حين كان أهل مكة يسترضعون لأبنائهم في البادية فقد فازت وتشـرفت حليمة السعدية برضاعة محمد بن عبد الله بعد سبعة أشهر من ولادته فكثرت أغنامها ورأت بركة عظيمة في نفسها ومالها، وبعد عامين رجع محمد إلى أمه آمنة في مكة يعيش معها يجري في شوارع مكة ويلعب بترابها ومع أطفالها، ويتسابقون فيسبقهم فهو يتمتع بصحة جسدية تفوقهم بكثير كما يفوقهم في أخلاقه الفاضلة إضافة إلى جمال وجهه أبيض اللون أدعج العينين أقنى الأنف سبط الشعر طويل بدون إفراط شثن الكف والقدمين إنه حقًّا قمة الجمال البشري.
موت أمه (صلى الله عليه وعلى آله وسلم):
وتمر الأيام والأعوام، وبينما محمد مع أمه في طريق العودة من يثرب بعد زيارة قبر أبيه عبد الله الذي مات في المدينة ومحمد لا يزال جنينًا في بطن أمه التي تحدثه عن شجاعة أبيه وكرمه وصفاته الحميدة ها هي (آمنة) تمرض مرضًا شديدًا وتنتقل آمنة إلى جوار ربها وتدفن وقد تركت طفلها وعمره ست سنوات ليعيش يتيم الأبوين فحكمة الله تؤهله ليكون أبًا للأيتام في يومٍ من الأيام.
فيكمل محمد الطريق مع الركب المسافر إلى مكة حزينًا لفراق أمه، ويحنو عبد المطلب بقلب الأب الحنون ليخفف أحزان محمد ويرعاه ويهتم به، وها هو يجلس في صدر المجلس بجواره وزعماء قريش من حوله، فمحمد يفهم الحديث ويميز الطيب من الخبيث، ولكن عبد المطلب يغادر الدنيا بعد أن يحث ابنه أبا طالب شقيق عبد الله على الاهتمام بمحمد الذي لا يزال في الثامنة فكان أبو طالب أكثر اهتمامًا بمحمد، فلما صار في الثانية عشـرة اصطحبه إلى الشام ليتعلم فنون التجارة، وبينما هم في الطريق كانت الغمامة تسير مع القافلة لتظلل محمدًا، وحين وصلت القافلة إلى مكانٍ للاستراحة كان الراهب بحيرى قد رأى الغمامة تسير مع القافلة، وتذكَّر ما جاء به عيسـى (عليه السلام) من الدلائل على نبي آخر الزمان فأرسل غلامه ليدعو كل من في القافلة أن ينزلوا في ضيافته، فرحب بهم وأكرمهم ثم سأل محمدًا أسئلة عنه فلم يجبه ثم سأل أبا طالب عن محمد أسئلة فأجابه أبو طالب عن أسئلته، فقال بحيرى: إنه نبي آخر الزمان فاحذروا عليه اليهود فإنه المذكور في التوراة والإنجيل، فيعمل أبو طالب بنصيحة الراهب بحيرى ويحذر على ابن أخيه من اليهود ومكرهم ويترسخ إيمانه بأن لمحمد شأنًا عظيمًا أكثر من قبل.
شبابه (صلى الله عليه وعلى آله وسلم):
وكلما مرت الأعوام يزداد محمد تميزًا ورجاحة في العقل فكان يتأمل في الكون الفسيح فلم يعبد الأصنام ولم يفعل المنكرات، واشتهر في قومه بالصادق الأمين والأخلاق الفاضلة فاختارته خديجة بنت خويلد للتجارة في مالها ثم للزواج منها، خديجة ذات المال والجمال والجاه والعقل، خديجة التي ترفض زعماء قريش وتختار محمدًا.
ولأن محمدًا بحاجة في علم الله إلى من يشد أزره في قابل الأيام ويواصل مسيرة الهداية من بعده فقد اختارت عناية الله ابن عمه عليًّا ليكون رفيق دربه وتلميذه الوفي المخلص.
ولأن هذا الإنسان يحتاج إلى إعداد خاص فقد تم تأهيله في مدرسة خاصة على يد أمهر الأساتذة وأكملهم فكان الإسلام مدرسة علي وكان رسول الله محمد – (صلوات الله عليه وعلى آله) – مُعَلِّمَهُ ومربيه.
هكذا أراد الله أن ينضمَّ علي إلى أسرة رسول الله؛ فيكون تحت رعايته، ويعيش في حجره، يتنسم عطر النبوة، ويشم عَرْف الرسالة، ويتبعه في كل أفعاله وأعماله وخصائصه ومميزاته، حتى أضحى ظل النبي الذي لا يفارقه، وربيبه الذي لا ينفك عنه. ورثه في جميع خصاله النفسية والدينية.
الصادق الأمين:
هكذا عرف بين قومه بـ (الصادق الأمين) إنه ابن سادة قريش هاشم وعبد المطلب وأبي طالب، إنه الحكيم الذي أصلح بين قبائل قريش حين كادت تقتتل عند إعادة بناء الكعبة الشريفة حين وصل البناء إلى الحجر الأسود واختلفت قبائل مكة على من يضع الحجر الأسود في موضعه، في حين كان يقف الجبابرة الأشرار أكابر قريش من بني أمية ينشـرون الفساد ويسعون إلى إثارة الحروب والفتن، لقد وقف محمد بحكمته العالية بعد أن تراضوا به حكمًا وقال: «هذا ردائي ضعوا الحجر فوقه وليمسك كل كبير قبيلة بطرف من الثوب ولترفعوه جميعًا» فأعجب أهل مكة بهذا الصلح الذي حافظ على أرواحهم ودمائهم وجنَّبهم الحرب فيما بينهم.
Next Post