الدعوة الى السلم المجتمعي ونبذ التطرف
د.محمد السنفي
لا سبيل للعيش المشترك إلا أن نشبة الجميع، دون أن نكون أحدهم، نقتبس من كل جميل جماله، ومن كل مضيء ضوءه، ومن كل طاهر طهرة،ومن كل نبيل نبلة، الدعوة الى التعايش بالعدل، ومن أجل الحفاظ على كرامة الإنسان اليمني، لا ندعوا الى الحروب ، والتفكك والارتهان، وتدمير الدولة المدنية، والتاريخ والحضارة على مر التاريخ.
بل ندعوة الى مواجه التطرف والتشدد والإرهاب بالاعتدال والقبول بالآخر وليس بغيره، ندعوا الى فتح جسور التواصل والحب مع الآخر، ونشر ثقافة الاعتدال والتسامح بين الشعوب ، ندعوة للخروج من عمق الإشكالات التي تجتاح المجتمع اليمني خصوصا، والعالم والإسلامي عموما، ومن تلك الدعوات الطائفية،التي تنشر العنف، والإرهاب، والذهاب نحو الحروب التي تأكل الاخضر واليابس ، والجنوح إلى خيار القتل وسفك الدم الطاهر .
لقد ذكر لنا التاريخ نماذج من التسامح السياسي في الإسلام وأن ما يقابل التشدد والتطرف في قاموس السياسة المعاصرة هو التسامح، وهو الصيغة التي يمكن للسياسة العامة الاستفادة منها في تنظيم العلاقات العامة بين الجماعات والافراد السياسية وغيرها.
وتعد الصيغة الإسلامية، هدفها لبنا الشخصية الإسلامية السوية ، على أساس من التسامح والمحبة، في جميع ميادين الحياة، ولهذا جاء قول الله تعالى (رحماء بينهم) تصور ومثال للشخصية القدوة التي تشرفت بصحبة الرسول صلى الله عليه وسلم ، والتي كانت قدوة يحتذي بها كل المؤمنين.
وقد دعت الشريعة الإسلامية الى التسامح والحبة وجعلت منه نموذج يحتدا به ومن خلال تتبع بداية تكوين المجتمع الإسلامي في المدينة المنورة كان الإهتمام واضح بعنصر التسامح وسلامة العلاقات الداخلية بين الافراد وهو ما عبر عنه كتاب الله وسنة نبيه بـ(بصلاح ذات البين)كما جاء في قولة تعالى: (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين) (الأنفال).وجاءت هذه العناية بإصلاح ذات البين من خلال التشريعات التي تحققت من خلالها نعمة الله على تلك الجماعات المتناحرة المتصارعة إلى جماعات يغمرها الحب والمودة والسلام، كما جاء في قولة تعالى : (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً) (آل عمران: 103).
وقد جاءت المؤاخاة بين المهاجرين والانصار والاوس والخزرج على أساس من التسامح عنواناً للدعوة الرائدة التي اعتمدت على السلام واعتبرته قاعدة من قواعدها كما في قولة تعالى : (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) (البقرة: 208).نموذج المجتمع الجديد وقد جاء في الحديث الصحيح : (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) و(المهاجر من هجر ما نهى الله عنه).
والاخوة الا تكون في الون الواحد والفكر الواحد إنما تكون مع التعدد والكثرة، وهذا يعني أنه موجود بحسب الافكار والتطلعات والرغبات وغيرها التي قد تؤدي الى التنازع والاختلاف، ولهذا عمدت الشريعة للحفاض على هذا الون والركن الركين عن طريق التشريعات ما يؤدي الى استمرار المجتمع والحفاظ عليه، جاء في قولة تعالى : (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس) (النساء: 114)، وكما جاء في قوله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم) (الحجرات: 10).
ومن الأحاديث ما ورد عن النبي (ع): «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين وفساد ذات البيت الحالقة»، والنصوص بهذا المعنى كثيرة.
والمستفاد من النصوص الدينية أن الحق في الاختلاف ضرورةٌ تفرضها طبيعة الكائن البشري، وحاجتة العميقة للإنجاز والتميز، إن الجماعات الدينية تناضل من أجل الاعتراف ، بالعيش معاً، بل يعد نشر أدب الاختلاف في المجتمعات حق، بالوسائل السلمية، مع الحفاظ على الحقوق والحريات ،حتى مع الرأي الآخر والتعامل بالحكمة والموعظة الحسنة في إظهار الرأي والالتزام به والدفاع عنه، ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: (لا إكراه في الدين) و(ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) فمنطق الوجة الواحد للحقية هو ما يسوق للإعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة، وستباحت كل الافعال العدوانية التي تنتهك الدين والاخلاق، وعلينا الانتباه أن ما نراه اليوم حقاً لعل غيرنا يراه ضلالاً، وربما نتخلى عنه نحن غداً، لو اكتشفنا زيفه، وبذلك لا ينبغي أن نكرة أحد على العمل به، ولا ننتهك حرية أي كائن بشري، لقد علمتنا الحياة أن شيئاً مما كان بدعة بالأمس أضحى سنةً اليوم، وأن شيئاً كان هرطقة أصبح حقيقة اليوم، وأن شيئاً كان كفراً أضحى اليوم ديناً…
ونورد لكم بعض الشواهد من حياة الامام علي (ع) على ذلك، منها: أن فرقة من الخوارج كانت تروج لأفكار تنسف الأسس الفكرية التي تقوم عليها حكومة الامام علي ولكنه لم يحجرها من الترويج لأفكارها وآرائها بل معتمد على مقارعتها وكشف زيفها وبطلانها . بالحجة والفكر الذي لا يتعدى الكلام. ،ولم يواجه الامام علي تلك الجماعة عسكرياً الا بعدما حاولت فرض أفكارها فقوة السلاح، وبعدما عرضت سلامة المجتمع الى الخطر وهددت الأمن والاستقرار بأعمالها المسلحة.
ومن ضمن الشواهد التاريخية حادثة وقعت، للإمام علي حين خطب في مسجد الكوفة وأثناء الخطبة قاطعه بعض الخوارج بقولة (الحكم لله! ليس لك يا علي) هذا يعد من ضمن شعاراتهم السياسية والفكرية التي أعتمد عليها الخوارج للخوارج في رفض حكومة الامام علي. وقد تصدى الامام علي لإبطال هذه الافكار بقوله (كلمة حق يراد بها باطل. نعم لا حكم الا لله ولكن هؤلاء يقولون لا إمرة الا لله، وإنه لا بد للناس من أمير بر أو فاجر..) .وهو بهذا يبطل أدعائتهم بالفكر والحوار وليس بالسلاح، والامام علي يقول: (نعم، الله هو المشرع للحكم ولكن الناس تحتاج الى الأمير الذي ينفذ حكم الله تعالى. تحتاج الى حاكم من البشر يعاقب المسيء ويثيب المحسن ويدير شؤون البلاد والعباد وهذه أمور يقوم بها البشر).
وثمة شواهد عدة من حياة المسلمين السياسية تدل بوضوح على عدم جواز ارهاب الآخرين وقمعهم لمجرد افكار دعوا اليها أو آراء أظهروها، فكيف بتلك الاحزاب والجماعات الدينية التي تدعوا للإسلام وتنشده لا تقبل بالرأي الآخر الذي يخالف آرائهم وافكارهم؟! ولذلك يجب على المرجعيات الدينية أن يصدر توجيهاتها لستيعاب الرأي الآخر والحوار معه واستبعاد التطرف والتشدد معه وعدم جواز التعرض لأصحابه بالقمع والأذى لمجرد فكرة طرحوها أو اعتقدوها لأن في ذلك مجافاة وابتعاداً عن سماحة الإسلام في أحكامه ومقاصده المعبرة عن رحابة أرجائه.
أما تطبيق الأحكام وتنفيذها على الأشخاص فهو متروك للسلطات التنفيذية من باب الحفاظ على النظام العام الذي تحفظ به الحقوق ولم يكن من حق اي جماعة دينية ان ترمي غيرها بالكفر والانحراف أو أن تقيم عليه حداً شرعياً وهذا هو الخطأ الذي وقعت فيه جملة من الحركات الدينية المعاصرة التي تحكم على غيرها بالكفر والارتداد وتعمل على تطبيق الأحكام وتنفيذها بدعوى حاكميتها وتنفيذها لأحكام الله متجاوزة بذلك دور السلطة ،
حيث تحولت هذه الأحزاب عن نهج السلف الصالح الى نهج آخر يتم من خلاله استخدام الدين مطية للوصول إلى السلطة وهذا ما نشاهده من خلاف واختلاف بين الدعاة الذين يعيشون ازدواجية بين الاخلاص للقيم الاخلاقية، وبين سعيهم الدائم للحصول على المصالح ، وهذه الازدواجية تقود المجتمع الى الانهيار، حيث تحول الدين الى أداة كسب، ومصدر عيش، بدلاً من كونه مصدر للقيم و المبادئ الانسانية، بل تحول الدين عند البعض الى أداة للموت وإشاعة الكراهية، بل من المعيب أن نجعل الدين أداة للارتزاق، والحصول على الامتيازات، على الرغم من معرفتهم يذلك وإصرارهم على ارتكاب الآثام، ونصبوا أنفسهم قضاة واقاموا محاكم التفتيش عن عقائد الناس وأفكارهم، وهم بطريقتهم هذه لم يخرجوا عن نهج التسامح والتساهل بل خرجوا المجتمع من وحدته بسبب تشددهم واحدثوا الفرقة والبغضاء داخل المجتمع وهم يقرأون قوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) (آل عمران: 103)، وقوله تعالى: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا من بعدما جاءهم البيان) (آل عمران: 105)، وغيرها الكثير من النصوص الداعية الى التعامل بالحسنى وحسن التعامل مع الآخر.