المرامي وألق القصة الساخرة

الغربي عمران
قرأت ثابت المرامي وجدانيات كثيرة وخواطر شتى.. أيضا له عدد من مقالات تقديم وتلخيص بعض الكتب.. وكذلك قراءات في أعمال سردية . كما نشاركه نشوته حينما يشترك في نقاش خاصة إذا ما أتصل ذلك بتخصصه علم الاجتماع.. ودوما في مشاركاته يحاول تقديم الجديد.
في هذه الأسطر القليلة نتحدث اليوم عن نصوص قصصية للمرامي.. أعلم بأن ذلك لا يعجبه.. فكثيرا ما يرفض الحديث حول ما له صله به.. أو يطلب منه أن يكون على منبر المحاضرة .. وأتذكر مرة عرضت عليه أن نخصص له ندوة يحدثنا عن تجربته .. فرفض بشدة.. وأراني اليوم لا علي أستأذنه . وعذري أنني لا أتكلم عن شخصه رغم ما بهذه الشخصية من ثراء وجمال إنساني رائع. بل سأتحدث عن نص قصصي له بعنوان “زيارة مفاجئة ” ونص آخر بعنوان “خالي..!”
نصان مثلا لي مفاجأة بعد قراءتهما .. فهاهو كما يجيد مقاربة نصوص غيرية يكتب أيضا النص القصصي المتماسك والمتجدد . وأجزم بأن من يكتب بمثل هذا الإتقان سيكون لمجموعته الأولى صدى ايجابي متى صدرت.
أبدأ بنص “زيارة مفاجئة” نص حواري بامتياز إذ أن شخصا يحدث وردة. ذلك الحوار الذي يتحول بين ذكر وأنثى.. ما يدلل على علاقة مستترة .. حين يتحدثان بحميمة ممزوجة بعتب شذي. ولم يكن حوارا سطحيا .. أو بلغة الوجد كما هي عادة ما نقرأها في القصص المتاحة بين المحبين.. بل حوار عميق .. يتعرض لجوانب الأخلاق .. والنظرة إلى الوجود دون خطاب تقريري أو مباشر.. ومن عمقه يكاد القارئ تمييز ثقافة وثوابت المتحدث..وكذلك روحه الشابة.. دون أن يشير الكاتب إلى سنهما ووضعهم الاجتماعي أو التعليمي أو الاقتصادي.. فقط حوار يوحي بكيوننتهما. بل ويشعر بأنه يرى هيئتهما وملامحهما.. وهذا بحد ذاته إبداع أن نرى الكائن دون وصف.
ومن الجملة الأولى “وضع رأسه بين ورود حديقة المشفى” يذهب بنا الخيال متصورا المتحدث وحيدا مريضا متعبا .. وإلا لماذا يلجأ لورد شجيرات المشفى كي يضع رأسه.. لنتساءل: هل هو مريض؟ ولماذا لا أحد حوله .. هل المستشفى للأمراض النفسية ؟ ثم تأتي جملا أخرى ومنها “همست له: يا لهذا الشكل الغريب .. عينان يشوبها سهر.. تعب. ووجه مثقل بالوجع والمعاناة . محزن ما أنت فيه”. بعد هذه البداية سيتبادر إلى ذهن القارئ لأول مرة سؤال :من التي همست له؟.. فتاة ؟ ليكتشف مع جمل تالية أن الكاتب قد جعل المتحدثة وردة.. نعم وردة يعرف الراوي شذاها وينتشي لمرآها . ولم يكتف الكاتب بأن جعل الوردة تتحدث إلى الراوي.. بل جعلها تجلس إلى جواره على مقعد حديقة المشفى. هنا علينا أن نقف لنتأمل أو نستحضر مدى خيال الكاتب في أن يقدم لنا حكاية ممتعة مازجا بين أنسنة الوردة وبين رمزية الأنثى الوردة.. كما لدى كثير من الكتاب حين يزيلوا الفواصل بين الكينونات .. وأشهرهم الشاعر الراحل نزار قباني الذي دمج المرأة بالوطن حتى لكأن القارئ يقرأ الوطن في المرأة.. والمرأة في الوطن في أشعاره.
كاتبنا المرامي.. في هذا النص يبرز أسلوبه.. ونحن نعرف أن الأسلوب هو الكاتب.. هو الإبداع.. إذ أن المضمون مهم .. لكنه الكيف من يقدم المضمون أو الفكرة .. والكيف هو الأسلوب .. فإذا ظل الكاتب يكتب مقلدا أسلوب غيره فسيظل كاتباً دون تميز دون نكهة دون بصمة.. كما العطر الذي يشبه غيره في شذاه وبذلك ينتفي التميز عنه.
وندع التقنيات التي نتبع أو نخطط لنصوصنا قبل كتابتها ..فالتقنيات ملكنا جميعاً.. أم الأسلوب من المعيب أن لا يكون لكاتب أسلوبه الخاص ويرى فيما ينتجه إبداعاً. فالمرامي من خلال هذا النص والنص التالي يتجلى أسلوبه معلنا عن كاتب مبدع.
إذاً الحوار يدور بين الوردة المرأة وذلك المُتْعَب الحزين. يسألها إن كانت تشمت به.. فتأكد بأنها جاءت خصيصا لهذا الغرض. وبعد نقاش قصير يناديها باطلاق اسمها”ألفت” وفي ذكر اسم لها استطاع أن يسير بالقارئ على شفة تفصل وقد لا تفصل بين الوردة والمرأة.. بين ماهو خيال فنتازي.. وما هو خيال ينطلق من الواقع.
يستمر الحوار معاتبا قسوتها.. فترد عليه بأن قسوتها ردة فعل لكذبه وادعائه.. تتصاعد المفردات الجارحة.. ليتحول القارئ إلى قاض والتقصي عن الجلاد ومن الضحية.. ومع توغلنا في تصاعد حدة الحوار تتبرعم مزيداً من الأسئلة.. ليدهشنا عدم التصنع والمداهنة.. ومن قلب تلك الاتهامات تتطاير مؤشرات ود قديم.. عتب يكشف عبق ماضٍ من الود.
وهكذا يستمر العتب.. حوار يتماس مع فلسفة عميقة لمعنى العاطفة التي نهجها الصدق.. لتتماس بأعماق الشخصيتين قيم ومفاهيم إنسانية سامية.. يستمر حوار الاختلاف الشيق بعيدا عن تلك الحوارات السطحية التي ألفناه في قصص أخرى.. بل أن الحوار ينتقل بتأثيره إلى القارئ.. لتنتهي القصة برحيل المرأة الوردة تاركة الراوي لوحدته وآلامه.
القصة الثانية بعنوان “خالي..!” وفيها يختلف أسلوب الكاتب عن سابقتها كثيرا.. بل ويبتعد عن أجواء الوجع والوحدة.. حيث يدعونا ومن أول جملة إلى البهجة “قالها وقلوبنا تنبض فرحا: سنبدأ التخزينة في الطريق ثم نكملها عندي في البيت. لكن بشرط.. أن نأكل حلاوة مضروب قبل التخزينة. أصدقه في كل ما يقول خاصة التخزينة وما يتصل بها” هنا نجد أن الكاتب قد بدأ نصه دون تمهيد.. لنشعر بأنا نعيش مشهدا حياتياً مجتزأ الواقع.. بمفردات اللهجة الدارجة .. وأجواء الأسرة التي ترافقنا حتى نقترب من النهاية بنفس المرح والسخرية التي لم نلحظها في النص السابق.
يذكرنا المرامي بكتابته الساخرة.. بقلة من الكتاب على مستوى الوطن العربي.. أمثال محمود السعدني.. فالإبداع الساخر لا يجيده إلا القلة وفي اليمن هناك عبدالكريم الرازحي ومحمد القعود.. والفن الساخر صعب المنال.. والمرامي في هذا النص استطاع أن يثبت بأن عنده قدرة على أن يكون أحد المبدعين في وطننا. فهو يجيد رسم المشاهد الساخرة والمبهجة.
في نص”خالي..! ” يرسم لنا الراوي تلك العلاقة بينه وبين خاله الريفي .. الذي يعيش الحياة بتلقائية ومرح.. ناشرا حوله ألوان الفرح على ملامح من حوله بصدقه ودون تصنع .. ومن بداية النص ينسج المرامي النشوة بخيوط غير مرئية لتلك العلاقة بين الراوي وأمه وبأبيه.. وكذلك تلك الرغبة الجارفة لإنشاء علاقات عاطفية مع الفتيات.. لكن الفشل حليفه دائما.. وكثيرا ماكان يتمنى امتلاك حس خاله “أخو أمه” الساخر.. الذي يثير إعجاب من حوله من نساء بخفة دمه ودماثة طبعه وكرمه. تلك التلقائية الساحرة التي ميزته.. ليست تلقائية البليد .. أو المتصنع .. بل تلقائية المدرك والواعي باختلافه وتميزه حين ينشر السعادة أينما حل.
ينسج الراوي مشاهد خروجه من ذمار باتجاه القرية.. يقود سيارة والده وإلى جواره خاله المرح وكذلك أمه.. للمشاركة في حصاد المحاصيل الزراعية.. وبطول الطريق التي يعرف القارئ بمسميات تلك القرى التي يمرون بالقرب منها.. وكذلك الجبال والوديان.. ودوما بأوصاف مضحكة.. وخلال الرحلة يظل ذلك الخال يتنفس ما يضحكهم .. تارة يخرج رأسه من نافذة السيارة مغنيا بصوت شجي ” اثنين نهود والحرب بينهن بين.. اطرح يدك ما بينهن يسدين…” يعود برأسه يشاركهم الحديث المرح يواصل سخريته .. وفجأة يرفع صوته يغني للفضاء “يالليل خبرني بأمر المعانة…” ويظل يصدح حتى يصلوا القرية.. لتقف السيارة الساحة أمام منزله .. حينها يهبط متمايلا براقصة المزمار وهو يردد “وأنا مارق مريت جنب أبواب البيت.. بيت اللي كانوا قدامو. قالوا من نسيت.. لفاااااطمة حنيت” يتجمع الجيران في سعادة يتابعو رقصته.. لا يأبه لهم يظل يترنم مناديا لزوجته وهو يتمايل.
وكلما وصف الراوي تصرفات خالة المرحة.. وهو يرقب الجميع معجب وسعيد به.. خاصة الفتيات يتمنى لو كان يملك ولو بعض جرأته وسخريته.. حتى ينال إعجاب فتيات القرية.
هكذا يعيش القارئ متعة روح تشارك ذلك الخال ومن حوله السعادة التي يصنعها أينما حل.. في كل كلمة وكل حركة يقوم بها.
لكننا نفاجئ بالراوي يعود لواقع مرير.. ولم يكن كلما سرده عن خاله إلى ذكرى.. هطلت على ذاكرته لحظة وقوفه في ساحة القرية أمام بيت خاله وهو يردد “ياااااارباه ..هذا أنا أقف الآن في نفس المكان.. اسمع كثيراً من الأصوات لكنها ليست ضحكات.. بل نشيج تدمع له الأرض والأحجار… ها هي سنة تمضي وروحه الساخرة تحلق في المكان.. ومزحاته معلقة على جدران بيته ..بل وعلى جدران كل بيوت القرية”
تلك هي النهاية التي تثير في روح القارئ الإحساس بالحزن والفاجعة التي أرادها الكاتب.. وظل واقفا بكلمات دامعة يرثي خاله..الذي ترك الحياة فاقدة المرح .. وأغانيه .. ورقصاته.. حين كانت تستقبله زوجته التي يتغزل بها أمام الناس.. ويغني لها بصوت صادق.
هو نص شجي .. يبدأ بفرح غامر وينتهي بانطفاء الفرح.. أستطاع الكاتب أن يقدم مشاهد غاية في السخرية وباللهجة الدارجة ما أضفى صدقا فنيا رائعا.. ملتقطا فكرته مما يعيشه ليحلق بنا بأحداث لا ينقصها الخيال.. ولذلك يشعر القارئ بأن ذلك الخال.. وأنه ذلك الراوي التواق للحياة والحب والفرح مهما إلا نحن.. كل فرد فينا ذلك الخال إن أراد.
بتلك النصوص وما تحمله من مضامين صادقة.. بل وذلك الأسلوب المختلف بين النص الأول والثاني .. وهي أساليب تحسب للكاتب.. وتبشر بكاتب كبير.. أجزم بأن ميلاده في القصة قد حدث.. فهو يكتبها بوعي ودراية بفنوانها.. لم أكن لأكتب لولا أن تلك النصوص قد دعتني لمجالستها.. بل والتبشير بموهبة سردية حقيقية.

قد يعجبك ايضا