بين عهدين.. وزعامتين.
د. صادق القاضي
بين حقبتين عربيتين، تميزت الأولى بمد يساري قومي تحرري تزعمته مصر، خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وتتميز الثانية بمد أصولي ديني عنيف تتصدره السعودية.. تتجلى مرارة المقارنة أكثر على المشهد اليمني بين التدخلين العسكريين.. المصري وثورة سبتمبر62م، والسعودي وعاصفة الحزم.
تكمن الفروق في نوعية الرؤى والخلفيات الإيديولوجية ومخرجاتهما العملية، في عهد زعامتها العربية نجحت مصر بإحداث مد قومي تميز:
-في ذاته بالوطنية والتقدمية والحداثة والتنمية والبناء..
– وعلى المستوى القومي بمطالب التحرر والاستقلال والسيادة والوحدة والوطنية..
-وعلى المستوى العالمي بالتعاون بين الشعوب والسلام وعدم الانحياز.
لكن “مصر” لم تعد “مصر عبد الناصر”، وعلى حساب زعامتها الإقليمية نجحت السعودية حتى الآن في إحداث طوفان أصولي عارم، تميز:
-في ذاته بالرجعية والتزمت والتطرف والانكفاء الحضاري والفكر الهدام.
-وعلى المستوى القومي بدعم الجماعات المتطرفة، وانتهاك قيم السيادة والاستقلال، والتدخلات السياسية والعسكرية.
-وعلى المستوى العالمي بنشر الكراهية والإرهاب، والصراع الديني والطائفي.
ولأن مصر كانت في طليعة النهضة، كما أن السعودية الآن آخر معاقل البداوة، كان لدى مصر العربية القومية اليسارية التقدمية.. ما تقدمه للمصريين والعرب والعالم من قيم تقدمية بناءة حديثة.. بينما لا تملك السعودية ما تقدمه للعرب والمسلمين والعالم غير القاعدة وداعش وبوكو حرام..
أيام الزعامة المصرية، كان “عبد الناصر” يرسل الجندي المصري إلى اليمن وبرفقته: المدرس والطبيب والمهندس والصحفي والخبير الدستوري..
اليوم السعودية ترسل المرتزق السنغالي أو الكولومبي إلى عدن، وبرفقته: شيخ من المجاهدين القدامى، وثلاثة انتحاريين، وخمسة من مقاتلي تنظيم القاعدة، وعشرة دواعش!!.
كانت الطائرات والبوارج المصرية تحمل -بجانب السلاح- المطابع والصحف والكتب الثقافية والعملية والمدرسية..
اليوم طائرات وبوارج الخليج تقوم -بجانب قصف المدن بالقنابل العنقودية- بقصف العقول بالكتب الوهابية والفتاوى الطائفية، وقصف القيم بإنزال صناديق المال والسلاح على الشوارع المتناحرة!!.
أيام زمان، واجهت مصر من أجل اليمن ثلاثة أرباع العالم، ونجحت على الأقل في وضع حجر الأساس لدولة معاصرة ومجتمع حديث في هذه المنطقة العربية المنسية من الكون.، واليوم، حشدت السعودية ثلاثة أرباع العالم، لتدخلها في اليمن..
مع أول لحظة لتدخلها في اليمن، شرعت مصر بتشييد بنية تحتية لدولة مؤسسات حديثة ومجتمع مدني حديث، بدءا بجيش وطني رسمي، على حساب المليشيات والعصابات المسلحة، على العكس تماما مما فعلته وتفعله العاصفة السعودية من تدمير كل البني التحتية للدولة والمجتمع، بدءا باستهداف الجيش اليمني لصالح المرتزقة والجماعات الإرهابية!.
خلال سنوات قليلة أحدثت مصر طفرة تنموية تنويرية هائلة، وفتحت اليمن على العالم المعاصر، وخلال عام واحد دمرت السعودية البنى التحتية، وأغلقت على اليمن في قبو الجاهلية الأولى.
بتدخلها في اليمن ترنحت مصر حينها، وكان تدخلها في اليمن سببا في انحسار زعامتها العربية لصالح السعودية، وفي المقابل تريد السعودية زعامة قومية بلا مؤهلات، سوى النفط والتطرف، وبهما تمكنت حتى الآن في إحداث هذا الطوفان الأصولي العارم..
بسبب تدخلها العسكري في اليمن، لن تخسر السعودية زعامتها العربية فقط، أسوة بمصر من قبل، بل قد تخسر كيانها وكينونتها المعروفة الراهنة.!