الغربي عمران
جرت العادة بين أعضاء نادي القصة.. أن يقرأوا كتابات بعضهم البعض في مسوداتها الأولى .. لخط الملاحظات.. والاستفادة في آن. وبدوري قرأت مخطوطة “مجدلية الياسمين” التي أدهشتني من صفحاتها الأولى. ففي الوقت الذي شحذت في قلمي لتدوين ما أراه من تصويبات.. أجدني أنساق في قراءتها حتى الصفحة الأخيرة دون توقف وقد تركت قلمي جانبا.
نعم هو العمل السردي الأول للقوطاري ثابت. والمصنف على غلافه “رواية سيرية” وأجده موفقا في ذلك التصنيف.. إذ أن المجدلية سيرة على بساط الخيال .
وسبق أن حضرنا له مداخلات في أكثر من عمل سردي وشعري في ندوات نادي القصة بصنعاء.. وقرأنا له تحقيقا للـ “الرسالة المفيدة في إيضاح ملغز القصيدة. شرح قصيدة ابن سيناء في النفس ” للداعي علي بن محمد بن الوليد.. وذلك التحقيق وما يشارك به في الندوات والقراءات النقدية جعله في اطلاع دائم.. مكنه من تجاوز هنات البدايات إلى أن يقدم للمشهد عملاً يمكننا أن نصفه بالممتع.
وسأتجاوز العتبات إلى الدخول إلى فصول مجدلين.. هي: أنا وصخرة سيزيف.. الأبجدية المتأخرة.. قوارير مشتعلة.. سجن بمساحة السماء. تلك العناوين لم تأت إلا فاتحة لما تضمنته. فصخرة سيزيف هي المخطوطة التي أوصى جده بها له. وأبجدية متأخرة تلك الحياة المتداخلة ومراحل التعليم والعلاقات بين أفراد المجتمع. وقوارير مشتعلة.. تجاربه الشخصية العاطفية .. والانغماس في متاهة الغواية اللذيذة وسجن بمساحة السماء.. يعبر عن ذلك الحوار مع الحياة.. والشوق إلى يوم اللقاء بجد مثل له مكانة لا يسدها أحد حتى يوم اللقاء.. إن كان من لقاء.
بدوري كقارئ.. أحاور النص ..على اعتبار أن القارئ أهم ضلع في العملية الإبداعية.. صحيح أن الكاتب يأتي في التراتبية الأول ثم النص يأتي الثاني.. ثم المتلقي. لكني أرى بأن القارئ من حيث الأهمية التفاعلية بين الثلاثة الأضلاع يأتي في البداية.. ثم النص ثم الكاتب. وأدلل على ذلك بالبذرة .. فلولاها لما كانت النبتة.. لكن من أعطى النبتة معنى لوجودها.. بجذورها وساقها وفروعها وأوراقها وزهورها وثمارها.. أليس المتلقي.. لو كانت هناك نبتة ولا يوجد متلق هل لوجودها معنى.
إذاً القارئ هو من يعطي النص معناه ودلائله وما يجنح إليه من إيحاءات.. القارئ هو صانع النصوص الموازية لذلك النص.. فبعدد قراءة تأتي المعنى وتستنبط الدلالات .. المتلقي هو الأهم بين الثلاثة العناصر.. وأما البذرة فقد فنيت “الكاتب”. وتبقى النص والنصوص المتخيلة بعدد قراءه.
في مجدلية الياسمين تركت نفسي أتخيل ما يمكن أن يتخيله عشرات القراء.. إذاً هو النص الفارق .. أيضا من يتيح المجال لخلق عشرات بل آلاف النصوص .. ومجدلية الياسمين من تلك النصوص .هذا العمل المفاجأة الذي يقدم لنا السرد الساخر كما ينبغي له. خاصة وساحتنا تفتقر لكتاب السرد الساخر.. بعد أن توقف أهم قلمين في اليمن الرازحي والقعود عن مداعبة السخرية.
يتعارك الراوي مع جده من خلال سطور المخطوطة بادئا بأول صفحاتها التي تذكر ميلاد “ضياء” مشيرة إلى أن ضياء هو الراوي حفيد الجد الراحل. ذلك المولد الذي حفته أجواء احتفالية باذخة.. كأنه أمير ينتظره العرش.. فهذه العطور وهذه الملابس وتلك البخور.. وعشرات الذبائح. وما أن يغلق المخطوطة متسائلا .. عما ذكره جده “جدي يتحدث في مخطوطته عن حفيد أسطوري..مثالي إلى درجة النبوة..لا أعتقد بأنه يقصدني”. وهكذا يأتي الراوي بما يناقض ما جاء في المخطوطة موضحا أجواء القرية وحالة أسرته كأي أسرة ريفية .. ويستمر بين فينة وأخرى يتلو علينا ما جاء في المخطوطة.. ثم يعلو صوت احتجاجه ..مؤكدا أن جده لا يعنيه مدللا بحياته البسيطة بين أقرانه حين كانوا لصوصا صغار يمارسون سرقة الثمار والدجاج.. وحين يتشاجرون على غنائمهم.. بينما المخطوطة تذكر حياة أخرى لصبي مرفه تعلم على يدي فقهاء كبار.. كما تصفه بالصبي النبيل الورع. وتصفه كسوته وأسلوب تعامله.
مسحة السخرية جعلت السرد في مجدلية الياسمين شيق.. بل وتلك الأحداث المتلاحقة أحداث تمنح القارئ شعورا بالدهشة.. فذلك الذي تصفه المخطوطة بنابغة العلم والورع.. نجده يسرد لحبيبته حياته أثناء الدراسة الجامعية.. كأي شاب يبحث عن الحب والمغامرات فيصادق زميلته الغيورة “دلال” ويذهب معا رانيا لممارسة ما ينبغي في إحدى قاعات الكلية .. لتفضحهم فاطمة الفراشة.. ثم إلى أحد دور اللذة .. ليغوصا في بحيرات اللذة.
مجدلية الياسمين بذلك تكشف لنا حياة الشباب في مجتمع يعيش أفراده على الكبت وزيف ما يظهرون.. لترفع إلى سطح الحكي حياة طبيعية من حب وإغواء . وعلم وفن.
تلك الجرأة التي تتصف بها مجدلية الياسمين .. جرأة الغوص في أعماق المجتمع.. بداية من “صعفان” حيث شوامخ اليمن..فيها يتعايش أكثر من تيار مذهبي.. ولها تشهد كتب التاريخ عن احتضان أحداث جسام فكرية وسياسية واجتماعية يقدمها لنا الراوي بشكل سريع .. ثم حياة ينتقل إلى حياة المدينة وتلك العلاقات العاطفية في مجتمع لا يزال ينظر إلى العواطف بريبة وخوف.. فما بالنا بتلك العلاقات التي يحكم عليها بالكفر والمروق عن الدين .
إضافة إلى تلك المشاعر التي قدمها الكاتب بلغة آسرة تتدفق بينه وبين أقرانه.. مع البيئة من حجر وغيم وشجر وسماء وجبال ووديان.. لغة يجيد الإمساك بدفتها. حين كانت تسير عيناي بين أسطر مجدلية الياسمين أدركت كم هذا العمل مغوي.. وكم كاتبه يحمل جينة المبدعين الكبار.. فتلك الألاعيب الفنية في سرد الأحداث .. بالخلط بين ما دونه جده الراحل في مخطوطته.. وذلك الخطاب الموجه إلى أنثى هي الكمال دون أن يكون لها اسم .. وذلك الحوار التنامي بينه وبين جده عبر المخطوطة.. وفوق ذلك من كان يحاور الكاتب.. هل حبيبه دون اسم .. وهي في تصوري كل النساء وقد يكون الوطن .. أم المخطوطة أم جده..أم نفسه أم أنه كان يخاطب القارئ.
الحياة العائلية.. المدهش أيضا اصطحاب الكاتب لقرائه عبر تلك العلاقات العائلية الحميمة التي يمتاز بها المجتمع الشرقي بين أفراد الأسرة ليس الصغيرة فحسب بل الأسرة الكبيرة التي تتجاوز لتشمل كل سكان القرية في الريف.. أو الحي في المدينة.
وفوق ذلك أورد ذكريات عاشها مع أصدقاء.. ولم يكتف بظاهر الحكاية بل أرانا الوجه الآخر لمشاعر الراوي تلك التي لا يشعر بها غيره.
كثيرون هم خريجو أقسام اللغة العربية والقلة من يجيد استخدامها.. إذ لا يكفي أن تدرس اللغة لكي تكون كاتبا.. فما بالك بمبدع.. وكاتبنا لديه عشق للغة.. كما ساعده ذلك العشق على استخدامها بشكل رشيق .. يعرف اختيار المفردات ..كما يجيد تراكيب الجمل اللافتة.. ولذلك نجد وصفه للطبيعة والمشاعر سلساً .. وتجسيده للشخصيات بلغة حميمة آسرة.. وما هذا العمل بداية بعنوانه ونهاية بالصفحة 152 إلى بوح وجداني آسر.. وشدو سردي وظف فيه قدرته على نسج رسالة إلى من أحب .. فجعل من مخطوطة جدة ابتكاراً لمناجاتها.. ووظف عاطفته نحو فقد جده لسامرتها.. وما وصف تلك العلاقات الحميمة مع زميلات الدرس إلا منادمة لها.. وتقديمه لبهجة الريف وتلك الأضرحة إلا صلوات في محرابها. بذلك أستخدم اللغة كما يجب في تقديم أوراق اعتماده ليس للقارئ فحسب بل لمن يهفو إليها قلبه. هي رسالة باذخة المشاعر تصلح لأن تكون لأنثى ,وأن تكون للوطن في آن.. وأن تكون لقيم النبل والجمال والحرية أيضا.
“أنا لست ضياء ولن أكونه.. ضياء شخصية ورقية.. اخترعتها أنت..وإن صنعها حقا فهي أشبه بدمية بلاستيكية .. الحياة هنا مختلفة, الحياة الورقية أشبه بالموت السريري لا أشتهيها حتى وان كانت ملاذي الآمن من كل هذا العبث والموت والرماد”. هذا ما يخطه الرواية في نهاية عمله.. وهو يناجي جده رافضا تلك الحياة التي تمناها لها عن حب وهو يخط تلك المخطوطة التي أوصى بأن تسلم له بعد موته “للحياة باب آخر ل تعرفه, باب مثل الغيمة حبلى بالألوان والعطر والأنثى التي لم تجيء إلى اللحظ. لن أكتب سيرتي.. فما زلت أمتلك من العقل ما يردني عن مثل هذا الانتحار”. هكذا في الأسطر الأخيرة يناجي جده بمحبه فائقة.. “أنا مضطرب بفعل مخطوطك الصغير الذي أدمنته.. توقف في مرحلة لم أستطع إكمالها.. لأنك عجزت عن صناعتي كما تشتهي.. سأكون كما أشتهي أنا, لن أكون أنت ولن أكون ضياء “. ليرفض إلا أن يعيش الواقع ذاته دون الأماني الطيبة التي سطرها له جده.
بهذا العمل المطعم بالسخرية.. بالعاطفة الجياشة.. بالخيال الآسر.. بقدرة اللغة على تقديم ما نحب ونعشق.. قدم الكاتب أوراق اعتماده كسفير فوق العادة.. الأستاذ ثابت القوطاري. الإنسان الفنان. الذي لم ينس حتى تلك العلاقة التي ينسجها مع من حوله.. حتى طلابه الصغار الذين أفسح لهم في رسالته هذه مساحة كمعلم ذا ذهن صادق ومتجدد.. وقد رثى أحد طلابه في صفحات مبكية . فكما يجيد السخرية يجيد نقيضها.وهذه صفات المبدع الموهوب.
Next Post