2- طباعة الكتاب ونشره
كانت طباعة الكتاب في الخارج هي الاختيار الأول، منذ بوادر النهضة الفكرية في اليمن في مطلع القرن العشرين، على الرغم من دخول المطبعة العربية في القرن التاسع عشر، مع العثمانيين في صنعاء والانجليز في عدن.
لكنهما لم تستخدما إلا لطباعة الأوراق الحكومية في البداية والصحف الرسمية.
وقد كانت الكتب المطبوعة محدودة العدد، كما أشرنا سابقاً ولم يكن انتشارها واسعاً. وفي مراحل لاحقة من الأربعينات ظهرت مطابع عربية اهتمت بإصدار الصحف على نحو خاص، ولم يكن الكتاب يدخل في اهتمامها، ربما بسبب القدرة المحدودة لتلك الطباعة من جهة، ومن جهة أخرى عدم الاهتمام بطباعة الكتب فقد كان كثير من الأدباء والمثقفين لا يميلون لجمع كتاباتهم أو أشعارهم، رغم نشرها في الصحف والمجلات، والذين تمكنوا من نشر كتبهم كانوا من مستوى اجتماعي معين، وفي حالات نادرة كان بعض التجار يقومون بنشر كتب أو دواوين شعرية لدعم الأدباء ظاهرة مهمة لكنها لم تتحول إلى تقليد، رغم أنها عكست اهتمام التجار بدعم طباعة الكتاب وانتشاره.
ظلت طباعة الكتب متعثرة ومحدودة، وفي السبعينات بدأت طباعة الكتاب اليمني تشهد انتظاماً نسبياً، لكن الطباعة في معظمها كانت تتم في الخارج.
وقد قامت وزارة الإعلام والثقافة في صنعاء بتبني مشروع الألف كتاب في أواخر السبعينات، ونفذت طباعة نحو ست مائة كتاب خلال عدة سنوات امتدت حتى الثمانيات من القرن الماضي وكانت الطباعة في معظمها تتم في سوريا ولبنان.
وفي عدن كان مشروع الكتاب اليمني الذي ظهر في نفس الفترة، حيث تم طباعة نحو ثمانين كتابا في بيروت، بالإضافة إلى نشر عدد من الكتب السياسية والإيديولوجية، قامت الدائرة الإيديولوجية بالحزب الاشتراكي بطباعتها في بيروت يمكن أن نقول أن التجربة الأكثر أهمية في طباعة الكتاب اليمني قامت بتنفيذها دار الهمداني للطباعة والنشر، في مطلع الثمانينات حيث تم طباعة أكثر من ست مائة كتاب في مطابع الدار في عدن وقد أرست هذه التجربة تقليدا مهما في طباعة الكتاب وتطويره فنيا وموضوعيا، رغم أن هذه التجربة لم تستمر طويلا.
إذ توقفت الدار عن الطباعة، بعد استشهاد مديرها العام الأستاذ/ أحمد سالم الحنكي في أحداث 13 يناير 1986م.
وتمثل تجربة دار الهمداني مثالاً فريداً ومتميزاً على القيادة الثقافية ودورها في تحقيق المشروع الثقافي ودعمه ويستحق الأستاذ/ احمد سالم الحنكي أن نحيي ذكراه كقائد رائد في هذا المجال وشهدت التسعينات ظهور كثير من المطابع ودور النشر، لاسيما بعد صدور قانون الصحافة والمطبوعات، الذي أوضح الأسس القانونية لإنشاء المطابع ودور النشر، وفتح مناخا جديدا لحرية التعبير والفكر، في السنوات الأولى من عمر الجمهورية اليمنية.
انتشرت طباعة الكتب في داخل اليمن، بالإضافة إلى استمرار الطباعة في الخارج. وكان النصيب الأكبر من الطباعة يتمثل في الكتب الدراسية والجامعية، بالإضافة إلى الكتب الدينية والتراثية وفي 2004م أثناء الاحتفاء بصنعاء عاصمة الثقافة العربية، قامت وزارة الثقافة بطباعة نحو ثمان مائة كتاب لباحثين وأدباء وشعراء يمنيين وقد كانت هذه العملية الكبيرة في طباعة الكتب مساهمة نثرية في نشر الكتاب اليمني، انعكست أثارها الايجابية في الحياة الثقافية، الا أن أهميتها لم تكتمل، لأنها لم تسهم في تطوير عملية الطباعة في اليمن أو في إيجاد مطبعة خاصة بوزارة الثقافة، يبقى عملها بعد انقضاء الاحتفالية الخاصة بالعاصمة الثقافية.
وفي العام نفسه، وضمن الاحتفاء بالعاصمة الثقافية، قام اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين بتنفيذ مساهمة كبيرة ومتميزة في طباعة الكتاب حيث نشر في ذلك العام أكثر من مائتي كتاب لأدباء يمنيين، وكان ما يميز هذه الإصدارات إنها طبعت في اليمن، في مركز عبادي للدراسات والنشر، وكان الأستاذ/ محمد حسين هيثم، رحمه الله ، هو قائد هذه التجربة الرائدة في أثناء قيادته للاتحاد. وهذا الشاعر المثقف يستحق الوقوف إحياء لذكراه وريادته في هذا المشروع الثقافي الذي لم يتكرر.
وفي العام 2010م كان الاحتفال بمدينة تريم عاصمة للثقافة الإسلامية، وتمت طباعة نحو مائة كتاب بهذه المناسبة، معظمها تحت طباعتها في بيروت، في تكرار لتجربة صنعاء عاصمة الثقافة العربية وبعدد أقل من الكتب.
وفي هذه المرحلة ظهرت العديد من المطابع داخل اليمن. خلط بعضها بين الطباعة التجارية وطباعة الكتب، كما أنشغل بعضها بطباعة الكتب المزورة، وهي نسبة قليلة، لكنها حملت سمعة سيئة لإعمال الطباعة في اليمن ويمكن تصنيف الكتب المطبوعة في اليمن، سواء في الداخل أو الخارج على النحو التالي:
1- الكتب الدينية وتحتل النسبة الغالبة.
2- الكتب الدراسية الجامعية ومناهج الثانوية العامة.
3- الكتب التراثية والتاريخية.
4- الكتب الأدبية وخاصة الدواوين الشعرية والمجموعة القصصية وفي السنوات الأخيرة الأعمال الروائية.
5- الكتب السياسية.
ونلاحظ غياب الكتب العلمية والكتب المترجمة وكتب الأطفال وإذا وجد بعضها فيكون في حالات نادرة.
ويمكن الإشارة إلى تجربة جامعة عدن التي أنشأت مطبعة خاصة بها وقامت بطباعة عدد قليل من الكتب، بينها بعض الكتب المترجمة لكن عملها غير منتظم وغير متواصل.
القضية الأخرى المرتبطة بطباعة الكتاب اليمني هي النشر، الذي يكاد يكون غائباً، ويمثل عقبة أمام انتشار الكتاب في داخل اليمن ولا أقول في خارجة.
إن معظم المطابع تقوم بطباعة الكتب وخزنها في مخازنها، أو أنها تعرضها في مكتباتها الخاصة أن وجدت، وأغلب هذه المكتبات تقع في نفس المدينة هكذا لا يغادر الكتاب المدينة التي طبع فيها، وأحياناً الحى أو المنطقة، لان معظم المكتبات هي نوافذ عرض للمطبعة نفسها يستوي من هذا الأمر الكتب التي تطبعها وزارة الثقافة وهيئة الكتاب والكتب التي تطبعها المكتبات التجارية الخاصة أن تسويق الكتاب وانتشاره يمثل مشكلة خطيرة وعائقاً أساسياً أمام طباعة الكتاب والنهوض به.
فليس ثمة مؤسسة متخصصة بالتوزيع والنشر، وليس هناك خطط وبرامج لتوزيع الكتاب اليمني، بل أن المكتبات الخاصة بيع الكتاب لا تقبل عرض الكتب اليمنية وبيعها، وإذا قبلت فإنها تأخذ نسبة كبيرة من قيمة البيع.
ولعلنا نتذكر تجربة الشاعر عبد الله البردوني، الشاعر المتمرد ليس في مجال السياسة وحسب، ولكن في كل الميادين المماثلة للسلطة السياسية، مثل الاحتكار والتجارة.
فقد رفض هذا الأسلوب من تسويق الكتاب، الذي يستفيد منه أصحاب المكتبات والناشرون، ولا يعود بفائدة على المؤلف، فقام بطباعة معظم كتبة على نفقته واتخذ طريقة مباشرة لتوزيعها عند إشارات المرور وفي الأماكن العامة، وبأسعار زهيدة ميسرة، وهي تجربة حققت توزيعا هائلا لكتبة وفي نفس الوقت لم يكن يجني منها أية عوائد مالية تعيد له ما انفق من مال في طباعتها.
وتكشف لنا تجربة البردوني في نشر كتبة، مأساة المثقف في بلادنا، المثقف الذي رفض أن يكون واحداً من وعاظ السلاطين والمسبحين بحمدهم، ووضع سلطة الثقافة في موازاة سلطة السياسة، بل جعلها تسبقها، لان كلمة الشاعر كانت أقوى من بيانات الحكام وخطبهم.
ولهذا عاش البردوني ومات عملاقاً مكتفياً باليسير من العيش، والكثير من حب الناس له ولأدبه.
أنفق كل ماله الذي اكتسبه من الجوائز التي حصل عليها، لينشر كتبه على قارعة الطريق، وما أن مات حتى اختفت كتبه من المكتبات. ومن المؤلم أن هذا الشاعر الذي ملأ الدنيا بحضوره الإبداعي لم متمكن من تسويق كتبة في البلدان العربية، لأنه لم يرتبط بمؤسسة نشر تقوم بهذا العمل، والذي قام به منفردا في داخل اليمن يصحبه سائقه الخاص الذي كان يساعده في التوزيع، وظل وفياً لأستاذة بعد رحيله.
وقد قامت هيئة الكتاب بنشر الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر عبد الله البردوني، وأعادت نشرها ثانية وزارة الثقافة، لكن مشكلة النشر والتوزيع ظلت قائمة، وبقيت مئات من النسخ محفوظة في مخازن الوزارة، لا تجد سبيلاً إلى القارئ المتشوق لشعر البردوني.
بالإضافة إلى أن جمع الأعمال في مجلدين ضمين حرم كثيراً من القراء من اقتنائها، وما أحوجنا إلى طبعة شعبية لدواوين البردوني منفردة، والعمل على توزيعها بطريقة شعبية واسعة تستعيد تجربته الخاصة في النشر وتحقق تواصلاً فعلياً مع شعره.
وهناك ضرورة لإعادة طبع كتبه النثرية التي تشكل إضافة مهمة إلى تاريخ المجتمع والثقافة والسياسة، وفيها الكثير من الآراء الجريئة التي عجز عنه الكثيرون.
كما أن استكمال طبع الديوانين اللذين لم ينشرا حتى الآن ونشر سيرته الذاتية وغيرها من أعمال غير المنشورة لا تزال مهما راهنة في مشروع الكتاب اليمني.
والجانب المقصود في هذا المثال الذي أخذناه من الشاعر البردوني هو إثارة ملاحظتين، الأولى أن نشر الكتاب لا يزال مشروعا فرديا يقوم به المؤلف، وهذا ما نجده في حالات كثير من المؤلفين الذين يقومون بالطبع على نفقتهم الخاصة، ثم يذهبون لبيع كتبهم في الوزارات والمؤسسات حتى يستردوا ما أنفقوه .
ولنا أن نتصور حال المؤلف البائع لكتبه، كم هي بائسة ومؤلمة!
الملاحظة الثانية تتعلق بالحقوق الغائبة للمؤلف. فإذا كان الكتاب أصبح سلعة يروج لها المؤلف من مكان إلى آخر، فهل يمكن أن نتخيل أي حديث عن حقوق مادية للمؤلف!
Prev Post