مِن واقع الحياة
عادل بشر
منذ كان طفلاً صغيراً وهو يحلم بمغادرة القرية والذهاب الى المدينة، إسوة بكثير من شباب قريته الذين رحلوا الى المدينة واستطاعوا الحصول على أعمال يتقاضون خلالها بعض الأموال سواء كراتب شهري او بالاجر اليومي ومن حالفه الحظ اكثر يقوم بممارسة عمل خاص به ،وعادة ما يكون هذا العمل البيع في الأرصفة او على متن عربيات جائلة في الشوارع، المهم أنهم بين كل فترة وأخرى يجمعون بعضاً من المال ويرسلون به الى اسرهم في القرية واذا عاد احدهم الى القرية يكون محملا بالهدايا وقد تغيرت ملامحه الى الأفضل، وهذا ما كان يجعل « هيثم» يرغب كثيراً في التحرر من فقر القرية والانطلاق نحو الأفضل.
عندما بلغ الطفل « هيثم» الخامسة عشرة من العمر أصر على والده السماح له بالذهاب رفقة أحد شباب القرية الى المدينة للبحث عن عمل ومساعدة الأب قدر المستطاع في إعالة بقية افراد اسرته خصوصاً وان الاب كان يعاني من مرض في العمود الفقري يمنعه من ممارسة أي اعمل مجهد.
وافق الاب بعد ان تعهد له الشاب بحماية نجله من أي مكروه قد يصيبه والوقوف الى جانبه حتى يجد عملاً مناسباً ويتعرف على طبيعة العيش في المدينة.
وقبيل صلاة فجر يوم الاحد غادر هيثم قريته على متن سيارة نقل وظلت عيناه معلقة بمنزلهم، حيث كانت والدته تقف في زاوية السطح وعيناها تجودان بالدموع الحارة فهذه اول مرة تودع فيها الام فلذة كبدها الذاهب الى المجهول ولا تعرف ما الذي ينتظره في المدينة المزدحمة بخليط من البشر وقطع الحديد المتحركة « السيارات» واستمر المشهد بين هيثم ووالدته على هذا الحال حتى اختفت السيارة في منعطف رأس النقيل ليتحول بعد ذلك كل تفكيره نحو المدينة التي تبعد بمسافة نصف يوم.
وصل هيثم إلى المدينة وهناك ابهرته الشوارع المزدحمة والناس الذين هم في عجلة من امرهم، وظل برفقة الشاب الذي قدم معه من القرية حتى حالفه الحظ وتمكن من الحصول على عمل لدى احد الفنادق الشعبية « لوكندة» مقابل أجر زهيد.
أمضى هيثم في هذا العمل بضعة اشهر وتعرف خلال تلك الفترة على عدد من الشباب كانوا يأتون كل مساء للمبيت في الفندق، ومع الأيام نشأت صداقة بين هيثم وهؤلاء الشباب رغم أنهم يكبرونه في السن بسنوات، ثم تطورت علاقة الفتى بالشباب فكان يذهب معهم بعد انتهاء الدوام مساءً ولا يعود الا في وقت متأخر من الليل، وفي أحد الأيام أخذ هيثم راتبه الشهري من صاحب الفندق وحزم حقيبته وذهب بحجة أنه وجد عملا افضل دون أن يتحدث عن نوعية العمل او مكانه.
وطوال فترة عمله في اللوكندة كان على تواصل شبه مستمر مع والده ووالدته في القرية ويبعث لهم بمبلغ مالي بين فترة وأخرى.
لم تمض سوى بضعة ايام على ترك هيثم العمل في الفندق حتى جاءت الاخبار السيئة معلنة مقتله بطلقة نارية في الرأس.
وفي تفاصيل القضية التي رواها الشخص الذي اطلق النار على هيثم فقد كان المجني عليه مارا من احد شوارع المدينة مشيا على الاقدام وكان الجاني وزوجته على متن سيارتهما المتوقفة وسط الزحام منتظرين اشارة المرور لتأذن لهم بالعبور.
في تلك الاثناء كانت الزوجة ممسكة بهاتفها الخلوي الثمين وتجري مكالمة فيما نافذة السيارة مفتوحة ولفت هذا الأمر انتباه هيثم فاقترب من السيارة ثم قام بخطف موبايل المرأة من يدها والفرار مطلقا العنان لساقيه كي تطير به في الاتجاه المعاكس .. صاحت المرأة « سارق سرق تلفوني» حينها ترجل الزوج من سيارته تاركا اياها وسط الشارع ولحق باللص ،الا ان الاخير كان سريعا جدا وعندما تأكد الزوج انه لن يستطيع الامساك باللص قرر الانتقام منه فأخرج سلاحه الناري « المسدس «وصوبه نحو الفتى وأطلق عدة طلقات نارية احداهن اصابته في الرأس وكانت كفيلة بإسقاطه على رصيف الشارع مضرجا بدمائه.
وحينما اقترب منه مطلق النار كان الفتى يلفظ انفاسه الأخيرة وبدأ الناس بالتجمع ولم يعلم الزوج ماذا يعمل وكيف يبرر لهم جريمته واكتفى بالقول انه لص سرق موبايل زوجته ، غير أن المواطنين لم يصدقوه وقاموا باحتجازه وابلاغ دورية الامن.
اثناء التحقيق مع الجاني أخبرهم بالقصة كاملة وقال انه صوب المسدس نحو ساقيا المجني عليه واراد من خلال ذلك ايقافه والامساك به ولم يكن ينوي قتله واستدل على ذلك بأنه لا يعرف المجني عليه معرفة شخصية وليس هناك أي عداوة مسبقة بينهما وانه فقط غضب جراء قيام المجني عليه بسرقة تلفون زوجته.
هذه الاعترافات تكررت في النيابة وايضا في المحكمة ولكن دون فائدة , كون الجاني لم يستطع احضار حتى شاهد واحد كان حاضرا لحظة خطف الموبايل ولم يستطع اثبات تهمة السرقة على المجني عليه لأن دليل الاثبات « الموبايل « لم تجده الشرطة بحوزة المجني عليه او في المكان الذي وقعت فيه الجريمة.
في نهاية المطاف وبعد مضي بضعة اشهر على الجريمة أُقتيد مطلق النار الى السجن بتهمة القتل منتظراً لحظة ظهور «عشماوي» لينقله الى الحياة الأخرى، فيما تم كانت جثة القتيل « هيثم» قد سُلمت لوالده الذي احتضنها بقوة وعاد بها الى القرية لدفنها على مقربة من المنزل.
بعد فترة من الزمن ضبطت الشرطة شابين قاما بسرقة كيس يحوي مبالغ مالية من يد احد المواطنين اثناء خروجه من محل صرافة، وحاول الشابان الفرار على متن دراجة نارية تابعة لهما غير ان الرجل اطلق النار على احدهما واصابه بطلقة في مكان غير قاتل ثم حضرت الشرطة وقامت بضبط الشابين واثناء التحقيق معهما اعترفا بالعمل ضمن شبكة سرقة ونشل وكان المجني عليه « هيثم» احد افراد هذه الشبكة التي اتضح فيما بعد ان قائدها هو ذات الشاب الذي احضر « هيثم» من القرية وتعهد لوالده بحمايته.
بمجرد ان سمع الاب بهذا الامر، قام بالانتقال مباشرة الى المدينة والالتقاء بالاجهزة المختصة في النيابة والمحكمة واخبرهم انه عفا عن قاتل نجله وسامحه على ما فعل محملا المسؤولية الشاب الذي تسبب في مقتل هيثم متهما إياه بانه استدرج نجله من القرية الى المدينة بغرض ضمه الى عصابة السرقة التي يتزعمها.
ومنذ ذلك الوقت والتلفون « مغلقاً أو خارج نطاق التغطية».