اليمن في نصوص تستلهم رؤى المكان والزمان
د. علي محمد زيد
صدر مؤخرا في الشارقة كتابٌ ممتع لأنور العنسي، الذي لا أدري أأصفه بالكاتب أم الشاعر أم الصحافي. لأنه إذا كتب أمتع، وإذا تعامل مع الشعر مبدعا أو قارئا أدهش، وإذا مارس الصحافة المقروءة والمسموعة والمرئية حلَّق وأجاد. ويشهد على ذلك عمله في مؤسسة عالمية يعدُّ النجاح في اجتياز شروط القبول فيها شهادة امتياز. ولا شك أن صدور كتاب لمبدع هذه بعض أوراق اعتماده أمر غير عادي ويستحق القراءة، ويَعِدُ بالكثير من الاغتناء المعرفي ومن المتعة الفنية.
عنوان الكتاب، «مرايا الأزمنة»، في ذاته، صورة شعرية بديعة كأنما هي قصيدة جديدة مكثفة في صورة واحدة. كما أن الكتاب مبوَّب بشكل مدروس ومتقن، إذ يتكون من 31 نصا ومقدمة قصيرة، تتوزع بدورها إلى ستة محاور مختلفة الطول، كأنما يعكس طول النص أو قصره بأمانة مدى ما ارتسم في وجدان الكاتب من مؤثرات ثقافية وحياتية وما استوحاه عند التفاعل مع المكان الذي ارتكز النص إليه من انطباعات وأفكار ورؤى وتأملات.
المحور الأول بعنوان «اليمن .. أبجدية الحلم وفاتحة التجلي». ولعل من البديهي أن تكون البداية في مَواطن وعي الذات وفتح العين على وقائع الحياة وبداية التكوين الثقافي والشعوري، في اليمن، وهو محور يستغرق سبعة نصوص، كل نص يرتكز إلى تجربة شعورية وينقل خطوات قطعها الكاتب على طريق وعي الذات ووعي الحياة والتفاعل معها والصراع مع تحدياتها: ما بين قرية البداية ومدينتها، والانطلاق إلى مدن اليمن الأخرى التي تركت بصماتها على الذات الواعية الشاعرة الطامحة للتحرر من قيود داخلية وخارجية شدت تلك المدن نحو ظلام القرون.
المحور الثاني بعنوان «لقاء الأشتات .. مدن المشرق والمغرب» مستوحى من المدن العربية التي شكلت هوية الكاتب وغذَّت عالمه الداخلي بما يصدر عنها من مؤثرات ثقافية وفنية ومن أحلام كبيرة. يبدأ عناق هذه المدن منذ بداية التفتح على القراءة وهو ما يزال في منقلب الطفولة وبداية الشباب عبر قراءة الكتب المطبوعة في هذه المدن، والتوق لزيارتها، حتى بلوغ حلم العناق معها ومعايشة تجارب مهمة فيها، بحلوها ومرها، ومتعة الاكتشاف والنضج. ولعل هذا المحور أكثر ما تدفقت فيه المشاعر وما تكونت فيه الرؤى والنظرات في الحياة والعشق المعاناة.
وأحيانا يضيق التبويب المسبق إلى حد تخصيص محاور مكونة من نص واحد، مثل «شرق آسيا، وحيدا في أقاصي الأرض» في الكتابة عن طوكيو و«عنفوان التفوق الأمريكي» عن نيويورك.
هكذا يكون عدد النصوص في كل محور دلالة على مدى التجربة الشعورية التي لمست أعماق الكاتب في التعامل مع موضوعاته، أو التأثير الوجداني والثقافي الذي كان لهذا المحور عليه. وبهذا المعنى فالمحور الأخير بعنوان «أوروبا .. من ربيع الحلم إلى خريف العمر» والمكون من عشرة نصوص، أطولها، ومنه أطول نصوص الكتاب، بعنوان «لندن الكبرى، أسئلة الذات وصراع الهوية».
تُعَدُّ هذه النصوص بحق أوراق مسافر لا يمر على الأماكن والأحداث مرورا عابرا، بل يتفاعل، وينفعل، ويتأثر ويحلم ويتأمل، ويفلسف الأمور ويزنها بميزان عاطفته وعقله. يسمي النصوص حالات ومشاهد من قصة حياته التي تقاسمتها عدة مدن و«محاولة لقراءة غير المرئي من المشهد الإنساني» مما يترك «عطرا في فضاء الروح ووشما على جدار الذاكرة» كما تقول المقدمة.
إنها نصوص قصيرة يستقل كل منها بموضوعه، ويرتكز إلى تجربة شعورية ربطت الكاتب بمدينة ما أو بسفر ما، يصوغها بلغة شعرية جميلة وواضحة، تنساب موسيقاها عذبة رقراقة، تنقل قبسا من المشاعر التي أراد الكاتب إيصالها إلى القارئ بأسلوب سلِس أخَّاذ. يسلمك النص إلى النص الذي يليه، بلهفة ومتعة. مقطوعات قصيرة يدفعك كل منها إلى قراءة ما يليه باشتياق، بلغتها الشعرية وموسيقاها الداخلية التي تنساب من الصور والكلمات والجمل حتى نهاية كل نص. كأنما التوقف آخر كل نص لازمة موسيقية تمهد لما بعدها من مقطوعات ونغم، في لغة تجمع بين النثر والشعر والتقرير والخيال والمجاز. لا يثقل على القارئ بالتفاصيل، لأن الكتاب ليس سجلا في التاريخ ولا تحقيقا صحافيا ولا من أدب الرحلات ولا هو سيرة حياة المؤلف، بل نصوص ينظُمُها ذوق رفيع في اختيار ما يقال وما لا يقال، وما يبدي وما يخفي، ويترك للكلمات والصور الشعرية والإشارات العابرة أن توحي بالمقاصد.
ولأن الكتاب يُعرف من عنوانه، كما يقال، يختار الكاتب عناوينه بعناية وبإحساس شاعري ورغبة في الإجادة والإبداع ليمتع القارئ بقراءة نص مدهش لا يهم إن كان نثرا أم شعرا، كما لا يهم تصنيفه في أي جنس أدبي. فعنوان الكتاب «مرايا الأزمنة» دفقة شعرية توحي بما بعدها. ويسري الأمر نفسه على بقية العناوين الداخلية، سواء عناوين المحاور أم عناوين النصوص. وتعلن المقدمة عن الرحلة التي تستغرق صفحات الكتاب وتلامس في شجن صحائف حياة الكاتب حتى خريف العمر. ويستوحي عنوان المحور الأول «أبجدية الحلم وفاتحة التجلي» من بدايات تجربته وتنَقُّله بين مدن اليمن وبحثه الدائب عن مستقر تحت الشمس تطمئن فيه النفس الطامحة الحالمة، وتَطَلُّعِه إلى زاد معرفي وثقافي يشبع طموحه الكبير. وأحيانا يستعير عناوين النصوص من لحظات ثقافية وفنية غنية مثل عنوان «مصر التي في خاطري» للكتابة عن القاهرة، المستوحَى من لقاء قمة شعرية موسيقية غنائية جمع الشاعر أحمد رامي والملحن رياض السنباطي وأم كلثوم، أو «هَرَر، على خطى رامبو«، أو رائحة الحزن ولون الشجن في آخر النصوص بعنوان «من ربيع الحلم حتى خريف العمر».
مرايا جيل جديد
ليس من باب الصدفة، أو لعلها صدفة سعيدة، أن كانت بداية التجربة التي تحدثت النصوص عنها قيام اليمن الجمهوري، لحظة خروج اليمن من عصور الظلام إلى العصر الحديث. مولد حقيقي وافتراضي، في الآن نفسه، لكثير من اليمنيين، قبله سير أكيد على طريق الانقراض، وبعده اضطراب واندفاع وصراع الجديد والقديم، وطموح للتغيير والخروج من سجن الماضي ومن صفحات التاريخ المتكلس، وتوق لعناق العالم الجديد.
ولا يوجد ما يعبر عن إحدى الثمرات العظيمة لهذا الميلاد أبلغ من هذه النصوص التي كأنها تنطق باسم جيل من شباب فتحوا أعينهم على الحياة والثقافة والسياسة من منظور المرحلة الجديدة، اندفعوا في طموح كريم لعناق عصرهم وعالمهم. تلفتوا حولهم ليجدوا أنفسهم أسرى حصار الداخل والخارج، ميراث تاريخي من التخلف والبؤس، وحصار البحر والصحراء. لم يجدوا سوى الكتب تمد جسرا بينهم وبين عالمهم وعصرهم. وهكذا تكون القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد وغيرها من مدن العرب محطات عبور نحو ثقافة جديدة وعالم جديد، وحلم بالحرية والانعتاق من قيود الماضي وبؤس الحاضر، ومن وراء هذه المدن حواضر العالم المتقدم.
جيل رأى النور مع قيام الجمهورية وتفتح وعيه على وعود الحرية والانعتاق التي أطلقتها طموحات الخروج من العزلة القاتلة وراء أسوار الصحراء والبحر. جيل عاش وعانى وتعذب وصارع وقاوم مارا بالأماكن نفسها، مترددا بين ريف تتناثر في بحر ظلماته مراكز معارف تقليدية متوارثة، ومدن تعيش طرفتها الداخلية ساخرة من محيط قبلي ظالم مظلوم، مسحوق وسلاح بيد الاستبداد. جيل امتطى النابهون فيه «صهوة مركبة فضاء لاكتشاف أرض خارج» محيط سجن الصحراء والبحر. أرض «جديدة خضراء زاهية». بعض المواهب لا يُكشَف الغطاء عنها حتى تموت. وبعض المواهب تبدأ في التفتح وسرعان ما يطمرها تراب الإحباط ويصاب أصحابها بالجنون، مع أن كلا منهم يرى في نفسه «مشروعا لزعيم إنساني ثائر تقع على كاهله مسؤولية إعادة إصلاح العالم». وكان ثمن الخروج من الحصار باهظا: «تساقط على جنبات هذا الطريق الكثير والكثيرات، إما بفعل المرض، أو الانتحار، أو الجنون، أو الإحباط. مات كثيرون قبل أن يبلغوا مقاصدهم، وعرف الاكتئاب طريقه إلى قلوب وعقول آخرين وأخريات»، كما يقول الكاتب.
نبَت بعض أبناء هذا الجيل كالزهرة العطرة الطالعة من صحراء قاحلة، تتطاول هامته فوق صقيع الجبال ورمل الصحارى، يرنو ببصره إلى ما خلف أسوار الحصار، يمدون جسور الكتب نحو العالم الجديد، نحو الانبعاث والتجديد والنهوض، نحو مستقبل واعد يتجاوز ميراث الفقر والحرب والخراب، وكسر قيود الظلام التي تشد البلاد نحو ماض سحيق يبسط سطوته بقسوة على كل شيء. خرجوا من قيود الوزن والقافية والسجع وحوليات التاريخ المحنط، وسِيَر الطغاة وتراجم الأقدمين، ليعانقوا بدايات التجديد ووعود الحرية. يحتضنون بحنان بشارات التجديد ويلاحقونها في ثنايا صفحات الكتاب واللحن واللون والصورة والخيال، يترددون على دور السينما القليلة ويرتادون بدايات المسرح ويجربون القصيدة الجديدة والقصة، يملون تكرار اللحن نفسه والكلمات نفسها، يكافحون لتحرير أنفسهم من سطوة التكرار والدوران حول الذات المحاصرة خشية الدوار والسقوط تحت حوافر الحياة القاسية. يتمردون على فقر الحياة وفقر الكتابة وندرة الكتاب ومحاصرة الجديد والأجد ويرفض الرقص في الفضاء نفسه دون أمل في التغيير.
ومن هذا المأزق التاريخي يسلك البعض طريق الجِد والمثابرة والمحاولة بعد المحاولة، بكثير من المعاناة والإخفاق والنجاح ليعانق العالم الرحب، ويخرج إلى مدن الحلم العربي. وتفيض تجربة البعض لتقذف به إلى مدن أخرى، فيخرج إلى العالم الأوسع. تدفعه إرادة صلبة، ومثابرة عنيدة، وقدر من شجاعة المغامرة ومغالبة الصعاب في عالم لا يستجيب بسهولة للأحلام والطموحات. وفي لحظة ما يكتشف أن المغامرة قد شارفت على الانتهاء، ويلتفت إلى الخلف ليرى الخراب قد حل بـ»الوطن» الساكن في الضلوع والأوردة، وأن قصائد البدايات قد شاخت فوق مآذن صنعاء وشواطئ عدن وجبال تعز، فيختلط الشجن والشوق بالشعور بالحزن والغربة.
تتمرد بعض المواهب على قيود الحصار الداخلي والخارجي، الجغرافي والزمني والتراثي. تتقدم وتنافس بالمعايير العالمية وتنجح. وأنور العنسي من القلائل الذين استوعبوا شروط النجاح ونافسوا ونجحوا. كانت موهبته أكبر من أن يطمرها غبار الحصار، وكان لديه من الإرادة وقوة الشخصية ومن الموهبة والزاد الثقافي ما مكنه من مقاومة عوامل الإحباط والفناء، وكان النجاح ثمرة كفاح وتعب ومثابرة، تستحق أن يُقتدَى بها، ولعل هذه هي الرسالة التي يستطيع أن يستوحيها أي شاب طموح من هذا الكتاب.
أنور العنسي: «مرايا الأزمنة»
دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة 2016م
200 صفحة