغيُّرُ السّياسة الدوليّة لتصبح ذات أقطابٍ وحضاراتٍ مُتعدِّدة.
ويرى أن ميزان القوى بين الحضارات بدأ يختل وتأثير الغرب النسبيّ الذي بدأ يتّناقص، ويشير إلى أنَّ الحضارات الآسيويّة أصبحت ذات قوّة أكبر في مختلف المجالات الاقتصاديّة والسياسيّة، وكذلك العسكريّة، وأنَّ العالم الإسلاميّ أصبح قوّةً حقيقيّة وهي عامل تهديد لحضارات تجاورها على حد رأيه.
وقَدَّم هنتنجتون مجموعة من الإحصاءات التي تُظهِر تناقُصَ الأوروبيّين بالنّسبة للعدد الإجماليّ لسكّان العالم، وفي المقابل تزايد عدد الآسيويّين والمسلمين. صعود الإسلام من الأمور التي تحدّثَ عنها صامويل هنتنجتون في كتابِه (صراع الحضارات)، وقد ذكر في كتابه الامتداد الإسلاميّ من النّاحية الجغرافيّة، وكذلك من النّاحية السكانيّة، حيث وصلت مساحة البلاد الإسلاميّة إلى ما يقارب 21% من المساحة المأهولة، ووصل عدد المسلمين إلى مليار نسمةٍ، كما سيطروا على نسبة كبيرة من الاحتياط العالميّ للنّفط والغاز، وقد كان صامويل هنتنجتون قلقاً من أنَّ العالم الإسلاميّ غير قادر على مواجهة تحدّيات التّنمية الاقتصاديّة، ومن جهة أخرى يَذكُر هنتنجتون دور الصّراع العربيّ الإسرائيليّ في ظهور بعض التّنظيمات المُتطرِّفة.ظهور نظام دوليٍّ جديد يقوم على أساس الحضارة، وهو يضمّ تجمّعات اقتصاديّة لها هويّة مشتركة وهذا سرّ نجاحها.
وبحسب رأي هنتنجتون فإنَّ العالم سوف يقسم إلى خمس حضارات:
(1)حضارة الغرب: تضمُّ هذه الحضارة أمريكا الشماليّة وأوروبا الغربيّة، وقد تشكَّلَت من امتداد المسيحيّة واعتمدَت على العلمانيّة بشكلٍ أساسيٍّ.
(2)الحضارة الأرثوذكسيّة: تضمُّ هذه الحضارة العالم الروسيّ، وأوروبا الشرقيّة، وقد ظهرت في هذه الحضارة سيطرة الكنيسة الأرثوذكسيّة.
(3)الحضارة الهندوسيّة: وتضمُّ هذه الحضارة الهند وبعض الدّول القريبة منها. الحضارة.
(4)البوذيّة الكونفشيوسيّة: تضمُّ هذه الحضارة الصّين ومن يعيشون في الشّتات منهم.
(5)الحضارة الإسلاميّة: وتضمُّ هذه الحضارة جميع البلاد التي يدين أفرادها بدين الإسلام.(8)
وبالرغم من انتشار نظريّة صراع الحضارات الواسع إلّا أنَّها لم تسلم من الانتقادات؛ فقد ظهرت مجموعة من الانتقادات من قبل مُفكِّرين غربيّين وعرب.
تحدّثَ الأستاذ محمد الجابري عن نظريّة صراع الحضارات في كتابه (وجهة نظر في القضايا المعاصرة)، وذكر أنَّها ليست حديثة وإنَّما لها جذور قديمة عند بعض الأكاديميّين في الغرب والشّرق، وأنَّ ما فعله صامويل هنتنجتون هو إعادة صياغة هذه الأفكار بطريقةٍ جديدةٍ. تحدّثَ المُفكِّرُ الفلسطينيُّ إدوارد سعيد عن نظريّة صراع الحضارات وذكر عدم وجود منهجيّة علميّة في كيفيّة تصنيف الحضارات؛ إذ إنَّ هنتنجتون لم يلتزم بمعيار ثابت أو واحد في تصنيفه للحضارات فنراه يُصنِّفُ بعض الحضارات على أساسٍ دينيٍّ كالحضارة الإسلاميّة والبعض الآخر على أساسٍ جغرافيٍّ كالحضارة الغربيّة، كما أشار إدوارد سعيد أنَّ البعض يقول إنَّ صراع الحضارات في عصرنا الحاليّ ليس في مجال العولمة الرأسماليّة، بل إنَّ هناك صراعاً تجاريّاً كبيراً أيضاً بين الحضارات كأمريكا واليابان إذ إنّ الصّراع هو صراع اقتصادي بحت.
لقد حاول هنتنجتون إقناع العالم بأنَّ السبب الرئيسيّ لصراع الحضارات هو الاختلاف الثقافيّ بين الحضارات. ولم يهتمّ هنتنجتون في أطروحته بتوضيح علاقة العولمة بصراع الحضارات وتأثير كلٍّ منهما في الآخر بشكل كاف.
خلاصة/
أن النظريتين المتصارعتين ومن خلال الأطاريح المتقابلة والمتناقضة تظهر طبيعة الصراع العالمي ، وسيادة فكرة الصراع الذي قاد إلى إمبراطورية فوضى وفوضى العالم الذي نشهده راهناً ، فأنتجت لنا حروب وصراعات؛ لن تتوقف إلاّ بسقوط إمبراطورية الفوضى.
الهوامش:
(1) روجيه جارودى في سبيل حوار الحضارات تعريب د. عادل العوا ، دار عويدات، بيروت ص5
(2) يقول عنه هشام صالح لويس ماسينيون واحد من أهم المستشرقين الفرنسيين في القرن العشرين. ومعروف ان لويس ماسينيون (1883 ـ 1962) كان يجمع في شخصه بين المتناقضات: فقد كان صوفيا كبيرا، ورجلا سياسيا مهما في ذات الوقت. وقد شارك في تأليف هذا الكتاب الجماعي ما لا يقل عن عشرين باحثا. نذكر من بينهم جاك بيرك، صلاح ستيتيه، يواكيم مبارك، وآخرين، واشرف عليه الباحث الفرنسي جاك كيريل، أحد تلامذة ماسينيون. يقول هذا الباحث في المقدمة العامة للكتاب: كان ماسينيون يرى المقدس في صميم كل انسان وكل حياة. وكان يعتقد ان علاقة البشرية بالتعالي هي علاقة أساسية. وبالتالي فلا يمكنه ان يتصور وجود مجتمع الحادي او مادي بحت. ولهذا السبب فإن تطور المجتمعات الغربية او قطاعات واسعة منها نحو التطور التكنولوجي والصناعي والوضعي للكون كان يقلقه. لا يمكن فهم ماسينيون إلا إذا أخذنا التجربة الروحية للوجود أو التصور الروحي للوجود بعين الاعتبار. كان أحد المسيحيين القلائل الذين انفتحوا على العمق الروحي للدين الإسلامي. وقد سبب له ذلك الكثير من المشاكل مع أبناء قومه الذين ورثوا صورة سلبية جدا عن الاسلام.( أنظر كتاب ماسينيون ومعاصروه ترجمة هشام صالح)
(3) انظر بحث ابوبكر السقاف حول المركزية الأوروبية في كتابه قضايا فكرية وأدبية دار الكلمة.
(4) أنظر روجيه جارودي مرجع سابق ص33
(5) المرجع السابق ص37
(6) المرجع السابق ص13
(7)صاموئيل هنتنجتون هو مُفكِّرٌ سياسيّ وأستاذ جامعيّ أمريكيّ في جامعة هارفارد لمدة تصل إلى خمسين عاماً فأكثر، اشتُهِرَ بفكرته ونظريّته عن صراع الحضارات التي أثارت جدلاً سياسيّاً وفكريّاً في العالم بأسره، وُلِدَ في مدينة نيويورك في الثامن عشر من نيسان/ أبريل لعام 1927م، كان والده يعمل كناشرٍ في صحيفةٍ مُختصَّةٍ في التّرويج للفنادق، وكانت أمّه كاتبةً للقصص، تخرَّجَ من جامعة ييل عام 1946م وحصل على الماجستير عام 1948م من جامعة شيكاغو، وفي عام 1951 حصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة هارفارد، توفي هنتنجتون في الولايات المُتَّحِدة الأمريكيّة في السابع والعشرين من ديسمبر لعام 2008م. الوظائف والمسؤوليّات تولّى صامويل هنتنجتون مجموعة من المناصب المُهمَّة ومن هذه المناصب: تولّى هنتنجتون منصب مدير مساعد في مركز الدّراسات للحرب والسَّلْم في الفترة ما بين عامي 1959م و1962م في جامعة كولومبيا الأمريكيّة. تولى منصب رئيس الجمعيّة الأمريكيّة للعلوم السياسيّة من عام 1986م وحتى عام 1987م. ساهم صامويل هنتنجتون في الإشراف على تحرير المجلَّة التي أسَّسها برفقة أحد أصدقائه في عام 1970م وهي مجلَّة فورين بوليسي. شغل منصب مدير معهد الدراسات الذي أسَّسه ( معهد جون أولان )، وكذلك كان مديراً لأكاديميّة هارفارد للدراسات الدوليّة. كان هنتنجتون مستشاراً في السّياسة الخارجيّة في حملة هوبرت الانتخابيّة الرئاسيّة في عام 1968م. تولّى منصب التّخطيط الأمنيّ بين عامي1977م – 1978م في مجلس الأمن القوميّ. مُؤلَّفات صامويل أنجزَ صامويل هنتنجتون العديد من الأبحاث بلغ عددُها تسعين بحثاً فأكثر، منها 17 كتاباً، من أهمّها كتاب “صراع الحضارات، إعادة تشكيل النظام العالميّ”، وقد تُرجِمَ هذا الكتابُ إلى أكثر من 39 لغةً، إضافةً إلى كتاب “الجنديّ والدَّولة، النظريّة والسّياسات في علاقات العسكريّ والمدنيّ”، وكانت بعض هذه الكتب بالمشاركة مع مُؤلِّفِين آخرِين، ككتاب “القوّة السياسيّة، الولايات المُتَّحِدة، الاتّحاد السّوفيتيّ” الذي اشترك في كتابته مع زبيغنيو بريجينسكي في عام 1964م، بالإضافة إلى العديد من الكتب والمُؤلَّفات الأخرى.
(8) صومائيل هنتينجتون صدام الحضارات وإعادة صنع النظام العالمي ترجمة طلعت الشائب ط 2 1999م.