خليل المعلمي
حين بدأت البشرية بالتخاطب وتبادل الأفكار وعمليات التدوين اتجهت إلى الرسومات والتشكيل، وتطورت العملية إلى إنتاج الحروف، فراحت تدون الأصوات نقشاً ورسماً على الصخور والأحجار حتى تم اختراع الورق عن طريق الصينيين وبدأ الحرف دورة حياته من حضارة إلى أخرى ومن أمة إلى أمة ولا زال إلى وقتنا الحاضر يتشكل ويحظى بالاهتمام والرعاية يتفنن في نقشه وكتابته المبدعون والفنانون.
ثمة خلاف وجدال حول نشأة اللغات ومنها نشأة اللغة العربية، وكان ظهور الحرف العربي في أشكاله الأولى ناتج عن دمج الخط النبطي مع الخط المسند، فاكتسب الليونة والعفوية والتناسق الذي لا يوجد في حروف أي لغة أخرى.
ولكلمة الخط العربي معنيين هما كتابة الحروف، وفن كتابة الحروف وذلك ما عبر عنه ابن خلدون فقال عن الخط: “هو رسوم وأشكال حرفية تدل على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس”، أما تعريف الكتابة في العصر الحديث فينص على أنها تجسيد للكلام والفكر بعلامات خطية يقع عليها الاتفاق.
وقد حقق الحرف العربي قفزات هائلة وتطوراً مشهوداً خاصة في العصر العباسي حيث امتلأت الفراغات بين الحروف بالزخارف النباتية كما انتشرت الزخرفة الإسلامية انتشاراً واسعاً مع توسع رقعة الدول الإسلامية شرقاً وغرباً.
وقد احتفت الأمة الإسلامية احتفاءً كبيراً بالخط والزخرفة لم تحتف به أي أمة من الأمم وأبدع المسلمون إبداعاً متميزاً في هذين المجالين وجعلهم ذلك ينافسون ويباهون بنفائس المخطوطات والآثار الخطية.
وكان للخطاطين القدماء مرتبة الفنانين في العصر الحاضر ومن أشهرهم في العصر العباسي “الشيرازي ابن ملقه” واضع الخط العربي في المشرق وخط النسخ المتداول حتى يومنا هذا، وكذلك “البغدادي ابن البواب” صاحب القصيدة الرائية في الخط والكتابة، فيما يعد “القندوسي” أشهر الخطاطين المغاربة، وقد انبثقت أشهر المدارس الخطية القديمة في العراق وفارس ومصر والأندلس وتركيا والبلاد المغاربية وكل مدرسة قائمة بذاتها لها خصائصها ومميزاتها.
ويرى علماء مختصون في الفن الإسلامي أن الخط هو المشترك الفني بين جميع البلاد الإسلامية تلتقي فيه جماليات ورؤيات تنطلق من النص القرآني لتمتد إلى الشعر والحكمة.
لقد تفاعل المسلمون مع الحرف العربي بحب وإحساس مرهف وحميمية عالية ووصل في أجل حالاته إلى القدسية وتماهوا معه حد العشق، مما دفع بالشيخ محيي الدين بن العربي أن يصف ذلك بالقول: “إن الحروف أمة من الأمم، مخاطبون ومكلفون وفيهم رسل من جنسهم ولهم أسماء من حيث هم، ولا يعرف هذا إلا أهل الكشف من طريقنا، وعَالم الحروف أفصح العالم لساناً وأوضحه بياناً”.
وقد ارتبط الخط العربي بالقرآن الكريم منذ البداية نتيجة احتفاء الخطاطين بنسخ المصحف الشريف، وتزيين المساجد بالآيات والأحاديث الشريفة، واكتسب الخطاط أهمية وهالة عظيمة في تلك الأزمنة وتوالت هذه الأهمية عبر العصور، وأصبح الخطاط ذا حظ وافر في الحصول على العطايا والوظيفة والمكانة العالية داخل المجتمع.
وقد تحول الخط إلى تقليد وعلم يحتاج إلى أخلاقيات ومؤهلات خاصة، وكما قال عنه الخطاط ياقوت المستعصمي: “الخط هندسة روحانية ظهرت بآلة جسمانية”.
صار الخط العربي على مر العصور محل إعجاب الكثير من المستشرقين والفنانين الغربيين، فما أحدثه الخطاطون والمعماريون من تطوير لهذا الحرف وظهور أنواع كثيرة منه صار مجالاً للحديث والوصف والإعجاب والتقليد، كما أن دوره في إضفاء الجمال والروعة على المساجد والقصور والمباني أدهش العالم وظل بصمة من بصمات الحضارة العربية والإسلامية.
وقد أبدى الفنان العالمي بيكاسو إعجابه بالخط العربي، فأثناء بحثه عن مصادر إلهام جديدة في أفريقيا والشرق اكتشف جماليات الخط العربي وعبر عنها في مقولة شهيرة يرددها الكثيرون: “أردت الوصول إلى نقطة ما فوجدت الخط العربي قد سبقني إليها”، والمقصود بتلك النقطة هو التجريد.
أما الفنان الفرنسي المسلم ناصر الدين دينيه أحد المعجبين بالخط العربي فكان يرى بأن اتجاه حركة الكتابة العربية من اليمين إلى اليسار يدل على رغبة الخطاط في احتواء العالم الخارجي واستدراجه إلى الداخل الموجود في جهة القلب اليسرى، وفي حركة الكتابة العربية مصافحة واحتضان للعالم، وتعبير قوي عن المحبة الجوانية، في حين أن الكتابة اللاتينية تفعل العكس في محاولة للتنفيس وإخراج المكنونات الداخلية”.
أصبح الخط العربي أحد مظاهر الاعجاز والاعتزاز العربي ومقوماً رئيسياً من مقومات الهوية العربية، واعتبر في قمة الفنون النبيلة التي أدت دوراً حضارياً لا غنى عنه، فهو الذي نقل الثقافة من طور الشفاهية إلى التدوين وصار وعاءً لاحتواء الأدب العربي نثره وشعره وناقلاً لمختلف العلوم العربية واليونانية التي زخرت بها الحضارة العربية الإسلامية في العصور الوسطى ولولا جهود النساخين والخطاطين ما وصلنا شيء من ذخائر المخطوطات والدواوين والمصنفات الأدبية والعلمية.