“للأحياء فقط”
جميل مفرح
دائما ما نقرن رحيلنا وانقضاء آجالنا بمبرِّرات وأسبابٍ ودواعٍ، وكأننا لولاها مخلَّدون..
قبل فترةٍ وجيزةٍ قرأتُ خبراً عن رحيل (شاب) في السابعة والتسعين من العمر يدَّعي أطباء المستشفى الذي توفّي فيه أن التدخين كان المُتسبِّب في رحيله.. يا لسلطة الموت كم نخشى حتى من أن نتهمه بحصاد من نحبهم..!!
*** *** ***
أنا على يقين بأنه حين ينقضي أجلي وأرحل سيكون التدخين في مرمى الاتهام بأخذ روحي، واقتطاع جزء هامٍ مما كنت أستحق من العمر..
وسيكتب الصديق د.محمد الشدادي منشوراً ينعيني فيه ويوضح بأنه حذرني بشدة من الإفراط في التعاطي..
ولذلك قرَّرتُ أولاً أن أعلن تضامني المطلق مع التدخين وأقف في صالحه وقفاتٍ احتجاجيةً، للمطالبة برفع وإيقاف ما يطاله كل لحظة انهزام ٍمن مظالم..
وثانياً أن أكتب الليلة وصيتي، بعد أن وجدت سبباً مبرراً وربما محفزاً لكتابة وصيةٍ.. وصيتي ستتضمَّن فقط براءة التدخين من كلِّ ما يمسُّني أو يحيق بي أو يعتري مسار حياتي الأدنى من طبيعية والأكثر من مملَّة مما قد يكون شراً.. وأن غريمي الوحيد في مختلف شكليات وكيفيات الرحيل هو الموت.. وحده من يستطيع أن يأخذني على غفلة دون أن يستطيع أحد الدفاع عني أو سحبي من يديه.. هو وحده من يجرؤ على رفع يده ونهب مدخرات من يحيطون بي من الابتسام..
هو وحده من يتجاسر على اختطافي من أيادي كركرة عاليةٍ، ومن شفاه تمتمة استفردت بي في لحظات حميميةٍ.. هو وحده من يستطيع أن يمنعني من إحداث ضوضاء مطاردة أطفالي الثلاثة وفرقعة أصابعهم كل مساء..
هو فقط من يستحوذ على قرار نفيي من فراشي وطاولة العشاء الخماسية ومقيل “عبده مسعد المدان” وصفحة الفيسبوك.. الموتُ وحده من يستطيع أن يذهب بي بعيداً دون أن أودِّع صديقتي، وحده من سيجعلها تتوعدني عندما تحاول الاتصال بي وتُقابل باحتمال أن يكون هاتفي مقفلاً أو خارج نطاق التغطية..
ومع كل ذلك ها أنا أستطيع ألا أخشاه وألا أضع له اعتباراً وأن أتجرأُ على القول إنه وحده الوغد من يستحق أن أقف أمامه وأتلو عليه عريضة اتهامي..
حسبي أنني أستطيع أن أفعل مالا يستطيع هو، أن أكتب قصيدة وأهديها إلى كل من يمرون من تحت يديه.. وأن أغير مسار حياتي ومهامي متى ما أريد.. وأن أحدث أساليب اقترافاتي الشعرية والعشقية بما يتماشى مع كل عصر وكل مكان وكل حبيبة.. بل حسبي أنني الآن أبتسم بمكر أمام شاشة الهاتف وأفسبك وأتصفح بريدي، وأهجوه بما يحلو لحنقي عليه وعلى ماهيته وكيفية كونه المرتبطة بالفناء..
تباً له وليفعل ما يشاء هذا المتسلط الغادر، لن يكون لديه أي جديد.. سوى إضافة رقم إلى سلاسل الأرقام الطويلة التي يندى بها جبينه المكفهر.. تباً له وهو يجثو ليحصي رفاقي وأحبتي استعداداً لمعاقبتي على هذا التمرد باختطاف أحدهم كما يفعل في العادة..
تباً له.. ولجبنه المتعفن.. ولطبيعته المتبرئة من سلوك الشجعان..
ولي لو وضعت له اعتباراً أو التفت إلى سبابته التي يلوح بها في وجهي كلما انفردنا ببعضنا..
ولي أيضاً لو استمررت في هذا الهذيان….