*مجزرة الحُجاج الكبرى..كتاب للباحث حمود الاهنومي يوثق جريمة آل سعود بحق حُجاج اليمن.. “الثورة” تنشر الكتاب في حلقات
إن اعتذارَ حاكمِ نجد، وإلقاءَه بالمسؤولية على إخوان الغطغط وخطابَه الرقيق وإبداء الأسف وإعلان ذلك على الملأ، وغير ذلك من الأساليب الشيطانية المضلِّلة – كل ذلك سحَبَ بساطَ المواجهةِ العسكرية من أمام الإمــام يــحــيـى، ونقلَها إلى مربَّع المواجهة السياسية والقضائية، وهي الاستراتيجية التي اعتمدها الإمام في علاقته مع ابن سعود إزاء هذه القضية.
أولا: مـوقـف ابن سعود المُـعْلَن
ترجَّح كما سبق أن عبدالعزيز ابن سعود كان العقل المدبِّر لهذه المــذبــحــة، والذي أصدر قرار تصفية أولئك الــحــجــاج، وأنه حقق أهدافه التي كان يسعى لها، وأنه لقبح الجريمة وشناعتها وفظاعتها كان قد رتَّب لنفسه مخرجا، بينما رتَّب بدقة وعناية ليكون هناك ما يشبه الطرف الثالث الذي يمكنه تحمل المسؤولية نيابة عنه، وأنه مع ذلك ومهما كان الأمر فإنه مسؤول مسؤولية كاملة عما ارتكبه جيشه من جرائم ومجازر.
ومما سبق ومن خلال المصادر الــيــمــنية والنجدية فإن الدور العلني الذي اضطلع به هو الظهور بمظهر المنكِر الكاره للجريمة، والمتأسِّف لوقوعها، والاكتفاء بعبارات المجاملة والتنصُّل والاعتذار عن اتخاذ أيِّ موقفٍ عملي لمحاسبة الجناة أو تعويض الضحايا.
وكما مر فقد أرسل هو وحاكم عسير ما يفيد تبرؤهم وتنصلهم من ذلك العمل المشين، فما كان من الإمــام يــحــيـى إلا التحكيم لابن سعود في القضية(1).
ورغم اعتراف النجديين بأن ابن سعود “لم يخل الإخوان من المسؤولية”، وأنه “جازاهم بعد ذلك الجزاء الذي يستحقون”، إلا أن هذا الموقف القولي لم يُفْضِ إلى موقفٍ تأديبيٍّ وعمليٍّ عادلٍ بحقِّ المجرمين تجاه أولئك الضحايا، لا بل إنه في آخر المنشور الذي كتب قبل الحرب الــيــمــنية النجدية عام 1934م يكشف بوضوح تنصل ابن سعود عن أية مسؤولية تجاههم(2).
فهو من ناحية يقر بمسؤوليتهم إلى حدٍّ ما ويعتذر عن الجريمة ويتأسف لها، ويقر بأنهم أخطأوا، وأنهم جنوده، ولكنه لا يريد الاعتراف بأي حق للضحايا لا بقصاص ولا بتعويضٍ عادلٍ، ولا بدياتٍ مسلَّمةٍ إلى أهلهم.
وأما زعم المنشور بأنه جازاهم الجزاء الذي يستحقون فهو من باب استغلال الظروف اللاحقة التي جاءت في سياقٍ آخَر، حيث هؤلاء كانوا قد انفضَّت شراكتهم الآثمة مع ابن سعود، وباتوا يتمرَّدون على أوامره، وكان ابن سعود قد ضاق بتصرُّفاتهم ذرعا، كما ضاقت بها بريطانيا أيضا، وهو الملك البراجماتي الوصولي، فقرر تصفيتهم بعد أن وظَّفهم واستخدمهم بشكل بشِع في أسوأ مجازر التاريخ السياسية، ورباهم لضرب خصومه، واحتلال الجزيرة العربية، أي أن قتله لبعض رجالهم وقياداتهم لم يكن اقتصاصا منهم لارتكابهم مــجــزرة تـنـومـة، بل حفاظا على ملكه وإبعادا لأصدقاء الأمس وخصوم اليوم من المشهد السياسي في نجد بحسب حاجته لذلك، واستجابة لرغبة بريطانيا حليفته.
ورغم أن الإمــام يــحــيـى كان قد حكّم الملك عبدالعزيز في القضية وجاراه في كون المعتدي جنوده لا هو، فصرف ابن سعود له وعودا جميلة، ولكنه لم يبُتَّ في الموضوع، ومع ذلك فلم يكن من الإمــام يــحــيـى الإلحاحُ عليه باستنجازه حكمَه، فمرَّت على ذلك أعوامٌ وسنون، ولم يحكم فيهم بشيء(3).
لقد وفى ابن سعود لقراره بتصفية الــحــجــاج، لأنهم إذا كانوا يستحقون القتل فجديرٌ به أيضا حرمانُ ذويهم من أية ديات أو تعويضات، وها هو أحدُ أولياء شــهــداء تـنـومـة يعلنها بصراحة أن ابن سعود “باء بدمائهم وأموالهم ولم يتخلَّص منهم إلى أن توفي”(4).
بلى أرسل ابنُ سعود ببعضِ المنهوبات في أول عام 1342هـ من دواب ومنقولات وبعض قيم السمن(5)، وأخذ صكا بذلك كما تقدم، لكنها كانت ذرا للرماد على العيون، وكانت هزؤا وسخرية بالضحايا وأهلِهم أكثرَ منها إيفاءً بحقٍّ، أو عودة إلى رشد، بل كانت جزءا من تبييت النية على التنصل من تحمل أية مسؤولية.
روى نزيهُ العظم أن ابنَ سعود “وافق على دفع دية الــحــجــاج المقتولين”، ولكنه استدرك ذلك بقوله: “وبقيت هذه الأمور معلقة إلى أن انفجرت الحرب المعلومة بين العاهلين العظيمين”(6)، فأخذ أستاذنا المؤرِّخ الدكتور سيد مصطفى سالم هذه الرواية المستدرَك عليها على علاتها، وجعل من موافقة ابن سعود القولية فعلا حقيقيا، وأخذ منها أنه بالفعل دفع ابن سعود ديات الــحــجــاج، وإن أوردها بصيغة التمريض، حيث قال: “وقيل: إن ابن سعود دفع ديات القتل”، ليأتيَ مؤرِّخٌ قدير كالأستاذ الأمير أحمد بن محمد بن الحسين حميد الدين فيقع في خطأ جسيم، بقطعه أن ابن سعود دفع ديات الــحــجــاج(7)، معتمدا على استنتاج الدكتور سيد مصطفى سالم، وهو اعتماد في غير محله.
ثانياً: مــوقــف الإمــام يــحــيـى .. ولماذا؟
لا أظن الإمــام يــحــيـى بحصافته وكياسته وفطنته المشهود بها يخفى عليه أن قرارا خطيرا بتصفية مثلِ ذلك العدد لا يمكن أن يُصْدِرَه جنودٌ مرابطون على قارعة الطريق، ولا يخفى عليه أن قرارا مثل ذاك لا بد وأن يُتَّخَذَ في أعلى مستوى من مستوياتِ اتخاذِه في نجد، وأنه من المُحْتَمَل أن بريطانيا أيضا كانت ضليعةً وراء هذه المــجــزرة، وهي العدوُّ اللدودُ لليمن ولحاكمها الإمــام يــحــيـى.
حاول البــحــث المفيدُ تبيينَ سببِ هدوءِ الإمــام يــحــيـى وتفضيلَه خيارَ المواجهة السياسية على الخيارِ العسكري ضدَّ نجد، بقوله: “لكونِ هذا العدوِّ في غاية البُعدِ من هذه البلاد في قوة عظيمة، يَمُدُّه بها عدوُّ الـلـه الفرنجي الإنكليزي”(8).
والحقيقة أن هذه المــذبــحــة وضعت الإمــام يــحــيـى في وضعٍ لا يُحْسَدُ عليه، فهذا الشعب الــيــمــني يتلمَّظ غيظا ويبدي استعداده ليلَ نهارَ لخوض معركة الانتصاف من المعتدين بالنفوس والأموال، وهؤلاء العلماء والخطباء والشعراء يعتلون منابرهم لتحريض المقاتلين ولإطلاق دعوات الاقتصاص من المجرمين(9)، لكن وضع الإمــام يــحــيـى الداخلي وقلقه وتوجسه وتردده حول خيار المواجهة العسكرية، الخيار الذي فيه نوع من المخاطرة والمغامرة، وإعلان ابن سعود موقفَ المخادِع والموارِب – أوصد عليه باب التحرك عسكريا.
كان الإمام بين خيارين، إما أن يُعْلِنَ النفيرَ العام وتجهيز المقاتلين وإرسالهم إلى معركة بعيدة المكان، غيرِ مأمونة العواقب في ظلِّ ظروفٍ داخلية وخارجية غيرِ مساعدة، أو الضغط على المعتدين سياسيا لإنصاف الضحايا، لا سيما وكبيرُ نجد يعلن تأسُّفَه واعتذاره وتنصُّلَه.
إن اعتذارَ حاكمِ نجد، وإلقاءَه بالمسؤولية على إخوان الغطغط وخطابَه الرقيق وإبداء الأسف وإعلان ذلك على الملأ، وغير ذلك من الأساليب الشيطانية المضلِّلة – كل ذلك سحَبَ بساطَ المواجهةِ العسكرية من أمام الإمــام يــحــيـى، ونقلَها إلى مربَّع المواجهة السياسية والقضائية، وهي الاستراتيجية التي اعتمدها الإمام في علاقته مع ابن سعود إزاء هذه القضية.
لقد وضع الإمام هذه القضية في صُلب أولويات سياسته الخارجية واهتماماتها، فما مِن لقاء أو مؤتمر ثنائي بينه وحكومة نجد إلا وعرض هذا الموضوع كمقدِّمة لحل القضايا الأخرى، واعتبرَ حلَّه مفتاحًا لحلِّ القضايا الأخرى، وفي الجانب القضائي فقد كان يأمُل أن لدى عبدالعزيز حسا دينيا ومروءة قبلية تُلْزِمه باتخاذ موقفِ حقٍّ تجاه أولئك الضحايا؛ لذا سارع الإمامُ بإلقاءِ الكرةِ في مرمى الملك النجدي محكِّما إياه طالبا الإنصاف منه(10).
لكن الخصْمَ والحَكَم في آنٍ واحدٍ ماطل في إصدارِ أيِّ حكم، رغم استغلال الإمام مواقف عديدة للضغط عليه سياسيا؛ إذ ظل الإمام يطرح القضية في محطات عديدة لاحقة كما سيأتي(11).
كان الإمام مسكونا بطموحِ وأملِ جمعِ الكلمة والاعتصام بالكتاب والسنة والتمسك بالعترة النبوية ودعوة الــمــســلــمين إلى نبذ الفرقة والشتات، وكان غافلا عن أن هذا الكيان الذي يواجهه هو كيان (قـرن الـشـيـطـان) الذي منه الفتنة والفساد والزلازل.
ومن عجيب المصادفة أن الإمام رحمه الـلـه كان قد أنشا منشورا بليغا نشرَتْه صحفُ مصر والعراق والشام، خاطب فيه جميع الــمــســلــمين بتلك الأفكار الوحدوية والإيمانية في ذات التاريخ(12) الذي تعرَّض فيه حــجــاج شعبِه لمــذبــحــة جماعية بتهمة الشرك والمروق عن الدين، ثم بعد سنوات أنشأ قصيدةً غراءَ وأرسل بها مع وفدٍ يمنيٍّ سافر إلى مــكــة للتفاوض مع العدو اللدود ابن سعود، عبّر فيها عن نواياه في حب الوئام، واجتماع كلمة العرب، والتذكير بوجوب الوحدة، والإشارة إلى أن أهم أسباب الخلاف هو توسيع الملك(13).
إن الإمــام يــحــيـى بهذا المنشور شخًّص حالة ابن سعود وأمثاله من الطامحين في الملك والتوسع من خلال طرُقٍ غيرِ مشروعة، ومحرَّمة، من قتلٍ وانتهاكِ حرماتٍ وإفسادٍ في الأرض، بيد أنه لم يكن موقفه على مستوى خطورة تلك النبتة الشيطانية وخطر التهاون معها.
ورغم مماطلةِ ابنِ سعودٍ عن الحكم وإنصاف الضحايا إلا أن الإمامَ ظلَّ وفيا لرؤيته هذه في كل محفل أو مؤتمر أو لقاءٍ سياسيٍّ جمَعَ الطرفَيْن، وكان يعاني دائما من توجُّع شعبِه وتأوُّهِه، فيرشدُهم إلى الصبر، ويروِّح عليهم بالوعود الجميلة، وفي نفس الوقت عانى الأمرَّين من تسويفِ ومماطلةِ ابنِ سعود(14).
كما عبّر عن أخذه بخيار المواجهة السياسية السلمية، ما كان يقوله ويكتبه وينشره في الجرائد العربية بـ”أن كلَّ بيت في الــيــمــن يحمل ثأرا دمويا على الدولة السعودية يطالبه بالإذن له بأخذه بالقوة الحربية”(15).
والحقيقة المرة التي يجب الاعتراف بها أن استراتيجية المواجهة السلمية السياسية والقضائية التي سلكها الإمــام يــحــيـى كانت رهانا خاسرا، وأملا خائبا، فلماذا لجأ الإمــام يــحــيـى إليها مفضلا إياها على خيار المواجهة العسكرية التي للأسف اضطُرَّ إلى خوضها لاحقا، وتحديدا بعد حوالي 11 سنة، ولكن بعد أن أضاع ظروفا كانت غاية في الأهمية وكانت مهمة في التفاف المجتمع من حوله.
وقبل مقاربة الحالة والتقييم لها .. علينا الغوص أكثر في أحوال الــيــمــن الداخلية، والتي لا بد أن حكومة الإمام كانت تتأثر بها سلبا أو إيجابا.
فقد كانت هناك حالة شعبية عارمة، ودماء يمانية فائرة من الغيظ، وسخط مجتمعي واسع، واستعداد قبلي ومجتمعي للثأر من ابن سعود، كانت تصب في صالح التحرك العسكري، كما كان هناك انشغالٌ نجدي بحروبٍ في الــحــجاز وفي نجد أيضا.
ولكن من جانب آخر فقد كانت هناك حالة سياسية في البلد لا تساعد على فتحِ حروبٍ كبيرة على مستوى بلدين كبيرين؛ إذ حدثت عدة تمردات في ذات الفترة التي وقعت فيها تلك المــجــزرة، وقد تقدم ذكرها، وكلُّها كلَّفت الإمــام يــحــيـى خسائر كثيرة(16).
جدير بالذكر أنه لم تبسط حكومة الإمام سلطتها على بلاد البيضاء إلا في سنة 1342هـ / 1924م، ولم تُخْمَد ثورة قبائل حاشد وإجبارهم على الامتثال لأحكام الشريعة لا سيما في توريث النساء إلا في عام 1343هـ/1925م(17)، ثم سار سيف الإســـلام أحمد في عام 1346هـ / 1927م إلى حاشد لحرب الممتنعين عن الطاعة للدولة(18)، ففرَّ الشيخ ناصر بن ناصر مبخوت الأحمر إلى الملك عبدالعزيز ابن سعود لمواجهة حاكم بلده الإمــام يــحــيـى(19). وفي عام 1346هـ / 1927م تمَّ إخماد تمرُّد الزرانيق، وفي عام 1348هـ / 1929م بسطت الدولة سلطانها على بلاد الجوبة وحريب بيحان، وفي عام 1350هـ / 1931م استولى الجيش الــيــمــني على مأرب، ثم في عام 1351هـ /1932م سار سيف الإســـلام أحمد إلى سفيان لتأديب المتمنِّعين من قبائل دهمة(20).
هذه الحالة السياسية تبيِّن أن “أيادي الإمام كانت مشدودة الوثاق” من الانتصاف من ابن سعود، وأنه أيضا “كان عليه أن يحل معضلات كانت ملتهبة مع البريطانيين، ومع الإدريسي”(21)؛ الأمر الذي صعّب عليه التحرك العسكري ضد ابن سعود.
ومع ذلك كله ومع إنجازات الإمام يحيى الكثيرة في تحرير اليمن وإقامة دولته الحديثة، ونشره للعدل، وإبقاء اليمن حرة مستقلة، فإنه يجدر القول بأن كثيرا من تلك التحديات لا سيما الداخلية منها والتي واجهت الإمــام يــحــيـى فإن من المرجّح أن سببها يعود إلى تقاعسه في مواجهة ذلك العدو النجدي الغاشم، والذي ارتكب أفظع جريمة عرفها التاريخ، ويبدو أن تقاعس الإمــام يــحــيـى وخطأ تقديره للموقف أظهره أمام شعبه ومواطنيه بمظهر الضعيف المتردِّد؛ الأمر الذي جرّأ كثيرا من أولئك المتمردين على التمرُّد عليه، وضاعف نقمة وسخط الساخطين عليه.
لقد كان ذلك تحديا كبيرا، لكنه كما يبدو كان يوفِّر للإمام فرصة دينية ووطنية كبيرة، كان يمكنه أن يحوِّله إلى فرصة عظيمة في التحشيد للجهاد، والمواجهة، وخلقِ روحيةٍ دينيةٍ ووطنيةٍ لمواجهة الأعداء، وهو ما كان سيُضْعِفُ الطامحين في الداخل، ويُلْهِبُ الحماسَ الشعبي والجماهيري ضد العدو الخارجي.
كان يمكنه أن يستنجِزَ ابنَ سعود في حكمِه الذي ماطل فيه، وإلا أعلن خيارَ المواجهةِ المُسَلَّحة، وما عليه إلا أن يحرِّك قطعات من جيشه إلى حدود عسير الــيــمــنية، والبدء بتحرير ما أمكن منها، وستأتي كتائبُ القتلة الإخوان إلى هناك ليقتصَّ منهم الــيــمــنيون، ولتكنْ حينذاك المعركة التي تأجَّلت إلى عام 1934م والتي اضطر الــيــمــنيون لخوضها ولكن بعد أن ضاعت عوامل قوتها وفرص نجاحها.
كان هذا الموقف سيعطيه شعبية عارمة في مواطنيه، وسيظهره بمظهر القوي الذي عهدوه في حروبه ضد الأتراك، وكانت ستتهيأ النفوسُ للجهاد الذي هو من أفضل الواجبات وأقدس الأعمال، وسيسجل التاريخ للإمام يحيى سبقَ شرفِ التصدي العسكري لأخطرِ بدعة في تاريخ الإســـلام، وهي بدعة قـرن الـشـيـطـان، التي حذّرتنا منها نصوص الإســـلام.
هذا الباب الذي حاول الإمــام يــحــيـى تجنُّبَه مختارا، أُلْجِئَ إلى الدخول فيه مرة أخرى مضطرا في عام 1934م، ولكن بعد أن فقد الــيــمــنيون الحمية الدينية والأخوية تجاه إخوانهم الـشــهــداء في تـنـومـة، وخفَّت وتيرة الحماس ضد أولئك المعتدين، وبعد أن قضى ابن سعود على كل مناوئيه في نجد والــحــجاز، واكتظت مخازنه بالأسلحة المتطورة من بريطانيا، وبعد أن اكتسب قدسية الحرمين الشريفين بعد استيلائه عليهما، وبعد أن بدأ يصدِّر أحابيلَه ووساوسَه الشيطانية المضلة إلى الآخرين، وربما وقع الإمــام يــحــيـى في شيءٍ من شراكها، ولذلك لم يعُد في الوعي العام جهادُ ابن سعود لاحقا كما كان عليه سابقا، حتى ولو أعلنه الإمــام يــحــيـى حميد الدين؛ لأنه سبَقَ وأن هادنه، وتبادل وإياه الوفود وعباراتِ المجاملة والثناء.
وربما كانت هزيمة الــيــمــن في عام1934م نتيجة طبيعية للتفريط في دماء أولئك الـشــهــداء، ونتيجة لاتخاذِ موقفِ الضعف، والتردُّد، وللحرمان من شرَفِ التصدي العسكري لأخطرِ مشروعٍ منتحِل للإسلام على مر تاريخه.
لا يتحمَّلُ الإمــام يــحــيـى رحمه الـلـه أو حكومته تلك المسؤولية بمفردهم، فأولئك المتمرِّدون والطامحون من الشيوخ والقبائل والمناطق والأمراء، وأولئك المرتزِقة الذين كانوا يفضِّلون حكْمَ الإنجليز على حكم الإمــام يــحــيـى، وأولئك الذين فرّوا إلى ابن سعود لمساعدتهم ضد الإمــام يــحــيـى، همُ الذين ضاعفوا توجُّسَ الإمــام يــحــيـى وقلقَه وترَدُّدَه وهم الذين أضعفوا موقفه أيضا، وبالتالي فهم يتحمَّلون قسطا كبيرا من اللوم، والتقريع في ما يتعلَّق بتلك المــذبــحــة.
وفي هذا درس عظيم يجب أن نفقهه اليوم، فندرك أن تفرُّقَنا وضعفَنا وتخاذُلَنا سيؤدي إلى إضاعة حقوقنا وانتهاكِ كرامتنا، وتغوير جراحاتنا، ونعي أن المرتزِقة منا هم سببُ كلِّ بلاءٍ حلَّ ويحُلُّ بأمتنا من أعدائها المتربصين.
ثالثا: مــوقــف البـلـدان الــعربــية والإســـلامـية
لم تتوفّر لدى الباحث معلوماتٌ تفيد بمواقفَ وردودِ أفعالِ البلدانِ العربية والإســـلامية حول تلك المــجــزرة، ولكن من خلال جريدة القبلة المكية التي كانت لسانَ حكومة الشريف حسين في الــحــجاز، ومن خلال الطبيعي في أخلاق العرب والــمــســلــمين فإنه من المتوقَّع أن تلاقيَ تلك المــجــزرة الرهيبة والفظيعة استنكارا شديدا، وإدانة بالغة منهم.
جريدة القبلة وصفت المــجــزرة في حينها بـعنونتها خبرَها في صفحتها الأولى بـ”فاجـعـة فـظـيـعـة”، وشرحت فيه مكانها، وكيفية القضاء على الــحــجــاج، إلى أن ختمته بقولها: “فماذا عسى أن نقول في هذه الفاجعة الفظيعة التي لم يسبِق لها مثيلٌ في التاريخ، ولا نشك أن أولئك الـشــهــداء أحياء عند ربهم يرزقون”(22)، وبالتأكيد فهذا هو موقف حكومة ملك الــحــجاز الشريف حسين بن علي ابن عون.
بل كانت تهامة المحاذية لتـنـومـة – والتي كانت تخضع لحكم الشريف حسين – ملاذا للناجين من الــحــجــاج، بعد أن فروا بجلودهم إليها(23) وبالتحديد إلى مركز بارق فيها، والذي كان تحت إمرة الشريف راجح، وكان أمير الــحــج والــحــجــاج النـاجــون معه قد وصلوا إليه، ومنه أبرقوا بخبر الوقعة الأليمة(24)، وسرعان ما سافر من أراد الــحــج من أولئك النـاجــين إلى جدة ثم مــكــة لتأدية مناسك الــحــج، ووصلوا جدة بتاريخ 4 ذي الــحــجة 1341هـ، وبعدها بقليل وصلوا مــكــة والتقوا بالشريف حسين وحلوا ضيوفا لديه، وشرحوا له عن كثب تلك الحادثة الأليمة(25).
رابعاً: نــموذج لمــوقـف علــماء الــمــســلــمين
انقسم موقف علماء الــمــســلــمين إزاء هذه المــجــزرة بين مبرر للجريمة وهم أولياء وحلفاء ابن سعود، وعلى رأسهم صاحب المنار محمد رشيد رضا، ومستنكر، وهم الذين سخروا أقلامهم في تعرية قـرن الـشـيـطـان، وفضح الوهابية التكفيرية ومنهم السيد الأمين العاملي.
ادَّعى رشيد رضا أن النجديين ظنوا الــحــجــاج نجدة، وادعى أن عبدالعزيز اعتذر عن الحادثة وأنه اتفق مع الإمام على تعويضٍ مقبولٍ.
قال السيد الأمين العاملي في الردِّ عليه:
– وهذا عذرٌ فاسدٌ باردٌ، يراد به سَتْرُ فظائع الوهابيين في استحلال دماء الــمــســلــمين وتوجيه بأسهم وسطوتهم، وأفواهِ بنادقهم كلها إلى قتال الــمــســلــمين خاصة.
– وأما قول صاحب المنار: إنهم اعتقدوهم نجدة، وكيف ذلك وهم عزَّل من السلاح؟
– ولو كانوا مسلَّحين ما استطاع الوهابية قتلهم، ولكانوا أقصر باعاً من ذلك.
– وهل تَخْفَى حالة الــحــجــاج من حالة الغزاة المحاربين، فكيف يمكن لعاقل أن يعتقد أو يظن أنهم نجدة؟!.
ويسوق السيد الأمين شواهد لفظاعات الوهابيين النجديين؛ إذ يقول:
– وهل اعتقد الوهابيون في أعراب شرق الأردن أنهم نجدة حينما غزوهم في عُقْر دارهم وأعملوا فيهم رصاصَ البنادق وحدَّ السيوف؟!
– وهل اعتقدوا في أهل العراق أنهم نجدة فتابعوا عليهم الغزو والقتل والنهب؟!
– وكيف ساغ للوهابيين وهم وحدهم الــمــســلــمون الموحِّدون الأبرار الأتقياء الورعون!! الذين تورَّعوا عن الفتيا في التلغراف لعدم النص فيه أن يقتلوهم قبل سؤالهم، وتعرُّف حالهم، ولكن حالهم كما قال الحسن البصري في أهل العراق: يسألون عن دم البقة، ويستحلون دم الحسين.
هذا نموذج للمواقف الإســـلامية وللتبريرات وردودها التي تناولت الحادثة.
يتبع في الحلقة القادمة:الفصل الرابع مواقف مختلقة من المجزرة
الهوامش:
(1) مطهر، سيرة الإمــام يــحــيـى بن محمد حميد الدين، ج2، ص421.
(2) مجلة المنار، مج33، ص21، مقالة: ما بين الإمامين في جزيرة العرب.
(3) مجلة المنار، مج33، ص18- 19، مقالة: ما بين الإمامين في جزيرة العرب؛ نقلا عن جريدة الإيمان، عدد85، جمادى، سنة1352هـ.
(4) السياغي، قواعد المذهب الزيدي، ص22، الهامش.
(5) سيرة الإمــام يــحــيـى بن محمد حميد الدين، ج2، ص421.
(6) العظم، رحلة في العربية السعيدة، ص228.
(7) في كتابه القيم: الإمام الشهيد يحيى حميد الدين، ج2، ص174.
(8) مجهول، بــحــث مفيد، 114/ ب.
(9) مجهول، بــحــث مفيد، 114/ ب.
(10) مطهر، سيرة الإمــام يــحــيـى بن محمد يحيى حميد الدين، ج2، ص421، 445- 446.
(11) مطهر، سيرة الإمــام يــحــيـى بن محمد يحيى حميد الدين، ج2، ص445- 446.
(12) الكرملي، بلوغ المرام، ص94.
(13) الجرافي، المقتطف، ص249- 250.
(14) مجلة المنار، مج33، ص18.
(15) مجلة المنار، مج34، العدد22، صفر 1353هـ/ يونيو 1934م، ص6، مقالة: الحرب في جزيرة العرب بإطفاء نارها وفوائدها وغايتها.
(16) الشماحي، الــيــمــن الإنسان والحضارة، ص193- 194.
(17) الجرافي، المقتطف، ص245.
(18) الجرافي، المقتطف، ص249.
(19) الشماحي، الــيــمــن الإنسان والحضارة، ص194.
(20) الجرافي، المقتطف، ص253.
(21) الشهاري، المطامع السعودية في الــيــمــن، ص71.
(22) جريدة القبلة، العدد 703، ص1.
(23) بــحــث مفيد، 114/ ب.
(24) جريدة القبلة، العدد 705، ص4.
(25) جريدة القبلة، العدد 705، ص4.