أ. د.عبد الله بن إبراهيم الطريقي –
الإنسان لا يشعر بالاستقرار ومتعة الحياة إلا إذا توافرت له السلامة في نفسه وماله وما حوله وبسط الأمن جناحه في البلاد وغرست جذوره في قلوب العباد.
أما إذا حلت الفوضى محل الأمن ونزلت الآفات المحسوسة وغير المحسوسة على الدين والنفس والعقل والنسل والمال فعندها يكون بطن الأرض خيراٍ من ظاهرها إذ تتحول البلاد إلى غابة ويتحول المجرمون إلى سباع ضارية لا تبقي ولا تذر.
من هنا تأتي أهمية الأمن والسلامة في الإسلام الذي جاءت تشريعاته لحفظ نظام الكون والإنسان وسلامة المنشآت متوقفة على حفظ هذه الضروريات وعلى الأخص حفظ المال فإنه (المال) له منزلة عظيمة في الإسلام.
فالإنسان ميال إليه بالفطرة وهو سبب سعادة الإنسان أو شقائه: إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بحقه بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع.
والمال- وهو كل ما يتمول ويملك سواء كان ملكيته خاصة أو عامة – يتعين المحافظة عليه يقول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: “وأما حفظ المال فهو حفظ أموال الأمة من الإتلاف ومن الخروج إلى أيدي غير الأمة بدون عوض وحفظ أجزاء المال المعتبرة عن التلف بدون عوض.
مفهوم المنشآت وأهميتها
المفهوم اللغوي:
المنشآت: جمع المنشأة وهي اسم مبني للمجهول وأصلها من الفعل نشأ قال ابن فارس: النون والشين والهمزة أصل صحيح يد على ارتفاع في شيء وسمو ونشأ السحاب: ارتفع .
أما الزبيدي في تاج العروس فقد أطال وفصل في معاني اللفظة “نشأ” ومشتقاتها ومعظم ما ذكره يعود إلى ما قاله ابن فارس لكن من أهم ما أضافه قوله “والمنشأ والمستنشأ من أنشأ العلم في المفازة والشارع واستنشأه: المرفوع المحدد من الأعلام والصواري… وقال الزجاج في قوله تعالى: ? وِلِهْ الúجِوِار الúمْنúشِآتْ في الúبِحúر كِالúأِعúلِام ? [الرحمن: 24] هي السفن المرفوعة الشرع والقلوع.
المفهوم الاصطلاحي:
المنشأة في اصطلاح الاقتصاديين هي: “وحدة إدارية تمارس عملياتها تحت اسم تجاري معين وتشكل تنظيمٍا يستهدف إما استخراج المعادن وإما إنتاج أو تصنيع السلع وإما بيع السلع والخدمات.
وهي بهذا قريبة المعنى من لفظة “المؤسسة” لكن بينها فروقٍا يذكرها بعض أهل الاختصاص.
هذا هو المفهوم الاصطلاحي عند الاقتصاديين فهل هو المراد في بحثنا¿
الواقع أنه ليس المراد على الخصوص أما ما نريده هنا بالمنشأة فيمكن تقريب معناه بتوصيف معالمه وحدوده.
فالمنشآت المقصودة هي: المباني العمرانية الكبيرة والمصانع والآلات القائمة والعاملة سواء كانت ملكيتها فردية أو جماعية والمرافق العامة وهي كل ما ينتفع به السكان كالطرق والجسور وأجهزة الشرب والإضاءة ووسائل النقل.
وبرغم هذا التوسع لمفهوم “المنشآت” إلا أنه غير مقطوع الصلة بالمعنى اللغوي بل بالمقارنة بينهما يلحظ وجود اشتراك ما وهو التشييد والارتفاع فهذا المعنى موجود في المفهوم اللغوي وفي ما اصطلحنا عليه.
جرائم الاعتداء على المنشآت والجزاء عليها
المطلب الأول: الاعتداء على المنشآت:
إن أغلب المنشآت يكلف إنشاؤها أموالا طائلة ويستهلك جهوداٍ ضخمة سواء كانت هذه المنشأة تابعة للقطاع العام أو للقطاع الخاص وأي اعتداء على المنشأة قد يعرضها للخطر أو الضرر أو التلف. لذا يكون من نافلة القول إن مثل هذا الاعتداء جريمة منكرة شرعاٍ وعقلاٍ.
على أن هذا الاعتداء ليس نوعاٍ واحداٍ أو صورة واحدة بل له أنواع وصور شتى ولعل من أبرزها:1- ما يحدث خللا أو ضررا في أصل المنشأة وكيانها مثل أعمال التفجيرات وأحداث الحرائق ونحوهما مما يعرض المنشأة للضرر الفادح وأدلة الشريعة متضافرة على اعتبار كل ذلك ظلما وعدوانا وإفسادا.
قال سبحانه: ? وِمنِ النِاس مِنú يْعúجبْكِ قِوúلْهْ في الúحِيِاة الدْنúيِا وِيْشúهدْ اللِهِ عِلِى مِا في قِلúبه وِهْوِ أِلِدْ الúخصِام * وِإذِا تِوِلِى سِعِى في الúأِرúض ليْفúسدِ فيهِا وِيْهúلكِ الúحِرúثِ وِالنِسúلِ وِاللِهْ لِا يْحبْ الúفِسِادِ * وِإذِا قيلِ لِهْ اتِق اللِهِ أِخِذِتúهْ الúعزِةْ بالúإثúم فِحِسúبْهْ جِهِنِمْ وِلِبئúسِ الúمهِادْ ? (البقرة: 204 – 206).
يقول القرطبي: ” والآيات بعمومها تعم كل فساد كان في أرض أو مال أو دين وهو الصحيح إن شاء الله .
وقال تعالى: ? وِلِا تْفúسدْوا في الúأِرúض بِعúدِ إصúلِاحهِا وِادúعْوهْ خِوúفٍا وِطِمِعٍا إنِ رِحúمِتِ اللِه قِريبَ منِ الúمْحúسنينِ ? [الأعراف: 56].
يقول ابن عطية الأندلسي: “الآية ألفاظ عامة تتضمن كل إفساد قل أو كثر بعد إصلاح قل أو كثر والقصد بالنهي هو على العموم وتخصيص شيء دون شيء تحكم إلا أن يقال على وجهة المثال ..وقد تكررت مادة “فسد” في القرآن العظيم في أكثر من خمسين موضعا ما بين تحذير عن الفساد أو تصوير لحال المفسدين ومغبة عاقبتهم. مما يدل على أنه خلق ذميم لا يتخلق به إلا من لا خلاق له.
أما الظلم فهو من كبائر الذنوب وقد تكررت مادة “ظلم” في القرآن مئات المرات ولكنها ليست ذات معنى واحد بل منها ما يقصد به الشرك ومنها ما يقصد به مطلق المعصية ومنها ما يقصد به التعدي على حقوق الغير. وهو المقصود هنا. ومنه قول الحق تعالى: ” ? إنِمِا السِبيلْ عِلِى الِذينِ يِظúلمْونِ النِاسِ وِيِبúغْونِ في الúأِرúض بغِيúر الúحِق أْولِئكِ لِهْمú عِذِابَ أِليمَ ? (الشورى: 42).
وأما الاعتداء وهو تجاوز الحد المشروع إلى الممنوع فقد ورد في القرآن في عدد من الآيات الكريمة. ومنه قوله تعالى: ? وِلِا تْمúسكْوهْنِ ضرِارٍا لتِعúتِدْوا ? (البقرة: 231).
ذلك في القرآن العظيم أما السنة النبوية فقد وردت فيها ألفاظ: “الفساد والظلم والاعتداء” في عشرات الأحاديث وكلها توكيد وبيان للقرآن العظيم.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم (إذا أتيت على حائط فناد صاحبه ثلاث مرات فإن أجابك وإلا فكل من غير أن تفسد). رواه الإمام أحمد في المسند والمقصود بالحائط البستان.
وهذا توجيه نبوي كريم لمن يريد أن يستفيد من مال الغير أن يكون بأسلوب حضاري بعيد عن العدوانية والإفساد.
ومنها الحديث المشهور: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمٍا فلا تظالموا). رواه مسلم.ك: البر الحديث رقم (55).
المطلب الثاني: جزاء الاعتداء على المنشآت:
مر بنا في المطلب الأول أنواع الاعتداء وصوره وأنه ليس على درجة واحدة.
ومن هنا فإن الجزاء لن يكون متساويٍا بل الجزاء من جنس العمل كما تقتضيه العدالة الإلهية.
ويتعين التنويه ابتداءٍ بأن طبيعة الجزاء في الإسلام أنه ليس في الدنيا فقط بل منه ما هو في الدنيا ومنه ما هو في الآخرة ومنه ما يتكرر فيهما. وقد عرفنا أن الاعتداء على المنشآت جريمة وأنه ظلم وعدوان وأنه يتعارض مع مراد الشارع الحكيم من حفظ الأموال والحقوق وعدم الاعتداء عليها.
لذا فلابد أن تكون ثمة عقوبة مكافئة لتلك الجريمة. ونشير هنا إلى الجزاء الأخروي ثم الدنيوي.
أما الجزاء الأخروي على جرائم الاعتداء فهو باب واسع للغاية وقد وردت في ذلك نصوص كثيرة. كقوله تعالى: ? وِمنِ النِاس مِنú يْعúجبْكِ قِوúلْهْ في الúحِيِاة الدْنúيِا وِيْشúهدْ اللِهِ عِلِى مِا في قِلúبه وِهْوِ أِلِدْ الúخصِام * وِإذِا تِوِلِى سِعِى في الúأِرúض ليْفúسدِ فيهِا وِيْهúلكِ الúحِرúثِ وِالنِسúلِ وِاللِهْ لِا يْحبْ الúفِسِادِ * وِإذِا قيلِ لِهْ اتِق اللِهِ أِخِذِتúهْ الúعزِةْ بالúإثúم فِحِسúبْهْ جِهِنِمْ وِلِبئúسِ الúمهِادْ ? (البقرة: 204 – 206(.
وقوله تعالى: ? وِلِمِن انúتِصِرِ بِعúدِ ظْلúمه فِأْولِئكِ مِا عِلِيúهمú منú سِبيلُ * إنِمِا السِبيلْ عِلِى الِذينِ يِظúلمْونِ النِاسِ وِيِبúغْونِ في الúأِرúض بغِيúر الúحِق أْولِئكِ لِهْمú عِذِابَ أِليمَ ? )الشورى: 4142). وكقوله صلى الله عليه وسلم : من ظلم من الأرض شيئاٍ طوقه من سبع أرضين . وقوله: إن رجالاٍ يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة ومعنى يتخوضون أي: يتصرفون فيه بما لا يرضى الله تعالى ومال الله هنا: الأموال العامة وفيه نصوص كثيرة جداٍ فيها الوعيد لأهل جرائم الاعتداء على حقوق الآخرين وممتلكاتهم سواء كانت هذه الحقوق عامة أو خاصة.
وأما الجزاء الدنيوي فله تفصيلات قد يكون الخوض فيها خارجا عن مقصود البحث لكننا نشير إلى بعض الإشارات التي نأمل أن تكون مفيدة.
فالجزاء هنا إما أن يكون مقدرا أو غير مقدر. أما المقدر- وهو الحدود المقدرة- فهو إما بسبب سرقة وإما بسبب قطع طريق.
فإذا كان الاعتداء على المنشآت بالسرقة كسرقة بعض مقتنياتها فجزاؤه قطع اليد اليمنى إذا توافرت الشروط قال سبحانه: ? وِالسِارقْ وِالسِارقِةْ فِاقúطِعْوا أِيúديِهْمِا جِزِاءٍ بمِا كِسِبِا نِكِالٍا منِ اللِه وِاللِهْ عِزيزَ حِكيمَ ? (المائدة: 38).
وإن كان الاعتداء بقطع الطريق والحرابة فجزاؤه ما جاء في الآية الكريمة ? إنِمِا جِزِاءْ الِذينِ يْحِاربْونِ اللِهِ وِرِسْولِهْ وِيِسúعِوúنِ في الúأِرúض فِسِادٍا أِنú يْقِتِلْوا أِوú يْصِلِبْوا أِوú تْقِطِعِ أِيúديهمú وِأِرúجْلْهْمú منú خلِافُ أِوú يْنúفِوúا منِ الúأِرúض ذِلكِ لِهْمú خزúيَ في الدْنúيِا وِلِهْمú في الúآخرِة عِذِابَ عِظيمَ ? (المائدة: 33).
ولكن هذه العقوبة لا تطبق على كل اعتداء على المنشآت بل هو خاص بنوع منه وهو ما يتم بأسلوب القوة والحرابة وذلك باستعمال السلاح أو المتفجرات أو إحداث التخريب.
فمن اعتدى على المنشآت بمثل هذه الأساليب فهو مفسد محارب وجزاؤه ما جاء في الآية الكريمة.
والحاكم- إماما كان أو قاضيا- مخير في الحكم على المحاربين يحكم عليهم بأي من الأحكام التي أوجبها الله من القتل والصلب أو القطع أو النفي لظاهر الآية.
ذلك في العقوبة المقدرة أما العقوبة غير المقدرة وهي التعزيز فإنها مطلقة في كل معصية ليس فيها حد ولا كفارة ومن ذلك التعدي على المنشآت بما لا يوجب حداٍ وتقديم هذه العقوبة يعود إلى القاضي.
ولعل من المناسب هنا أن أسجل الفتوى التي أصدرتها هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية.
ففي الدورة الثانية والثلاثين المعـقودة في 12/1/1409هـ درس المجلس ظاهرة كثرة الأعمال التخريبية في بلاد المسلمين وبعد مداولة أصدر المجلس قراره رقم (0148) الذي نص على الآتي:
– من يثبت شرعاٍ أنه قام بعمل من أعمال التخريب والإفساد في الأرض التي تزعزع الأمن بالاعتداء على الأنفس والممتلكات الخاصة والعامة كنسف المساكن والمساجد أو المدارس أو المستشفيات والمصانع والجسور ومخازن الأسلحة والمياه والموارد العامة لبيت المال كأنابيب البترول ونسف الطائرات أو خطفها ونحو ذلك فإن عقوبته القتل لدلالة الآيات المتقدمة على أن مثل هذا الإفساد في الأرض يقتضي إهدار دم المفسد”. ا. هـ.
وعقوبة القتل هذه التي قررها مجلس هيئة كبار العلماء هي عقوبة تعزيرية تتناسب مع حجم الجرائم التي أشار إليها القرار.
ولعل في ذلك ما يردع أهل الإجرام والفساد.