في العلاقة بين الثقافة والسلطة
عبد العزيز البغدادي
ستظل العلاقة بين المثقف وبين سلطة المال والحكم من أكثر العلاقات حيوية وإثارة للجدل وترجع إلى رؤية كل من طرفيها أي السلطة والمثقف للآخر فالسلطة غالباً ما ترى بأن المثقف يجب أن يكون طوع أمرها ورهن إشارتها لأنها وبخاصة في المجتمعات ذات الثقافة الاستبدادية نتاج هذه الثقافة، وغالبية المثقفين تطبعوا على نظرة السلطة هذه وساروا عليها إما خوفاً من بطشها أو طمعاً في عطاياها وهكذا ظلوا وأضلٌوا !! ،
وقد لعبت بعض النماذج من المثقفين الذين رهنوا أنفسهم للحاكم المستبد والسلطة القمعية البوليسية دوراً سلبياً أدى إلى قلب معادلة حاجة السلطة السياسية الحاكمة للمثقف الوطني الحر الناقد للأخطاء والنواقص نقداً بناءً بحيث ترسخ في ذهن الحاكم أن ما تحتاجه هيبة الحكم هو هذا المثقف الهامشي الملحق بهيلمان الحكم والمسبح بحمده ومن يجيد لغة النفاق والمجاملة أو الواقف على الرصيف إما ماسح جوخ أو مهرجاً في مجلسه يتكسب من إضحاكه واحتراف النفاق الذي يقتل قيمة الجانبين ويعطلهما أي جانب المثقف والسلطة كذلك غاب عن وعي هذه السلطة وفهمها كون النقد والنصيحة الصادقة والمخلصة تسهم بشكل كبير في إصلاح أي اعوجاج في حياة السلطات وتصحيح أوضاعها بما يساعدها على تأدية واجباتها القانونية والأخلاقية تجاه المجتمع صاحب الحق في السلطة والثروة وفق أحدث النظريات السياسية ووفق أسلم العقائد الدينية والدنيوية !!،
ولأن للعلم سلطة أخلاقية لا تزال غائبة لدى كثير ممن يدعي العلم توجب على من يحترم مكانته أن لا يضعها في موضع المهانة وأن لا يسمح لأي صاحب مال أو سلطة بالمساس بهذه القدسية التي لها المكانة العليا عند من يدرك أهمية أن يكون للعقل والمعرفة دور المرجعية والاحتكام والدافع نحو النمو والتطور ومن نماذج من عبر عن مكانة العلم تجاه أي سلطة القاضي علي بن عبدالعزيز الجرجاني المتوفي سنة 392 هـ ، 1002 م الذي جاء في قصيدة له :-
يقولونَ لي فيكَ انقباضٌ وإنَّما
رأوْا رجٌلاً عن موقفِ الذُّلّٓ أحجَما
أرىَ الناسَ من داناهُمُ هانَ عندَهمْ
ومَنْ أكرَمتهُ عِزَّةُ النفسِ أُكرِما
وما زلت منحازاً بعرضي جانباً
من الذم اعتدُّ السلامةَ مغنما
إذا قيل هذا مشربُُ قلتُ قد أرى
ولكن نفس الحُرّ تحتملُ الظما
وما كل برقٍ لاح لي يستفزني
ولا كل أهل الأرض أرضاهُ مُنعما
ولم أقضِ حق العلم إن كان كُلما
بدا طمعُ صيرتُهُ لي سُلّما
ولم ابتذل في خدمة العلم مُهجتي
لأخدم من لاقيتُ لكن لأُخدما
أأشقى به غرساً واجنيه ذلةً
إذن فاتباعُ الجهل قد كان أحزما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهُم
ولو عظموه في النفوسِ لعُظّٓما
ولكن أذلوه جهاراً ودنسوا
مُحياهُ بالأطماعِ حتى تجهَّما
هذه الأبيات تعبر عن موقف العالم والمثقف الذي يحترم علمه وثقافته ، وفي اعتقادي أن احترام العالم والمثقف لنفسه ولمكانة العلم والثقافة هي الخطوة الأولى لإيجاد المعادلة السوية في العلاقة بين العلم والسلطة !!؛
أما كيف تبدأ تغيير نظرة السلطة الحاكمة وسلطة المال للمثقف وتغييره لنفسه فهذه مسألة بحاجة إلى إعادة نظر وإعادة تكوين ذهني وفكري بموجبها تدرك السلطة سواء سلطة الحكم أو سلطة المال أن حاجتها إلى المثقف والثقافة والمعرفة لتسيير الشأن العام حاجة مفصلية وإلزامية وليست ترفية أو مزاجية أي أن تشعر بأن المسألة مرتبطة بالحقوق والواجبات والمسؤوليات العامة انطلاقا من كون الحاكم (السلطة الحاكمة) يجب عليه أن يبحث عن الطريقة الأفضل لتسيير شؤون الدولة وهو ما يتطلب منها إدراك أهمية الاهتمام بالعلم والمعرفة وحتما بالعلماء والمثقفين وكذلك يدرك المثقف بأن ضريبة الثقافة والمعرفة هي بذل قصارى جهده أن يكون حراً محترماً لمكانة علمه وفي تحول معارفه النظرية إلى فعل وسلوك على الأرض وهو ما لا يكون إلا عبر المؤسسات التي تتحول المعرفة من خلالها إلى نشاط مؤسسي فاعل وبناء غايته خير المجتمع وسعادته في الحاضر والمستقبل !!!…