الجذور التاريخية للصراع اليمني السعودي” 13 “
عبدالجبار الحاج
يقول محمد حسنين هيكل في كتابه سنوات الغليان بأن عبدالناصر لم يبك في حياته الا مرتين : الأولى حين انفصلت سوريا عن الاتحاد مع مصر عام 61 والثانية حين سمع نبأ استشهاد القائد الثوري اليمني على عبد المغني بعد أقلّ من شهر من قيادته ثورة 26 سبتمبر في اليمن .. والمؤكد أن انفصال سوريا عن الوحدة قد وجه ضربة معنوية لعبد الناصر خاصة إنه كان يعدها حجر الأساس في الطريق نحو وحدة عربية ولذلك فلا غرابة أن يكون موقفه من الثورة اليمنية باعتبارها فرصة تاريخية لاستعادة حجر الأساس للوحدة من اليمن وقد تم فعلا إنشاء مجلس تنسيق بين البلدين في الثالث عشر من يوليو 1964 كخطوة أولى على طريق الوحدة الشاملة بين البلدين .
لكن منذ اللحظة الأولى لثورة سبتمبر فإن رياح الأحداث والمقادير كانت تأتي بغير ماتشتهي الإرادة الثورية والشعبية فاختطفت مقادبر الطالع السيئ للثورة قائدها الفعلي قبل أن يعد ويكون البديل القيادي الذي يمتلك إمكانات الشهيد عبد المغني …
فالحقيقية أن غياب عبد المغني عن قيادة الثورة وعن قيادة التنظيم الذي أسسه قبل عام من قيامها قد سمح وفتح بوابة الثورة على دخول عناصر وشخصيات لا يتعدى موقفها السياسي إلا بكونها امتداداً لحركة 48 المناهضة للإمامة وليست المؤمنة بالتغيير الجذري وشخصيات أخرى هي ليست من جنس الثورة أيضا ولا هي في وادي الأهداف التي أعلنتها الثورة . فالتحاقها لا يقوم الا على خلافها وصراعها الشخصي مع الإمام وبالتالي بقي موقفها تحت سقف توجهات ودستور 48 نظريا وخصومتها مع الإمام شخصيا هو المحدد الرئيس والنهائي وبالتالي لم تكن تحمل اي حساسية وطنية تجاه السعودية التي دشنت حربها ضد الثورة وهو التدخل الذي اجبر عبد الناصر في أن ينتقل بخياراته من دعم في السلاح والخبرة الى تورط في حرب مباشرة .والحقيقة أن دور التنظيم السياسي القائد ووجوده السابق لقيام الثورة في أيّ ثورة هو شرط ذاتي لازم التوفر ويبدأ دوره مع توفر الشروط الموضوعية أو سابق لقيام أي ثورة وهو ما أدركه عبدالمغني مبكرا وكان لقائه المعروف بالزعيم ناصر في القاهرة في يوليو من نفس العام 62 وفيه تلقى وعدا بالدعم والمساندة لتنظيمه الذي انبن وتكون كأداة للتنفيذ وقيادة الثورة وأمنّ من لقاء ناصر عامل الدعم والمساعدة وعاد إلى بلده .
اعتقد أن عبدالمغني وهذا ليس انتقاصا منه ..لم يكن قد اوجد حلولا مسبقة في التنظيم لقيادته من خلال تأهيل الأفراد والقيادات التي تتوفر لديها مزايا وصفات قيادة تنظيم الضباط الأحرار وقد يكون السبب في ذلك التوقيت والعجلة لقيام الثورة في ذلك الأسبوع . فكان أن تقمص أو أن التبس عليه الأمر أو أن ساعة الصفر تحكمت واستبدت بكل الظروف والشروط الأخرى اللازمة لاستكمال بناء التنظيم فراح يحاكي تجربة عبد الناصر ودور الضباط الأحرار في مصر كما هي أو قريبا منها .. وربما لوكتب له العمر لكان ربما نجح في قيادة الثورة إلى شاطئ الأمان من موقعه كقائد للثورة ليس في جناحها العسكري فحسب بل بتوجهاتها الاقتصادية الاجتماعية في حين كان السلال سيكتب له النجاح ربما في قيادة الدولة في ظل حضور عبدالمغني ..
مع أن دور التنظيمات مهم في قيادة التحولات الثورية الكبرى فإن دور الأفراد مهم في قيادة التنظيمات الثورية وخاصة أولئك الأفراد الذين امتلكوا ناصية المعرفة وآمنوا بالثورة ومبادئها وجمعوا بين الإخلاص الثوري والحنكة السياسية وثالثا الجمع بين قدرات الدفاع عن الثورة وتنفيذ برنامجها الاقتصادي في أن .. كانت تلك نقطة الضعف في قيادة الثورة ..وكانت تلك الثغرة الهائلة التي تحولت فيها الثورة الى شعارات تلتف حولها الجماهير وتساندها لكنها أيّ الثورة في جسمها القيادي وفي مستوياتها التنظيمية العليا لإدارة الثورة والدولة باتت مفتوحة لمن هب ودب وبلا تنظيم وبلا معايير ..
ومنذ استشهاد عبد المغني افتقد تنظيم الضباط لدوره القائد وتراجع التنظيم كثيرا عن دوره وبالنسبة لرموز وأعضاء التنظيم لم يعد دورهم لاحقا سوى أفراد لا يصنعون ويقودون احداث الثورة ومعاركها بل يتأثرون بما يجري أكثر مما هم يصنعون .
مثلت عملية استشهاد علي عبدالمغني وهو القائد الفعلي للثورة وهو الرجل الذي كان زاهدا بالسلطة واتى بالسلال إلى موقع الرأس في الثورة رغم أن الساحة اليمنية إبان قيام الثورة لم تكن تخلو من تنظيمات ساسية على قدر من الثورية والنضج السياسي مثال فرع حركة القوميين العرب
إن اللجؤ إلى سد الفراغ القيادي في قيادة الثورة والدولة إلى شخصيات وأسماء لامعة من موقع انها كانت معارضة للإمام فحسب لكنها ليست من موقع المؤمن بالثورة وبالأهداف المعلنة ما لجأ إليه مجلس القيادة أو الرئيس السلال وهو ما كان بأن تجمعت في الرأس والمواقع نقائض الثورة ونصبت الثورة في جسدها كمائن وفخاخ لاحدَّ لمخاطرها على الثورة من مدعيها في الداخل وبخطر فعلي أكثر مما أراده العدو من الخارج
ومن هنا كانت تتجمع وتتقاطع وتتناقض في عرين الثورة توجهات ومفترقات شتى تفضي إلى الانحراف بالثورة من وتفريغها من كونها ثورة شعبية اجتماعية تنشد العدالة الاجتماعية وتزيل الفوارق بين الطبقات كما ترسمتها أهدافها الستة التي أعلنت ومن كونها تحررية تنشد السيادة والوحدة والتحرير فإنها ثورة وطنية ضد أعداء محيطين بها من الخارج وبالفعل انطرحت إمامها مهمات حرب التحربر ضد الغزو والاحتلال السعودي وأفرغت من المضمون الثوري الشعبي إلى مجرد شعار جمهوري سهل التلاعب به والى مجرد كونها في ذروة أوارها المشتعلة اختزلها الساسة الملتحفين بها عن غير مبادئ ثورية إلى مجرد حرب أهلية حتى بلغ الأمر بأعضاء حكومات عهد الثورة وضع صورة الدور المصري بأنه تدخل في الشأن اليمني وانتهاك للسيادة الوطنية .. وبصورة مكشوفة الاتصال السري والعلني والممالئة والتواطؤ مع الدور السعودي …بالتالي كان اختزال المشهد بكونه صراعاً مصرياً اسعودياً على ساحة حرب أهلية يمنية في أكثر هذه المواقف جراءة !! … هكذا اخذ الجناح الجمهو ملكي في اتجاهه المبكر وحضوره المبكر في سدة القرار الجمهوري ينجح في تفريغ الثورة من مضمونها الاجتماعي الاقتصادي داخليا ويطلسم حقيقة الأعداء والعداء والحرب الغاشمة المجنونة من السعودية والأردن وإيران وبريطانيا وأمريكا خاصة بعد مقتل رئيسها كندي ..
وهكذا جرى تفريغ الثورة من كونها شكلت وبررت للعدو التاريخي في لحظتها استئناف عدوانه الحربي المباشر كامتداد لتاريخ الصراع السعودي اليمني بدرحة رئيسية على الصعيد الصراعي في الجزيرة العربية اقليميا وكونه صراع بين قوى الثورة وقوى الثورة المضادة على صعيد المنطقة العربية وعلى الصعد العالمي كذلك
ثم إن هذه العناصر التي كانت قد تجمعت من مشارب ومآرب شتى ومتناقضة لم تكن تتردد في انتهاز أيّ لحظة بالاتصال بعواصم العدو ..
ساعد من تشوه المسار الثوري اليمني شمالا وانحرافه انه لم تكن أوضاع وقيادات المؤسسة المصرية في جهازها العسكري والأمني معبرا عن توجهات عبد الناصر ليس في اليمن فحسب وانما داخل مصر فعكس الأمر نفسه وزاد من بلة الطين في الحالة اليمنية شمالا واختلاط الحابل بالنابل وأخذت مجريات الصراع تنحرف عن وجهتها وكذلك انحراف مجرى المعركة العسكرية عن وجهتها الأصلية .
فكانت تلك الزعامات التقليدية التي وصلت بنتيجة الفراغ القيادي في قيادة الثورة وقد صارت تتسيد المشهد اليمني أن وصفت الصراع في اليمن بكونه حربا أهلية بين اليمنيين وبالتالي المشكلة اليمنية فقط محصورة في أطراف متصارعة ودور اقليمي في اليمن أصبحت فيه مصر بترسمهم للصورة ليست أكثر من منتهكة للسيادة الوطنية ومجرد متدخلة في الشأن اليمني .
صحيح أن المهمة رقم واحد أمام الثورة هي الدفاع عنها في وجه أعدائها . لكن انحصار المهمة في الجانب العسكري وتغييب مشروع الثورة الاجتماعي الاقتصادي وعدم الشروع في خطوات الانجاز للأهداف تلك على الأرض ومنح الشعب ظروف وأوضاع جديدة في العدالة والمساواة المؤشر الأبرز على غياب قيادة ثورية تدير الحالة والأوضاع بشقيها العسكري والاقتصادي الاجتماعي معا وكان السبب في غياب الأداة التنظيمية القائدة للثورة .
شيئا فشيئا كانت الهوة تتسع بين الثورة وبين الأهداف بين الجماهير المتوافدة بالمئات والآلاف وبين قيادة ثورية حقيقية قابضة هي الأخرى غابت وغيبت ..
وشيئا فشيئا بدأ يغلب شعار الجمهورية ويخفت ويتراجع مضمون الثورة في الخطاب ثم في الممارسة .
فالجمهورية أمكن تحويلها إلى مجرد اسم نظام جمهوري ليس الا . بينما الثورة تغيير جذري يتحقق بإنجاز الأهداف على الأرض في وقت واحد مع معركة الدفاع عنها من مخاطر الخارج وأطماعه وأعداء التغيير في الداخل ففي مصر مثلا لم يغد مفهوم الثورة مفهوما متدوالا الا بعد قيام عبد الناصر بتنفيذ قرارات اقتصادية ووطنية كبرى في التأميم والإصلاح الزراعي ومصادرة الاقطاعيات وتوزيع الأرض على الفلاحين المعدمين وإقامة نظام العدالة الاجتماعية في مجانية التعليم والصحة وحق العمل والسكن وتأميم قناة السويس وبناء السد العالي وغيرها من المشاريع من الانجازات ..وكذا في نهجه الذي لا يعرف المهادنة مع الاستعمار والكيان الصهيوني وموقفه الواضح ضد الأنظمة الرجعية العميلة ودعمه لكل الشعوب التواقة للتحرر والاستقلال في كل بلاد الأرض ..وهكذا غدت يوليو ثورة بالإنجاز وهو ما افتقرت إليه الثورة اليمنية شمالا حتى مع الأخذ بالاعتبار فارق الظروف بين البلدين .