عبدالصمد الخولاني
عجيب أمر الشهادة ، يتمناها سيد ولد آدم الذي غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، لا يتمناها مرّة ، بل مرة ومرة ومرة “”… والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل اللَّه فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل” (رَوَاهُ مُسلِمٌ) .. عِظم أمر الشهادة عند الله عجيب !! وما أعد الله للشهداء أعجب من العجيب !!
الحمد لله الذي جعل الشهادة بابًا من أعظم أبواب الجنة، وحث الأمة على المضي في درب الشهادة في سبيله ولنا في سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم أسوة حسنة وهو خير من ضرب الأمثال في حب الشهادة، وفي بذل التضحيات العظام .
فإن بلوغ الأهداف الكبرى في الحياة يستلزم تضحيات كبرى مكافئة لها، ولا ريب أن سمو الأهداف وشرف المقاصد ونبل الغايات تقتضي سمو التضحيات وشرفها ورقي منازلها.
ثم إن للتضحيات ألوانًا كثيرة ودروبًا متعددة، لكن تأتي في الذروة منها التضحية بالنفس، وبذل الروح رخيصة في سبيل الله لدحر أعداء الوطن والأمة، وذلك هو المراد لمصطلح الشهادة والاستشهاد.
ومنزلة الشهيد هي أعظم المنازل، وقد منحه الله من المنح والمنازل ما يفوق الحصر، وللشّهيد منزلة عالية عند اللّه سبحانه وتعالى يشهد بذلك القرآن الكريم في عدد من الآيات منها
قوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ، يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}.
وقوله تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}.
ولقد جهد رسول الله كل جهد، واستوفى غاية وسعه في ترسيخ جذور هذا المعنى العظيم، وتعميق مفهوم هذا المصطلح الجهادي في نفوس أصحابه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين ثم في نفوس أمته من بعدهم، فقد أعلن عن حب عميق للشهادة، وتمنى أن يرزق بها مراتٍ ومرات.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: “والذي نفسي بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل)
وإنها لأمنية يا لها من أمنية كيف انبعثت من هذا القلب الطهور معبرة أبلغ التعبير عن هذا الحب العميق، والشوق الغامر إلى هذا الباب العظيم من أبواب جنات النعيم.
ولقد رسخ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مفهوم الشهادة، وأحياه في القلوب وبعثه في النفوس، من بيان محكم وإيضاح دقيق لفضل الشهادة ومنازل الشهداء في دار الكرامة عند مليك مقتدر.
حيث إن للشهيد عند ربه ست خصال جاءت مبينة في حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله: “للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دُفعة ـ والدفقة بضم الدال المهملة هي الدفعة من الدم وغيره ـ ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويُزوج اثنتين وسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه ـ وفي لفظ ـ من أهل بيته”.
ومن فضل الشهادة أنه يخفف عنه مس الموت حتى إنه لا يجد من ألمه إلا كما يجد أحدنا من مس القرصة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله: “ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة”
ومنها أن باب الشهداء في الجنة أحسن الدور وأفضلها، فعن سمرة بن جندب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله: “رأيت الليلة رجلين أتياني فصعدا بي الشجرة فأدخلاني دارًا هي أحسن وأفضل لم أرَ قط أحسن منها قالا لي: أما هذه فدار الشهداء”.
ومن ألوان الكرامة للشهيد أن الملائكة تظله بأجنحتها؛ فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: ” لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ جِىءَ بِأَبِى مُسَجًّى وَقَدْ مُثِلَ بِهِ، قَالَ: فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْفَعَ الثَّوْبَ فَنَهَانِى قَوْمِى، ثُمَّ أَرَدْتُ أَنْ أَرْفَعَ الثَّوْبَ فَنَهَانِى قَوْمِى، فَرَفَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ أَمَرَ بِهِ فَرُفِعَ، فَسَمِعَ صَوْتَ بَاكِيَةٍ أَوْ صَائِحَةٍ، فَقَالَ: “مَنْ هَذِهِ”، فَقَالُوا: بِنْتُ عَمْرٍو أَوْ أُخْتُ عَمْرٍو، فَقَالَ: “وَلِمَ تَبْكِى؟!، فَمَا زَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رُفِعَ”
ولهذا كله كان الشهيد وحده من أهل الجنة مَن يحب أن يرجع إلى الدنيا، كما في حديث أنس رضي الله عنه أن النبي قال: “ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا، وأن له ما على الأرض من شيء؛ إلا الشهيد، فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا، فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة”، وفي رواية: “لما يرى من فضل الشهادة”
وقد مضى على درب الشهادة المضئ كواكب متتابعة، وقوافل متعاقبة من الشهداء الأبرار الذين كتبوا وسطروا بدمائهم الزكية أروع صحائف التضحية والبذل وأرفع أمثلة العطاء والجود.