الجبير يذبح الهوية
أحمد يحيى الديلمي
رغم أن ما ورد على لسان الجبير وزير الخارجية السعودي في مؤتمر بون الألماني، أظهر تفاهةً في التفكير وسطحية مقيتة في معنى الانتماء للأمة، وتنكراً فاضحاً لقيم الانتماء الجامعة، إلا أن ما يثير الاستغراب أن وسائل الإعلام الدولية والإقليمية اهتمت بالأمر وجعلته يتصدر نشرات الأخبار، بما في ذلك الإعلام العربي شبه المعتدل، رغم أن الرجل التقى مع وزير خارجية الكيان الصهيوني في المجاهرة بالفاحشة، وإخراج ما ظل يجري تحت الطاولة من تقارب بين الكيانين إلى العلن، إلا أن الإعلام العربي أو على الأقل بعضه هلل للخبر وسوقه باعتباره نصراً مبيناً، مع أنه حمل كل دلالات القبح ومؤشرات العربدة والمبالغة في الفهم الملوث بأفكار الخنوع والاستسلام والانحناء لإرادة الكيان الصهيوني، إذ يكفي أنه عرى المواقف الخادعة التي زايد بها هذا النظام ردحاً من الزمن واخترق التفاصيل الدقيقة عن انحدار الكيانين من أصل واحد، يكن العداء المطلق للعروبة والإسلام وهو أمر مخيف يتطلب الوعي بخطورة الوضع الذي وصلنا إليه بعد اتضاح قدرة الأعداء على اختراق مكون الأمة، ببعديه القومي والديني وحرف بوصلة الصراع مع العدو التاريخي للأمة الممثل في الكيان الصهيوني، عبر إثارة العداوات واندلاع الحروب بين كيانات الأمة بخلفيات مذهبية وإثارة النعرات الطائفية، وهذا هو الجانب الذي تناغمت حوله كلمة الجبير مع ليبرمان، ولم يتردد الأخير من الإعلان عن حلف سعودي صهيوني تركي لمواجهة الخطر الإيراني كما زعم .
في هذا الجانب لم يكتف ليبرمان بالإستبشار والتصفيق بحرارة لكلام الجبير عندما أتهم إيران بأنها الداعم الوحيد للإرهاب في العالم لكنه أعاد نفس الكلام وأكد عليه في الكلمة التي ألقاها باسم دويلته .
في الحقيقة أنا لست معنياً بالدفاع عن إيران، إنما يعنيني فضح الأثر التضليلي لأمواج الدعاية الصهيونية والأفكار الضالة التي باتت تنخر في عقول بعض العرب، وتأخذها بعيداً عن الحقيقة، بالذات حكام الخليج المتسكعين في دهاليز البغي والظلال، يبدو أن هذه الأفكار الظلامية السوداء تسللت إلى أعماقهم فأضاعت عقولهم، وتكاد تقضي على هويتهم نهائياً .
هذه المفارقة العجيبة لا يقبلها أي عقل أو منطق، فلقد غيبت الروح الوطنية، بل وأضاعت روح الانتماء إلى الأمة بأفقها القومي، فأصبحت فكرة الحفاظ على الذات وحاضر ومستقبل البلاد سداً منيعاً أمام قيم الانتماء الصادق للأوطان والعقيدة ولم الشتات بين أطراف الأمة لأنه خطر على هذا الكيان .
المشهد برمته يكشف عن عمق الفخ الكبير الذي وقع فيه النظام السعودي، وعلى خلفيته يتم استنزافه مادياً وبشرياً، وكلما زاد هذا الاستنزاف ارتفعت حالة التوتر مقابل الإصرار على التحكم في مسارات حياة الآخرين والسعي إلى قتل أي سبيل معرفي يقدم مفاهيم مغايرة لما يؤمن به هذا النظام، أو محاربة كل وعي معرفي جديد باعتباره خطراً على مقومات وجوده، وكلما زادت الإخفاقات يصبح التحالف مع الشيطان فعلاً محموداً ومباركاً من وجهة نظره .
من هنا تتضح التداعيات المزرية لثقافة سوء الفهم، وكيف أن من امتهنوا الدين بأفق انتهازي نفعي استطاعوا استقطاب البسطاء إلى مزالق التبعية للأعداء عبر ابتكار سياسات خادعة أخلت بقدسية الدين، وحولته إلى مجرد يافطة للتضليل، فأضعفت قوة الارتباط بمضامينه السامية، واتسع نطاق التوجهات النفعية المغلفة بقشرة الإسلام لبشر يقبلون الهوان والذل، ويؤمنون بأن طاعة ولي الأمر قاعدة من قواعد الاعتقاد الصحيحة والخروج عليه ولو بانتقاده فعل إجرامي يوجب إقامة الحد، وعندما يرتقي ولي الأمر إلى فوق مستوى الشبهات يصبح مطلق التصرف، ويمكنه إبدال الهوية الحقيقية للأمة بأخرى تخالف أبسط مقومات الانتماء للأوطان، وتتجاوز الهوية المتجذرة في أعماق التاريخ، وهذا هو سر الانحرافات التي أعلن عنها الجبير، تبعاً لذات الانحدار واستلاب الإرادة لا نستبعد أن يعلن الجبير في يوم من الأيام أن فلسطين أرض الميعاد، وأن المدينة المنورة أحد مواطن اليهود الأصلية، يطالبهم بالعودة إليها، لا أقول هذا الكلام من قبيل المزاح والتهويل، لكنه الواقع وتصرفات الرجل توحي أنه يتعمد ذبح الهوية وأنه صهيوني أكثر من الصهاينة.
نسأل الله السلامة والنجاة للأمة وهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل ..