أزمة الهوية وتلاقح الثقافات
الغربي عمران
لم أكن أسمع عن موريتانية إلا أنها بلد المليون شاعر.. وإن سكانها يدعون بالشناقطة.. وهم عرب صحراويون .. يخالطهم أفارقة زاحفون عبر نهر السنغال.. أرض صحراوية تطل على المحيط الأطلسي .. حتى عام 1960م لم يكن لتلك الأرض مسمى “جمهورية موريتانية الإسلامية”. لتمنحها فرنسا الحدود التي تُعرف بها اليوم.. وذلك الاسم الذي أختاره قادة التحرير.. وبذلك ظهرت إلى الوجود دولة جديدة.
أدب تلك البلاد شبه مجهول في مشرقنا العربي ..عدا الشعر الذي يعرف بالحساني.. إضافة إلى مخطوطات فقه السنة واللغة التي يتوارثها السكان.
كثيرا ما فكرت أن في تلك البلاد أدب وتمنيت أن اقرأ في القصة والرواية .. حتى عثرت على رواية “منينة بلانشيه” أثناء حضورنا معرض القاهرة للكتاب العام الماضي. للكاتب محمد ولد الأمين.. صادرة عن دار الساقي 2014م .. سألته إن كان لديه غيرها فنفى ..ومن التعريف بالكاتب عرفت بأنه العمل الوحيد .. إذ لا يذكر في ملحقات الرواية عن أي إصدار آخر.. وقد كتب في غلافها الأخير ” كاتب وروائي موريتاني.. حائز على الماجستير في العلوم السياسية… يزاول مهنة المحاماة” .
أنتقل إلى متن الرواية.
السطر الأول يسرد الراوي “لم يعرف أحد كيف حصل ما حصل… تهاوت طائرة الآير وبوستال فوق صخور غرناطة.. تهشمت واشتعلت ثم تفتت… ولم نستطع معرفة الأسباب” وبسقوط تلك الطائرة التي أقلعت من داكار متجهة إلى باريس يحدثنا الراوي عن ذكرياته حول مقتل أمه “منينة” ويعود لطفولته .. بداية من عمر الثالثة.
الراوي له أسمان: أحمد الاسم الذي أسمته أمه به وجوزيف الذي مدون في وثائقه كمواطن فرنسي.. يسرد تفاصيل حياته وقد أمسى في الخمسين من عمره.. محاولا العودة إلى الماضي.. أن يكتشف حياة أمه الموريتانية الفرنسية.. وأبوية الفرنسي (باتريك) وثائقيا.. والموريتاني (خيبوزي) جينيا.. وجذور تك الأم.
الرواية تعالج قضية الهوية .. حين يسرد للقارئ أن “منينة” هي ابنة الشيخ مختار الأعيور.. شيخ قبيلة المناذرة.. الذي وقع بين يدي الفرنسيين في ثلاثينيات القرن الماضي.. بعد عدة عمليات قطع طريق ونهب ممتلكات الناس من مواشي ومتاع.. ليسجن في قلعة تامشكط شهورا طويلة ثم ينقل إلى قلعة نواكشوط التي لم تكن مدينة بعد.. وبقي سنوات حتى توفي.. كانت (منينة) تتبع والدها المعتقل وتقوم بخدمة ضباط القلاع الفرنسيين وتتعلم لغتهم ثم تتزوج بأحدهم (باتريك) بعد أن أعلن إسلامه على يد الشيخ أحمد الرحموني الذي تظهره الرواية كصاحب كرامات .. وقد ترقى الضابط الفرنسي زوج (منينة) حتى أمسى الحاكم العام على تلك البقاع .. وحين سقطت باريس بيد النازيين ترك زوجته وغادر نواكشوط ليحارب الألمان .. ويعود بعد غيبة طويلة ليجد زوجته منينة تعمل بالتجارة وقد أصابت نجاحاً واسعاً .. وحينها يكتشف باتريك بأنه عقيم.. فيتفق مع زوجته منينة على الطلاق المؤقت .. على أن تتزوج بموريتاني”خيبوزي” حتى يكون لهما ولد.. وبعد أن انتفخت بطنها يطلقها خيبوزي لتعود لزوجها الفرنسي وتلد منينة ولدا تسميه “أحمد” تيمنا بالشيخ أحمد الرحموني .. وبعد ثلاث سنوات تغادر وزوجها باتريك في رحلة عمل إلى باريس..وتترك ابنها وسط كثير من الخدم والحشم حتى تعود .. لكنهما يقتلان بسقوط الطائرة فوق أسبانيا.. وتترك طفلها لليتم ولأملاكها الواسعة.. من عقارات في باريس وداكار. وأراض واسعة في نواكشوط . هنا يأتي “خيبوزي” مدعيا أبوته للولد .. ويستطيع الحصول على كفالته سنوات .. استطاع خلالها اختلاس أموال كثيرة .. وما أن يبلغ الولد العشرين من عمه حتى يستعيد نفسه .. ويختار انتماؤه لوالده باتريك. ويحمل اسم جوزيف على جواز سفره الفرنسي. ويعيش كأي ثري في باريس وسط بحبوحة .. بفضل ما ورثه عن أمه وأبيه.. لكنه ظل منجذبا للماضي .. يحاول بكل الطرق أن يعرف من تكون أمه.. وهو يعاني من نظرات الطرفين.. فالموريتانيون كانوا ينظرون إليه كإنسان ملتبس في جذوره.. والفرنسيون يعاملونه كملون.. ظلت مسألة الانتماء تؤرقه. إلى أن وجد من يدله على متخصص في علم النفس في مدينة بروكسل البلجكية دكتور “برنارد” الذي يخضعه لجلسات علاجية منها الصوم المتواصل.. والتأمل مع تناول عقاقير تساعده على الالتقاء بأمه روحيا.. وسريعا ما أدت تلك الطريقة نتائج مبهرة.. فما أن يدخل في تلك الجلسات حتى يرى والدته “في رحلات الاستذكار بواسطة الصوم والتبتل والمدعوم بطبابة الدكتور برنارد تختفي تحت لوعة الجوع والشوق والعطش كل الموضوعات والمستورات وتبوح المكتومات بأسرارها ويتساوى المباح والمحرم… ” يتابع حياتها منذ طفولتها في مشاهد جلية مرورا بصباها وزواجها حتى يوم انفجار الطائرة بها فوق إسبانيا.
سارت أحداث الرواية في سياقين .. حياة الماضي لولدته وما يتراءى أثناء جلسات العلاج.. وحياته بعد أن بلغ الخمسين في بروكسل .. أثناء ذلك يقع في غرام الطبيب “آندرية” مساعدة الدكتور برنارد التي تتطور علاقتهما ليسافرا معا إلى موريتانيا بعد انتهاء جلسات العلاج ورؤية مراحل حياة والدته.. وبعد أن وجد وثائق تفيد بأحقيته في تملك أراض شاسعة في نواكشوط كانت في أملاك والدته.. من ضمنها ما شيد عليها القصر الجمهوري في نواكشوط. وما أن يصل حتى يوكل محامياً ليترافع أمام المحاكم .. وبأشكال مختلفة يصدر حكم من المحكمة الابتدائية بملكية جوزف لتلك الأراضي بما فيها القصر الجمهوري.
القصر الجمهوري يرمز لسيادة أي شعب.. هنا الكاتب يشير إلى أن القصر الجمهوري ملكية فرنسية ما يبعث السخرية والضحك على بلد تشبهها الرواية كشكل كاريكاتوري مضحك .. من خلال محاولة جوزف الاستيلاء عليه.. الرواية تصور علاقة موريتانيا بفرنسا بلغة ساخرة في كثير من المقاطع “سفارة بلادي في بلادي تحتل مكانا شاسعا في قلب العاصمة الموريتانية.. ويستكثر عليها البعض تلك الرقعة البسيطة وتناسوا أنها تنازلت عن مليون كيلو متر مربع بجرة قلم ” أي أن موريتانيا الأرض منحة من فرنسا لذلك الشعب الصحراوية الذي لم يكن يعي من أمور الدولة شيئاً” ويتناسون دموع أبي لحظة إنزال العلم الجميل بخرقتهم الخضراء الباهتة انه فعلا لؤم البداة ونكرانهم للجميل” و”لقد خلقنا هذه الدولة ومنحنا هذه القبائل البدوية فرصة التنظيم والاعتراف الدولي … لا بد من تأديبهم “.. هنا يتحدث عن بدو لا يمت إليهم بصلة .. وفي سطور سابقة يذكر بأن طفولته كانت في كنف والده الجيني.. وجدته الموريتانية وأن تربيته كانت قاسية ويصف نفسه بالبدوي . هي أزمة الانتماء.. وستظل تعتمل في عدة مجتمعات شرقا وغربا … ذلك التزاوج بين أعراق مختلفة.. لكنها تقود في نهاية الأمر إلى روح السماحة والتعاون والمساواة الإنسانية..فلا يجب أن ننظر إلى تلك التباينات بسلبية مطلقة.. مقابل قيمة أسماء تتمثل بتمازج الثقافات والأعراق التي تقود إلى مجتمعات منفتحة على الثقافة الإنسانية على طريق الأخوة والعدالة والحرية.
الرواية صيغت بلغة سلسلة .. إلا أن لغة التعالي التي تظهر هنا وهناك.. وتتجاوز إلى إصدار احكام وكأن تلك الآراء هي للكاتب وليست لشخصياته ما أفقد كثير من الإثارة والمصداقية في جوهرها .. حين يتحدث عن إنسان موريتانيا “أخذت على الأعراب أنهم لا يغفرون لمنينة الزواج بفرنسي.. ينافقونه ويخافونه كما تخاف الفئران القطط.. واكتشفت أنهم رغم كل شيء يعتبرون أنفسهم عرقا مختارا ونقيا.. وان الآخرين مجرد كائنات حيوانية ناقصة… ” ويحكي السارد وقد عاد بعد سنوات بجوازه الفرنسي وصديقته البلجيكية من أجل استعادة أملاكه التي ورثها عن أمه “تقدمنا نحو مبنى المطار.. وأحسست بآندرية محشورة وحزينة.. وأنهينا معاملات الدخول مع شرطي نحيف ووسخ.. وضع ختمه على جوازاتنا بتأفف وقلة ذوق.. وحين خرجنا لاستعادة أمتعتنا كان المنظر أكثر سوريالية وجنونا حيث تجمع عدد كبير من الحمالين كما تتجمع الذباب على الموائد وراحوا يتهارشون ويتدافعون…” وهكذا يصدر الموريتاني جينيا الفرنسي وثائقيا ذلك المجتمع في كثير من ذكرياته ومذكراته أحاما .. وكأن بالكاتب يطل متأثرا من إقامته ودراسته في بروكسل التي وصف شوارعها ومعالمها وصف العاشق.
قدمت الرواية عالم الروحانيات كحقائق .. من خلال قدرات الشيخ أحمد رحموني على توظيف الأرواح في تحقيق الأماني.. ذلك الكائن المتعبد .. من جعل قائد قلعة نواكشوط يهيم بمنينة حبا .. بل ويجعله يسلم ليتزوج منها .. ثم صلواته التي أوصلت منينة إلى ذلك المجد والثراء .. صلى كثيرا من أجل أن تستقر أوضاعها بعد مغادرة زوجها الفرنسي لمحاربة النازية وتركها وحيدة.. ثم هو من أشار عليها بالمتاجرة .. وصلى من أجل نجاحها .. وما هي إلا سنوات حتى ملكت شركة واسعة النشاط.. وامتلكت العربات والبواخر والطائرات.. بل إن الفرنسي كثيرا ما كان يلجأ للرحموني ليصلي من أجل قضايا تهمه ومنها أن ينصر الله فرنسا على النازية “اطلبي الشيخ أن يصلي من اجلنا ..قريبا سننتصر وقريبا سأعود” جاء ذلك في إحدى رسائله إلى زوجته مشاركا الحرب ضد النازية . ثم الدكتور برنارد الذي ساعده على أن يتخاطر مع والدته المتوفاة .. يصفه بالشيخ برنار ويؤمن بقدراته الروحية.. ويقدمها كحقائق مطلقة.
الرواية حافلة بذكر البيئة الصحراوية الموريتانية. من نواكشوط التي كانت أرضاً قاحلة تطل عليها من ربوة عالية قلعة المستعمر الفرنسي.. إلى بلدة انيور.. ومدينة سان لويس في عرض البحر.. إلى قلعة تامشكط وسط الصحراء .. ولكصر.. وحومات افله.. وواد نون.. ومدينة القوارب على نهر السنغال.. إلى قبائل عدة.. حتى دكار في السنغال. ولم تكتف الرواية بتلك القفار وإنسانها بل أن أكثر من مدينة كان لأحداث الرواية مستقرا فيها..مثل: غرناطة وتحطم الطائرة منينة.. و باريس كمدينة عبور ..إلى بروكسل التي يعيش فيها جوزيف سارد أحداث الرواية. لتطوف بنا الرواية في شوارع تلك المدينة وميادينها ومعالمها وأحيائها وحدائقها ومقاهيها ومطاعمها وفنادقها.. قدمها الكاتب بألفة العارف بمدينته التي تعني له الكثير.
كنت أتمنى لو أن الكاتب توارى خلف شخوصه في كثير من المشاهد .. فظهوره الكاتب وبشكل مباشر من خلال آراء وأحكام كثيرة تُشعر القارئ بأن الكاتب استخدم الرواية لقضية شخصية.. وكأنه يقدم سيرة لبعض حياته وينتصر لها.. ففيها التذمر من إنسان موريتانيا.. وفيها الميل لأوروبا وإنسانها . والتحامل على الإنسان الصحراوي وكأن التخلف في جيناته .. مع أن السارد كان يصف نفسه في بعض أجزاء الرواية بالعارف والبدوي .. وأنه ابن تلك البيئة .. ثم يشعرنا في أسطر أخرى بأنه من طينة مختلفة.. وثقافة راقية هي الثقافية الفرنسية .
وهكذا يشعر القارئ مع آخر صفحة أن خلف كتابة هذه الرواية قضية شخصية للكاتب.. حاول تقديمها بثوب السرد.. وان فشل في ذلك لتبدو غايته عارية .