خليل المعلمي
تحكي الصناعات الحرفية قصة نجاح الإنسان اليمني في صناعة الحضارة، وتعبر عن موروثه الثقافي والاجتماعي والحضاري.. فالحرفيون الذين مازالوا يمتهنون هذه الحرف يقدمون خدمة ثقافية لبلادنا بغض النظر عن الفائدة الاقتصادية الضئيلة الناتجة عن ممارسة تلك الحرف.
إن رعاية أصحاب هذه المهن والاهتمام بهم من قبل الجهات الرسمية والجمعيات والمنظمات المحلية والأجنبية أمر في غاية الضرورة والأهمية لأنه يحافظ على هذا الموروث الثقافي ويبرز المكنون الحضاري لهذا البلد الغالي.
تضاءلت الصناعات الحرفية في بلادنا بشكل ملحوظ خلال الفترات الماضية وهذا ما يجعلنا نقف شاخصي الأبصار أمام هذا الحدث الذي لا يمكن أن نصفه إلاّ بالكارثي بحق موروثنا الثقافي والحضاري.
إجراءات وبرامج
تبنت عدد من المنظمات الدولية مجموعة من الإجراءات خلال الفترات الماضية في الحفاظ على هذه الحرف والموروثات القديمة من خلال برامج ومشاريع لاقت ارتياحاً لدى الكثير مثل إنشاء الجمعيات والمراكز التدريبية والحرفية لإحياء المهن والصناعات التقليدية، والقيام بتدريب الحرفيين والتسويق لمنتجاتهم عبر إقامة المعارض المحلية والدولية، وهذا دليل على أهمية هذه المهن وما تكتنزه من مدلولات ثقافية وحضارية عريقة، كما لازالت حاضرة بين أوساط المجتمع ولا نستطيع الاستغناء عنها.
نشطت هذه الجمعيات والمراكز باستقطاب مجاميع من الشباب لإدماجهم ضمن برامجها وكان الغرض مكافحة البطالة والحفاظ على هذه الحرف وإنتاج العديد من المنتجات الحرفية المختلفة التي تدخل في كثير من احتياجاتنا اليومية كالملابس والمصوغات الفضية وصناعة وتشكيل الحديد وغيرها، وعلى الرغم من ذلك فهناك تضاؤل وانحسار لهذه المهن وعدم الاقبال عليها.
جزء من التاريخ
تتواجد معظم هذه الصناعات في المدن القديمة المحتضنة لهؤلاء الحرفيين ومحلاتهم باعتبار المكان والزمان.. وفي اعتقادي فهؤلاء الحرفيون لا يمكن أن تبدع أناملهم أو تصفى أذهانهم إلاّ وهم متواجدون في هذه المدن التاريخية القديمة كصنعاء القديمة ومثيلاتها المنتشرة في أرجاء الجمهورية.
إن المدن التاريخية تصدع بعبق التاريخ والحضارة وهذه المنتجات هي جزء من التاريخ والحضارة.. وخلال الفترة الزمنية القصيرة اقتصرت الحرف اليدوية على منتجات محددة كالملابس الشعبية والتحف والمصوغات الفضية وبعض المنتجات الأخرى وتلاشت بالمقابل الصناعات الأخرى والتي كانت تستخدم في البناء مثل الأبواب والنوافذ والقمريات التي بدأ يتلاشى استخدامها في بناء المنازل.. وكذلك المواد التي تستخدم في الزراعة وكان للمنتجات الأجنبية والمستوردة الدور في تلاشي هذه الصناعات وانحدارها إلى الأبد.
والملاحظ عزوف اليمنيين بشكل عام عن هذه الصناعات والاتجاه للمنتجات المستوردة، وأصبح اقتناء معظم هذه المنتجات يقتصر على الأجانب والسياح الذين يقبلون على هذه المنتجات كتحف وهدايا، كما بدأ الوعي يقل بأهمية هذه المهن والمنتجات الحرفية من قبل معظم الجهات الرسمية والشعبية.
مشاكل ومعوقات
والحديث عن المشاكل والمعوقات التي تقف أمام هؤلاء الحرفيين لا ينتهي، من ذلك قلة الاهتمام بهم وعدم تشجيعهم وتوفير الحماية لهم وكذلك المنتجات المستوردة المقلدة لمثل هذه المنتجات، وكان بالإمكان أن يتجهوا إلى مزاولة مهن أخرى تكفل لهم العيش الكريم إلا أن معرفتهم بالقيمة العظيمة والحضارية لهذه المهن والمنتجات تمنعهم عن ذلك.
وبالرغم من المعوقات والمشاكل التي تقف أمام هذه الصناعات الحرفية والمراكز التي تعمل على تدريب الكوادر المنخرطة في هذه المهن، فإن “المركز الوطني النسوي لتطوير الحرف اليدوية” قد سعى ومنذ إنشائه منذ العام 1987م على الصمود أمام كل العوائق والمشاكل التي تقف أمام تطويره ومهامه.
ويهدف المركز الذي يقع في “صنعاء القديمة” التي تضم العديد من المتاجر والمعامل التي تعمل في هذه الصناعات، يهدف إلى الحفاظ على الموروث التراثي والحضاري من خلال الاستمرارية في العمل في الحرف اليدوية القديمة إلى جانب المحافظة على العادات والتقاليد القديمة التي هي عنوان لشعبنا اليمني ونمط الزي الصنعاني بشكل خاص، وكذلك العمل على تطويرها بما لا يلغي خصوصياتها.
أنشطة خفيفة
ويستقبل المركز المتدربات وخاصة نساء صنعاء القديمة في هذا المجال وذلك في عدد من الأقسام مثل قسم التطريز وقسم النسيج اليدوي والتشطيب والخياطة والتصاميم والرسم وهناك معرض دائم داخل المركز يقوم بعرض جميع منتجات المركز.
ويسعى إلى نشر الوعي بأهمية وإعادة وإحياء الحرف التقليدية والمشغولات اليدوية النسوية.. وكذلك العمل على إنشاء المزيد من الحرف اليدوية التي اشتهرت بها اليمن قديماً بحسب الإمكانيات المتاحة للمركز من دعم مادي وفني ومعنوي متخصص، والتوسع في فتح مراكز جديدة واستقدام خبراء محليين ودوليين، وللمركز دور في البحث عن بعض المشغولات والحرف اليدوية التي بدأت تنقرض بفعل توقف أصحابها وعدم وجود من يخلفهم في إتقان هذه المهن وتوريثها للأجيال التالية..
حرفيون بلا رعاية
أما الحرفيون الذي يعملون في معاملهم الخاصة ولا يجدون الدعم من أي طرف رسمي أو شعبي فحالهم لا يسر عدواً ولا حبيباً، فالركود التجاري قد ساد محلات الحرفيين في أسواق صنعاء القديمة، إضافة إلى أن بعض هذه المحلات قد بدت مغلقة، وغياب التذوق للصناعات الحرفية الموروثة عن الأجداد يشكل أحد أسباب تدهور هذه الصناعات وبالتالي تدهور أحوال هؤلاء الحرفيين بالرغم مما يقدمونه من خدمة للتراث وللوطن وحضارته وموروثه الثقافي، وما يزيد الطين بلة، قيام العديد من التجار ورجال المال والأعمال باستيراد قطع مشابهة لهذه الصناعات من الخارج وهي تحمل نفس الأشكال، إلاّ أنها تختلف اختلافاً جذرياً عن ما يصنعه الحرفيون، فمهارة اليد اليمنية تظهر في المنتج المحلي بشكل لامثيل له على الإطلاق، والذي يصنع بشكل محترف ورائع.
حرف مندثرة
هناك الكثير من المهن التي بدأت تندثر، بحسب شكاوى العاملين فيها مثل صناعة النحاس وصناعة الأمشاط الحديدية وصناعة الأقفال الحديدية وصناعة الحديد بشكل عام، وصناعة الطراشات “الأحذية”، وهناك العديد من الصناعات تقف على حافة الاندثار مثل صناعة الفضة ويعود السبب الرئيسي في ذلك إلى المنتجات المستوردة.. مؤكدين مقاومتهم حتى الرمق الأخير، فالمنتج المحلي يتميز بجودة أعلى ويظهر فيه إتقان الأنامل في تشكيله وفي صناعته مما يجعله مميزاً بشكل كبير وهذا ما يجعله أغلى قليلاً من المستورد الذي تستخدم فيه الآلات.
دعوة للجميع
ما يمكن أن يقال في الأخير هو دعوة الجميع لإنقاذ هذه المهن ودعم هذه المراكز، ونتساءل: هل يمكن دعم مثل هذه المراكز والجمعيات؟ من أجل إبراز هذا المكنون الثقافي المتنوع والذي نجد فيه تاريخنا وماضينا المشرق الذي حمله لنا الآباء والأجداد لنوصله إلى الأجيال القادمة بأمانته كما هو ليفاخروا به عبر الزمن.