ساعة مع هيكل (2-2)
عبدالوهاب الضوراني
هيكل له عدة إصدارات ومؤلفات قيمة جديرة بالبحث والدراسة والتدقيق في مختلف القضايا والشؤون السياسية المعاصرة وفي الثقافة والنقد والأدب أيضاً ولكنه حقق نفوذاً واسعاً واستثنائياً وسطع اسمه أكثر من غيره في سماء الأبحاث والدراسات السياسية والاستراتيجية ليس على المستوى العربي فحسب وإنما على المستوى العالمي أيضاً وذلك من خلال ما كان يتعاطاه ويتطرق إليه من المواضيع والقضايا السياسية الساخنة التي كان يتعاطاها أولاً بأول بموضوعية ونوعاً من ديناميكية وإحساس مرهف قد يفتقدها الكثير من المؤرخين والمحللين السياسيين المعاصرين الذين واكبوا إطلالته وجزءاً من مشواره الطويل والشائك على بلاط صاحبة الجلالة والذي يقارب على النصف قرن ويزيد وكان سباقاً دائماً في احتواء ومواكبة العديد من القضايا والأحداث السياسية الفارقة كالثورات والانقلابات العسكرية والانتفاضات الشعبية التي شهدتها بعض دول المنطقة في النصف الأول من منتصف القرن الماضي التي كان يتابعها هيكل ويرصد وقانعة وإحداثها أولاً بأول كثورة المليون شهيد في الجزائر التي أحاطت بالاحتلال الفرنسي ونال فيها الشعب الجزائري استقلاله على جماجم الشهداء من خيرة أبنائه والتي تعتبر المجاهدة والفدائية الجزائرية بوحريد إحدى نواتها ورموزها وقال عنها هيكل في كتابة الشهير “عناقيد الغضب” إنها الحدث والثورة الحقيقية والوحيدة في الوطن العربي التي قدم فيها الشعب الجزائري مليون شهيد من أجل الحرية والاستقلال كما كان لثورة اليمن اهتمام خاص أيضاً في العديد من أبحاثه وتحليلاته السياسية وتفاعلاته وأفرغ لها حيزاً أيضأً في الكتاب المشار إليه والتي وصفها بالثورة الاستثنائية وغير المسبوقة في تاريخ الجزيرة ودول المنطقة التي ولدت من رحم المعاناة والتشرنق داخل نعوش وتوابيت الطواغيت والأنظمة الفردية المقيتة والبغيضة وهي بالتالي الشرارة التي سيندلع وهجها الثوري مستقبلاً لتشمل العديد من الأنظمة والأقطار الأخرى التي تتطلع شعوبها بكل شغف ولهف ليوم الحرية والخلاص والخروج من شرنقة الأنظمة الاستبدادية والديكتاتورية والكهنوتية والفردية وحالات التمزق والانشطار التي تعيشها إلى آفاق المدينة والديمقراطية وأعتاب المستقبل كما ضمنه جملة من الوثائق والمراجع التحليلية البالغة الأهمية عن تداعيات نكسة حزيران ومفارقاتها التي تكبدتها مصر عام 67م واجتياج جيشها الذي كان مرابطاً ومعزولاً أيضاً أمام القوات الإسرائيلية وحلفائها داخل صحراء سيناء وهضبة العريش وجزءاً من الضفة الغربية لقناة السويس التي كانت تقع آنذاك تحت السيطرة والاحتلال الإسرائيلي، وقدم عبدالناصر على إثرها استقالته وخرج الشارع المصري من أقصاه إلى أقصاه للمطالبة بالتخلي والعدول عن تقديم الاستقالة واستئناف مهامه الدستورية مجدداً، وعندما وضعت الحرب أوزارها والتقطت مصر والأمة العربية أنفاسها المتقطعة ولعقت جراحها التي كانت لا تزال نازفة جزاء الهزيمة ومرارتها التي كانت أكثر وطأة وهولاً من القشة التي قصمت ظهر الأمة العربية وسقوط أراض وأقاليم مصرية مزدوجة كالعريش وشرم الشيخ وجزءاً من الضفة الغربية لقناة السويس في أيدي الكيان الصهيوني سارع هيكل على إثرها لخوض حرب أخرى أشد وقعاً وتأثيراً من فوهة المدفع ونعيق الطائرات في مختلف الجبهات والمنابر الإعلامية استطاع خلالها وفي فترة وجيزة وقياسية أن يقلب الموازين والمعادلات وكل الاستنتاجات والمفاهيم الخاطئة التي كانت سائدة رأساً على عقب، كما قام في هذه الأثناء أيضاً بجولة شبه أوسطية تنقل خلالها في مختلف العواصم والأقطار العربية والأجنبية في محاولة لكسب تأييد وتعاطف قياداتها وشعوبها وإعادة إشعال الحماس التي كانت جذوتها قد انطفأت في قلب كل مواطن عربي ورفع أقصى درجات اليقظة والتعبئة العامة مجدداً في الشارع العربي الذي لم يكن قد أفاق بعد من كابوس المفاجأة وتأثير الصدمة وهي الجهود والأجواء التي أدت لحد ما إلى إعادة تحريك المياه التي كانت لا تزال راكدة وحشد أكبر قدر من الدعم والتضامن عربياً وعالمياً لمساندة موقف مصر من الصراع الذي تخوضه بمفردها ضد إسرائيل وتأييد مطالبها المشروعة والثابتة لاسترجاع ما أخذ منها بالقوة من الأرض والسيادة الوطنية باذلاً في هذا المنحى كل ما بوسعه حتى أنه تعرض وهو في آخر محطة في رحلته المكوكية تلك لعملية اغتيال فاشلة على يد يهودي متطرف في جهاز الموساد الإسرائيلي قام بزرع عبوة ناسفة داخل السيارة التي كانت تقله في مطار العاصمة اليونانية أثينا وقام خبراء تفكيك المتفجرات باكتشافها وإبطال مفعولها في الوقت المناسب.
هيكل عرض عليه العديد من المناصب الوزارية في عهد عبدالناصر وبعد رحيله أيضاً، وتولى السادات الذي كان ينوبه مقاليد الحكم بعده كان آخرها حقيبة الثقافة في حكومة مصدق والتي كان دائماً (أنا زي السمك لا أعيش أو أتنفس إلا تحت الماء) عندما تعرض لهجمة شرسة ومنظمة منقبل جماعة الإخوان المسلمين في مصر وبعض التيارات السلفية والقوى الرجعية الخارجية الأخرى بعد رحيل عبدالناصر وقيامه بحملة التعبئة والتأييد التي أبلى فيها بلاءً حسناً والتي كانت تتهمه بالتطرف والانحياز لعبدالناصر وكانت تقول عنه دائماً أنه يعتبر بوقاً من أبواق خطاباته ومشاريعه القومية والوحدوية والشخصية المناهضة للرجيعة والإمبريالية والصهيونية العالمية وهي الشعارات والمبادئ التي كان عبدالناصر ينتهجها دائماً في حياته والتي كانت تجعله أغلب الأوقات في أسوأ المواقف المثيرة دائماً للجدل والتحرش وحملات الاغتيال التي كان يطلع منها كل مرة كالشعرة من العجين عندما أصدر هيكل على خلفياتها كتاباً بعنوان “لمصر وليس لعبدالناصر” نفى في جزء كبير منه تلك الأراجيف والشائعات التي وصفها في كتابه بالعنصرية والراديكالية والتصرفات الطائشة التي لا أساس لها من الصحة وقال في هذا المنحى “إن عبدالناصر يعتبر مواطناً مصرياً وعربياً وزعيماً قومياً ووحدوياً نادراً لا يقارن ولكن الولاء أولاً وأخيراً لمصر وليس لعبدالناصر وللأوطان والشعوب وليس للقيادات أو الأفراد” عندما قامت ثورتا سبتمبر عام 62م في شمال الوطن و14 أكتوبر عام 63م في جنوبه قبل التطبيع والاندماج وانبثاق فجر الوحدة الزاهر في الـ22 من مايو 1990م وتحقيق حلم الجماهير الكبير كتب هيكل مقالاً تضامنياً في جريدة الأخبار أعرب فيه عن تأييده المطلق للثورتين وقيام النظام الجمهوري في كل من صنعاء وعدن نقتطف منه ما يلي: “إن ثورتي الشمال والجنوب في اليمن السعيد يعتبر مكسباً جماهيرياً وقومياً جاء مجسداً لإرادة الجماهير اليمنية في الحرية والكرامة والاستقلال والتخلص من التبعية والأنظمة الفردية في الشمال وكوابيس الاستعمار البريطاني الذي جثم طويلاً فوق صدور أبناء الجنوب كما يعتبر مؤشراً لإعادة تحقيق حلم الوحدة وردم فجوة التشرذم والانشطار بين أبناء الوطن والشعب الواحد وهي الشرارة التي سيندلع وهجها الثوري مستقبلاً ليشمل بقية أقطار وشعوب المنطقة التي يعاني أبناؤها من جور التمزق والتبعية والانفصال” .. هيكل زار اليمن عام 63م بعد اندلاع الثورة المباركة بعام تقريباً وكان على رأس وفد رفيع المستوى ضم نخبة من كبار العلماء ورجال الأزهر وقادة مشاكل الفكر والأدب والقادة العسكريين في زمن عبدالناصر وكان في طليعة هؤلاء الروائي العالمي نجيب محفوظ والذي أصدر في ختام الزيارة روايته الشهيرة “تحت المظلة” التي ضمنها جملة من الخواطر والانطباعات الجميلة عن نتائج زيارته والوفد المرافق لليمن فيما قام هيكل بدوره خلال الزيارة يرافقه وفداً من كبار القادة العسكريين في منظومة الجيش المصري لتفقد وزيارة عدد من كتائب ووحدات القوات العربية التي كانت ترابط آنذاك جنباً إلى جنب مع إخوانهم رجال القوات المسلحة اليمنية البواسل المرابطين في مختلف المواقع والتحصينات وأيديهم على اناد لمواجهة ومقاومة فلول ومعاقل المرتزقة والذود عن الوطن وثورته وكرامة أبنائه وسلامة أراضيه حتى تحقق الناصر للثورة وارتفع علم الجمهورية خفاقاً في عوم أرجاء الوطن الكبير، كتب هيكل أيضاً عند عودته للقاهرة عدداً من الانطباعات والمقالات الرائعة عن نتائج زيارته التاريخية أشاد فيها بكرم الضيافة والحفاوة التي صادفها والوفد المرافق لصنعاء كما أشاد بالروح المعنوية والجاهزية القتالية العالية التي يتمتعبها الجنود والمقاتلين اليمنيين للتصدي ومقارعة قوى الشر والانفصال الذين كانوا يتربصون بالوطن وثورته ونظامه الجديد واستئصال شأفتهم. وهو يشيعني مودعاً بنفس الحفاوة والحماس اللذين استقبلني بهما، والتي كانت تعتبر إحدى سماته وجزءاً من شخصيته الاعتيادية والإنسانية وضع في يدي آخر عدد من جريدة الأهرام التي كانت رائجة وواسعة الانتشار في ذلك الوقت وكان بها مقال يومي بعنوان “عرب اليهود .. ويهود العرب” على ما أتذكر والذي كان يقصد به الأقليات من الشواذ والقوميات اليهودية المتشددة الذين تسربوا وانتشروا كالسرطان داخل فلسطين وجاءوا من أرض الشتات ومن كل مكان في العالم في أعقاب التوقيع على معاهدة ما كان يعرف وقت ذاك بوعد بلفور العنصري الذي أجاز وأعطى الحق لليهود في العودة إلى فلسطين التي كانت تقع آنذاك تحت الانتداب والوصاية البريطانية بذريعة وتحت مسمى أرض الميعاد وابتدرني مودعاً “عندما تعود لليمن انقل تحياتي لكل مناضل وكل وحدوي وكل عربي حر وشريف في ربوع السعيدة”.