النازحــون الأفارقة في اليمن.. كالمستجير من الرمضاء بالنار


تقرير/عباس السيد –

مافيش عندكم واحد يموت من الجوع عندكم في بِرِكة في رحمة بين الناس.. في أثيوبيا الحياة صعب مافيش عمل مافيش فلوس.. ممكن تموت من الجوع والناس تشوفك وتمشي من قْدامك وكأنك مْش حاجة ..” . هذا هو الفرق بين اليمن وأثيوبيا كما وصفه لي الشاب الأثيوبي” بلال” الذي يعمل منظفا في أحد المستشفيات الأهلية بالعاصمة صنعاء.
يتحدث ” بلال ” عن اليمن بدهشة وإعجاب حتى تشعر أنه يعتقد بأن رزقه قد سبقه في النزوح من أثيوبيا واستقر عندنا في الجزيرة العربية.. تْرى هل يزال” بلال “على موقفه بعد ما تعرض له المئات من بني جلدته ورفاقه في المعاناة من النازحين الأفارقة في” أحواش العار” على الأراضي اليمنية ¿.. سامحنا يا بلال.. أستحي أن أقابلك لمعرفة رأيك بعد الذي حدث رائحة العار ستلاحقنا وإن أحرقنا في تلك الأحواش كل بخور سقطرى..

خلال الأسبوع الذي قضيته نزيلا في المستشفى كنا نلتقي سوية ـ دون ميعاد ـ في ركن معزول بعيدا عن غرف المرضى وأعين الممرضين في الساعات الأخيرة من الليل.. هو يسترق بعض الدقائق للاستراحة من عناء العمل وأنا أجد في المكان فرصة للتدخين بأمان.
ذات مساء حاولت إقناع ” بلال” بأننا في اليمن فقراء مساكين لا نختلف كثيرا عن حال الأثيوبيين وعلى سبيل المثال: عقدتْ لهْ مقارنة بين العاصمتين ـ صنعاء وأديس ـ من حيث الجمال والطبيعة والعمران والمدنية وقد كنا نْطل من مكاننا في الطابق الرابع للمستشفى على ما كان يعرف بمعسكر الفرقة الأولى ـ المساحة القاحلة المترامية الأطراف ـ فرد” بلال” : صحيح عندكم مافيش فلوس كثير بس في خير وبِرِكة ثم روى لي مشهدا حدث له قبل عامين في منطقة يمنية أثناء رحلة قدومه إلى صنعاء ..
لا يتذكر” بلال” اسم تلك المنطقة ولكنه يتذكر حين دعاه رجل إلى” الصبْوح” وقد كان يتضورْ جوعا وقْواهْ منهكة من عناء السير الطويل . قدم له الرجل الخبز وحليب البقر ومع كل رشفة حليب كان” بلال” يتلفت حوله ويمعن النظر في المنطقة المحيطة بمنزل الرجل فلا يجد بها شجرة ولا عشبا أخضر ويستغرب : كيف يعيش ذلك الرجل في تلك المنطقة الجرداء ومن أين يأتي بالعلف لبقرته كي تدر له الحليب ¿¿ وأضاف والابتسامة تعلو مْحياه : كْنت اشتي أسألْه بِس كْنت عادنا مْش عارف اتكلم عربي.
مرت نحو ستة أشهر على حديثي مع ذلك الشاب.. أتمنى أن يكون لا يزال محافظا على لسانه وأن لا تكون قد قطعت كما حدث لمواطنه في أحد” مراكز اختطاف النازحين .
يبدو أن” بلال” كان محظوظا بالوصول إلى صنعاء ولم يقع فريسة في الكمائن التي وقع فيها المئات من النازحين الأفارقة الذين يتعرضون لأبشع عمليات التعذيب والانتهاكات والاستغلال الرخيص .
ومن بعض أهله” الأغلظ قلوبا والأقسى افئدة “. فالتفاصيل القليلة التي تسربت من بعض المنظمات الحقوقية والمصادر المحلية الأخرى تروي عن الضحايا جرائم تقشعر لها الأبدان.
غيض من فيض
شاب تقطع لسانه من فمه لأن أقاربه لم يرسلوا الفدية المالية المشروطة لتحريره كما كان يعد خاطفيه فجعلوا منه عبرة للآخرين.. امرأة تتعرض للاغتصاب أكثر من عشرين مرة في اليوم وأخرى تضع مولودها في حوش بالعراء وتنفجر باكية حين تسأل عن أبيه والبعض يْبِعن في سوق النخاسة عبرالحدود الشمالية وأخريات يتم استغلالهن في تجارة الجنس وحالات أخرى تموت تحت التعذيب . هذه العينات ليست سوى غيض من فيض وما خفي قد يكون أعظم .
ليس بين اليمنيين والضحايا من الأفارقة ثارات قبلية ولا حروب أو مشاكل سياسية حتى نتعامل معهم بهذه الوحشية فمن أين يأتي بعضنا بكل هذا الحقد والتغول.. كيف يتخلون عن آدميتهم وهم يرون بشراٍ مثلهم نزحوا عن ديارهم غرباء ضعفاء بعد أن جار عليهم الدهر فيتعاملون معهم وكأنهم صيد في البراري .¿!
عمليات التحرير
أمس الأحد أعلنت الأجهزة الأمنية أن قوة من محور الملاحيظ العسكري قامت بمداهمة حوش احد المهربين في المديرية ويدعى حسين على عزام ـ 31 عاما ـ كان يحتجز بداخله أفارقة من اجل ابتزازهم قبل تهريبهم إلى السعودية.
وأوضح مركز الإعلام الأمني بان القوة التي داهمت حوش المهرب عثرت بداخله على 210 إفريقيا بينهم 98 امرأة و 10 أطفال وقد كانوا محتجزين في ظروف غير إنسانية وتظهر على أجساد بعضهم آثار التعذيب.
نْقل الأفارقة الذين تم تحريرهم إلى قيادة المحور تمهيدا لتسليمهم في وقت لاحق إلى مصلحة الهجرة والجوازات بصنعاء فيما أحيل المتهم إلى الجهات الأمنية لاتخاذ الإجراءات القانونية بشأنه . وبذلك يرتفع عدد من تم تحريرهم منذ بدء عمليات المداهمة الأمنية إلى قرابة الألف أفريقي .
وفي مطلع أبريل الجاري أعلنت السلطات الأمنية في خبر مقتضب عن تحرير نحو خمسين نازحا أفريقيا بينهم نساء وأطفال كانوا محتجزين منذ أشهر في” حوش خاص” بمديرية الزهرة التابعة لمحافظة الحديدة . وبحسب بيان الداخلية فقد أحيل المتهمون ـ الذين لم يْكشف سوى عن هوية شخص واحد منهم ـ إلى نيابة مديرية الزهرة.
المؤسف أن عملية مداهمة” الحوش” وتحرير المحتجزين الأفارقة لم تكن بناء على معلومات استخباراتية أو ليقظة أمنية ولكنها تمت بعد أن تمكن بعض المحتجزين من إبلاغ أقاربهم ـ بحسب مصادر محلية ـ وربما كانت عملية قطع لسان أحد المعتقلين هي عقوبة له من قبل الخاطفين بعد أن شكْوا بنقله معلومات عن الحوش أو المعتقل . بعض المصادر نقلت عن مشاركين في مداهمة الحوش أن العملية تمت بعد أذان المغرب وقد كان المختطفون الأفارقة حينها يؤدون الصلاة جماعة بينما كان الخاطفون يعتلفون القات ويعيشون” الساعة السليمانية” .!
بعد أسبوع من العملية كشفت وسائل إعلام محلية عن تحرير 160 مختطفا من النازحين الأفارقة ـ بينهم نساء وأطفال ـ في عملية جديدة شاركت بها قوات من حرس الحدود والأمن المركزي في مديرية حرض الحدودية شمال محافظة حجة . وبعكس العملية السابقة لم تحظ العملية الثانية بأي تغطية إعلامية ولم ينشر الخبر في أي وسيلة رسمية بما في ذلك موقع وزارة الداخلية.
إنجازات وتعتيم
وفي منتصف أبريل الجاري تناقلت وسائل إعلام محلية وعربية خبر تحرير 535 نازحا أفريقيا ـ معظمهم من الأثيوبيين وفيهم نساء وأطفال ـ في عمليات مداهمة لأحواش في مديرية حرض والمناطق المجاورة لها ومع أن تلك الوسائل استندت في ذلك الخبر على بيان لوزارة الداخلية اليمنية إلا أن البيان المذكور لم ينشر في الموقع الإخباري للوزارة ـ وربما يكون قد أزيل من الموقع بعد ساعات من نشره ـ كما لم تتناوله أي وسيلة إعلامية رسمية .
نتمنى أن يكون السبب وراء هذا التجاهل أو التعتيم هو استشعار السلطات في بلادنا لحجم الخجل الذي لحق باليمنيين بفعل تلك الجرائم والانتهاكات التي ارتبكت بحق الضحايا فمهما يكن حجم النجاحات التي حققتها الأجهزة الأمنية والعسكرية في عمليات التحرير لا يمكن لها أن تمحر ذلك الذنب.
وفي نفس الوقت نخشى أن يكون التعتيم الرسمي مقدمة لطمس تلك الجرائم وتخلي الجهات المعنية عن مسؤولياتها الأمنية في مناطق حدودية هامة تحولت إلى مستنقعات للجرائم التي تمارس وسط غياب مريب للسلطات المحلية والمركزية بأجهزتها المختلفة . نتمنى أن لا يكون التعتيم الإعلامي محاولة للتهرب من مسؤولياتنا ـ القانونية والشرعية والقبلية ـ في إنصاف الضحايا وتعويضهم أو للتستر على المجرمين وتركهم دون عقاب رادع ليستمروا في ممارسة أعمالهم القذرة بحرية وكأنهم يمارسون هواية الصيد في الصحراء.
من حوش إلى حوش
بحسب البيان اليتيم لوزارة الداخلية فإن المعتقلين الأفارقة الذين تم تحريرهم نْقلوا مباشرة إلى معسكر محور الملاحيظ ـ شرق حرض ـ وتم اعتقال أكثر من خمسين شخصاٍ من المتورطين باختطاف النازحين وتعذيبهم والمتاجرة بهم ومن بين المتهمين ستة أثيوبيين.
في 15 أبريل تم نقل الأفارقة المحررين إلى” حوش” مصلحة الهجرة والجوازات في العاصمة صنعاء” لاتخاذ الإجراءات القانونية بشأنهم” يعني للترحيل فهل هذه هي الإجراءات القانونية المنصفة بعد كل ماتعرضوا له من ظلم وانتهاكات . نختزل كل القوانين والشرائع بقانون الجنسية والإقامة فقط ¿.. هكذا يتم ترحيلهم قبل أن يشهدوا محاكمة عادلة لمن انتهكوا حقوقهم وظلموهم.. أليس من الإنصاف والإنسانية والأخلاق أن نمنح كل ضحية مبلغا من المال ـ لا يتجاوز 500 دولار ـ قبل ترحيله كجزء مما يستحقه من تعويض عما لحق به وكان يمكن خصم هذه المبالغ من موازنة محافظة حجة لتزكية وتطهير أرضها وأهلها الذين ارتكبت تلك الجرائم بين ظهرانيهم وفي مناطقهم طيلة أشهر وربما سنوات.. حسبهم الله ونعم الوكيل.

aassayed@gmail.com

قد يعجبك ايضا