د. عرفات الرميمة
مقدمة نظرية :
للثقافة تعريفات متنوعة ومفهومات متعددة تتنوع بتنوع الشعوب والبلدان في كل زمان ومكان . ومعلوم لدينا أن هناك ما يزيد على 160 تعريفا للثقافة وهناك أكثر من زاوية يمكن الاستناد اليها في معالجة مفهومها . ويمكن القول أن مفهوم كلمة ثقافة( Culture) كان ثمرة من ثمار عصر النهضة الأوروبية (Renaissance ) في القرن السادس عشر، وتطور المفهوم الدلالي لتلك الكلمة داخل اللسان الفرنسي عن الأصل اللاتيني وتعني الزراعة والإنماء في الواقع وهي مأخوذة من معنى تعامل الانسان ماديا مع الطبيعة ورعايته لها وامتد معنى الكلمة الى مجال الإنسانيات ، فأصبح يعني العناية بالنفس وقواها العقلية والأخلاقية . ويمكن أن نختصر تعريفات الثقافة المتعددة ومفهوماتها المتنوعة في معنيين أساسيين ، أولهما مأخوذ من تعريفات علماء الاجتماع – خصوصا عالم الاجتماع الامريكي تايلور – وتعني لديهم 🙁 ذلك الكل المعقد الذي يشمل المعرفة والاعتقاد والفن والقانون والأخلاق والعرف وأية قدرات وعادات أخرى يكتسبها الانسان باعتباره فردا في جماعة ) . والمعنى الثاني للثقافة هو معنى خاص ونعني به الثقافة بالمعنى الإنساني الرفيع من خلال صقل الذهن والذوق والسلوك وتنميته وتهذيبه باعتباره منتجا من منتجات العقل الإنساني .
ويؤكد صحة ما أوردناه ، ما ذهب إليه عالما الاجتماع ( ماكيفر ) و( بيدج ) من أن مفهوم الثقافة يشير الى مجمل التراث الاجتماعي للبشرية ، بينما يشير مفهوم ( ثقافة ما ) الى التراث الاجتماعي لمجتمع معيّن .
وبناء على ما سبق يمكن القول إن كل مجتمع في العالم – حتى المجتمعات البدائية منها – تمتلك ثقافة ما وليست حكرا لمجتمع دون أخر ولمدينة دون أخرى ومن يقول بخلاف ذلك هو جاهل ولا يعرف الفرق بين الثقافة والحضارة لان الاخيرة يمكن ان تطلق على شعوب ومجتمعات معينة دون أخرى لانها ترتبط بالحضور في المكان من خلال الاثار المادية التي تقهر الطبيعة عن طريق العلم ، فالحضارة شكل واعِ من الانتاج يعتمد على المخترعات والمكتشفات والصناعات المتنوعة ولا تعتمد على أثر البيئة الطبيعية لوحدها كما هو حال الثقافة ، وإذا كانت الحضارة تعني تهذيب الواقع من خلال الأشياء المادية ، فإن الثقافة هي تهذيب للنفس الإنسانية من خلال العقائد والأخلاق والقيم والأفكار والآداب والفنون ، وكلاهما – الحضارة والثقافة – عمران للنفس وللواقع المعاش ، للفرد وللمجتمع .
ما سبق يمكن أن يوضح لنا جزءاً من ماهية الثقافة وبعضاً من حقيقتها ، باعتبارها نشاطا إنسانيا يرتبط شكلا ومضمونا بماهية الانسان عينه – دون سواه من المخلوقات – بعاداته وتقاليده ، بمأكله ولباسه ، برقصه واحتفالاته ، بتراثه المكون لشخصيته ، بقيمه وسلوكه الصادر عن ثقافة – مكتسبة من البيئة – عدلت الانسان بشكل موازِ لإنتاجه لها ، فهو روحها الذي بعث فيها الحياة وهي الشكل الذي من خلالها يظهر الإنسان روحه الحقة التي تميز بها عن سواه من المخلوقات . للثقافة جسداً وروحاً ، ظاهراً وباطناً ، أما ظاهرها ( جسدها ) فيتمثل بحراك مجتمعي مستمر ومتنوع ، يجمع بين الفعاليات الثقافية المتنوعة من ندوات فكرية وأمسيات أدبية – نثرية وقصصية وشعرية – وقراءات نقدية ومعارض الكتاب والمعارض الفنية ، بالاضافة الى الإصدارات الثقافية المتنوعة – مجلات ، دوريات ، كتب – أضافة الى وجود قاعات المسرح التي تفتح ابوابها للعروض المسرحية بشكل يومي تكون مرآة لهموم المجتمع وتعالج أدوائه من خلال الفن الهادف ودور العرض السينمائي التي تواكب كل جديد على المستوى العالمي .
أما باطن الثقافة ( روحها ) فهي ما استقر في لا شعور الأفراد وعقلهم الجمعي والذي ينعكس من بيئتهم ويتمثل بلباس معين وعادات وتقاليد في البيوت والأسواق تميز كل مجتمع عن غيره في الأفراح والأحزان – احتفالات الأعياد والأعراس ومراسم دفن الموتى – وكذلك شكل خاص في بناء المنازل تميزها عن غيرها.
تطبيق عملي :
ولو حاولنا أن نطبق مفهوم الثقافة السابق على ثقافة تعز ، لوجدنا أن لا شيء يميزها عن غيرها من المدن اليمنية ، بل تميل المقارنة لغير صالحها .
فعلى مستوى الشكل وبمقارنة الفعاليات الثقافية المتنوعة – ونسبة الحضور – والإصدارات الثقافية المقامة في ذمار – على سبيل المثال – وما يقابلها في تعز ، نلاحظ ان لا سبيل للمقارنة على الإطلاق – لصالح ذمار – يمكن أن تسألوا عن الإصدارات الشعرية والقصصية والنثرية في تعز وفي ذمار خلال المدة التي تم فيها إطلاق لفظ عاصمة الثقافة على تعز حتى اليوم .
وعلى مستوى المضمون لا يوجد ما يميز تعز بشكل واضح ، شكل المباني فيها عبارة عن خليط غير متجانس لا هوية له مثل صنعاء القديمة وشبام حضرموت على سبيل المثال . حتى بعض المباني التي وجدت في المدينة القديمة بنيت على نمط العمارة الصنعانية أيام وجود الإمام أحمد فيها واستقرار بعض الأسر المعروفة من صنعاء بحكم ظروف عملهم في الجهاز الاداري للدولة .
وهو ما ينطبق كذلك على شكل ملابس الناس فيها، لاهوية معينة تميز لباس أهل تعز ، بل أخذوا من كل مدينة لباسها- بحكم تواجدهم في كل المدن – نستطيع أن نميز لباس سكان حضرموت وتهامه وصنعاء لان لهم هوية تميز لباسهم حددتها البيئة التي ينتمون لها . وكذلك عادات أبناء تعز في الأفراح والأعياد ودفن الموتى عبارة عن خليط لا يميزهم عن غيرهم . بالإمكان الحديث عن ثقافة حضرموت وتهامه وصنعاء لأن لتلك المدن ما تتفرد به دون غيرها ، أما تعز فلا تتفرد بشيء سوى ادعاء التفرد والتميز وهذا هو مفهوم الثقافة لدى أبنائها . وإذا كان إطلاق لفظ عاصمة الثقافة على تعز بسبب إصدار جريدة الجمهورية (للثقافية) التي استقطبت المثقفين من كل مكان ، فإن السبب قد توقف بتوقف إصدار تلك الجريدة بعد انتفاضة 11 فبراير 2011 والحكم يدور مع العلة وجودا وعدما- كما يقول علماء أصول الدين – وبالتالي لا داعي لاسم قد مات من سُمي به .
وإذا كان إطلاق لفظ الثقافة على تعز كون بعض أبنائها ينطبق عليهم لقب المثقفين ، فذلك لعمري عذر أقبح من الذنب ، لأنهم أصفار على شمال الواقع المعاش فلا دور لهم على الإطلاق ، سوى تخدير الجمهور وتزيف وعيهم بوهم الثقافة .
وإذا كانت الثقافة ترتبط بالذكاء والفطنة كما قال ابن منظور في لسان العرب ( هو غلام لقِنُ ثقِفُ ، أي ذو فطنة وذكاء والمعنى أنه ثابت المعرفة بما يحتاج اليه ) والفطنة في تعريفات الجرجاني هي ( قوة يقع بها التميز بين الأمور الحسنة والقبيحة )
فإن المثقف هو الذكي الفطن ، وإذا كانت الثقافة تعني ايضا الحذق والمهارة كما قال ابن منظور والراغب الأصفهاني وكما جاء في المعجم الوسيط ( ثقف الرجل ثقافة صار حاذقا ) فالمثقف تعني الحاذق الذي يحذق الأمور ويفهمها ،وإذا كان ذلك كذلك يحق لنا أن نسأل : أين ذكاء وفطنة وحذق مثقفي تعز من الحال التي وصلت اليها مدينتهم اليوم ؟ وايضاً مما وقع فيه بعض أبنائها – من أدعياء الثقافة – من أرتمائهم في حضن الغازي والمحتل ووقوفهم ضد جيشهم الوطني واعتباره جيشاً غازيا لأرضه ؟ أين الموقف الطليعي للمثقف العضوي في محاربة الغازي والمحتل ؟ وما هو موقفه من الفكر الإرهابي الاقصائي الذي يتذرع بالمناطقية والمذهبية ؟
لقد أقدم الدواعش على إحراق مكتبة السعيد الثقافية بعد نهب محتوياتها – وهي آخر قلعة من قلاع الثقافة في المدينة – ولم نسمع من مثقفي تعز كلمة إدانة او استنكار لما حصل وذلك دليل على أن السكوت عن الفعل هو نوع من إقراره والموافقة عليه .
إن الثقافة الحقة هي عملية تهذيب للفرد وللمجتمع على السواء تعمل على تقويم الاعوجاج وتهذيبه على جميع المستويات ، الفكرية من خلال تنظيم التفكير واتجاهات النظر للأمور من المنظور العقلي – وليس العاطفي – وتهذيب في النطاق الجمالي على مستوى الفنون والذوق العام وتهذيب في النطاق الأخلاقي على مستوى السلوك والعلاقات والمعاملات .
وأخيرا بإمكاني القول : إن الأفراد – والشعوب كذلك – تبرز الأشياء التي لا تمتلكها وتتفاخر بما ينقصها لا بما تمتلكه وعلى سبيل المثال : – بالنسبة للأفراد : الكاذب يتباهى بصدقة والجبان يتغنى بشجاعته – وبالنسبة للمجتمعات نلاحظ تغني أمريكا بالحرية من خلال تمثال الحرية فقط لا من خلال إيمانها وتطبيقها لمفهوم الحرية لجميع شعوب الارض ، وأقواس النصر التي شيدها صدام حسين – بعد هزيمته في ام المعارك – ما هي الا ترجمة لما قلناه من أن الشعوب تتباهى بما ينقصها لا بما تمتلكه . وتباهي الأتعوز بالثقافة هي خير دليل على ما قلناه .