رحلة مع روائي

قالوا عن «تولستوي» إنه «أكبر الروائيين في جميع الأزمنة». وحار النقّاد في المفاضلة بينه وبين عملاق الأدب الروسي الآخر «دوستويفسكي». الكاتب والناقد الأدبي الفرنسي «دومينيك فرنانديز» الذي خصّ روسيا وأدبها بالكثير من دراساته يصطحب قارئه في رحلة «مع تولستوي»، كما جاء في عنوان كتابه الأخير.
على مستوى سيرة حياة تولستوي يرى مؤلف هذا الكتاب أنها عرفت عدة مراحل متتالية. الأولى تمثلت في طفولة هادئة وجميلة تلاها «عقدان من السنوات الرهيبة»، كما اعترف تولستوي نفسه، حيث عرفت تلك الفترة سنوات الفوضى في حياته والحرب على الصعيد العام. وبعد ذلك عقدان آخران من «حياة الأسرة الشريفة والمنتظمة، بهدوء»، وخلال هذه الفترة كتب أشهر أعماله. المرحلة الأخيرة من حياة تولستوي يحددها المؤلف بعد بلوغه الخمسين من العمر. وتميّزت هذه الفترة بحالة من «التمرّد» التي عاشها الروائي الكبير ضد كل ما كان يحيط به، بل وصلت اهتماماته الرئيسة التي لم يكن أقلّها الأدب والفن. هذا إلى جانب تمرّده ضد مظاهر الثروة والمال والنظام القائم. وهو الذي كان يملك 2000 هكتار من الأرض والعديد من الحشم والخدم.
لقد قرأ دومينيك فرنانديز أعمال تولستوي كلها «من جديد»، وب«عين جديدة»، كما يقول. وذلك دون أفكار وأحكام مسبقة، واكتشف فيه «كاتبا مناضلا» و«أحد الأوائل الذين شجبوا ويلات الحرب». وخاصة الحرب الشيشانية لعام 1850، والتي وصفها بأنها ظالمة وقاسية. ولم يتردد في توجيه النقد العنيف للنظام القضائي ولعالم السجون وللمظالم الاجتماعية ولتجاوزات السلطة ولانحرافات الكنيسة.
إن الكتابة عن تولستوي وسيرة حياته تقتضي بالضرورة التعرض لمعاصره ومنافسه على القمة الأدبية دوستويفسكي. وهذا في فصل من الكتاب يحمل عنوان: «دو ستويفسكي أم تولستوي؟». ومقابل الشخصية «المضطربة» وحالات الانفعال التي تصل أحيانا إلى حد «الهذيان» عند دوستويفسكي، يرسم مؤلف هذا الكتاب لتولستوي صورة الرجل الهادئ و«الموزون» والمتعقّل في أحكامه وفي تصرفاته.
وفي معرض المقارنة بين رواية دوستويفسكي الشهيرة «الاخوة كارامازوف» ورائعة تولستوي «الحرب والسلام»، يعتبر المؤلف الأولى أنها ترسم عالم الحالات «المتطرّفة» التي عاشها كل من الأخوة الثلاثة في ما يعتقد بأنه الصحيح وذلك على طريقة «التراجيديات» اليونانية القديمة. ولم يتردد في القول عن «الحرب والسلام» لتولستوي أنها: «الرواية الأكثر كمالاً التي تمت كتابتها حتى الآن». وفي الوقت الذي أراد فيه دوستويفسكي أن ينقذ العالم من «الصغارة» جعل تولستوي من هذا العالم مادة أعماله.
والتوصيف الذي يمكن تقديمه لهذا الكتاب الخاص بسيرة حياة تولستوي هو أنه أكثر بكثير من مجرّد سيرة. ذلك أنه يشابه إلى حد كبير رحلة في حياة هذا العملاق الكبير وفي مختلف أعماله.
ذلك أن المؤلف يرسم عوالم روائعه الشهيرة وفي مقدمتها «الحرب والسلام» و«آنا كارنينا»، ولكنه يغوص أيضاً في عشرات القصص القصيرة والدراسات التي تتعرّض لمختلف جوانب المغامرة الإنسانية. ويرى المؤلف أن هناك محورين أساسيين دارت حولهما اهتمامات تولستوي وهما الحب والموت.
ومن خلال اهتمامات تولستوي وكونيتها، بمعنى عدم تحديدها في مكان وزمان، يؤكد المؤلف على «عدم المحدودية الزمانية» لأعماله، كما جاء في عنوان فصل آخر من الكتاب. بل ولا يتردد في القول إنه يبدو ك«معاصر» لنا. وتتم الإشارة هنا إلى أن معاصري تولستوي انقسموا حول شخصيته بين من اعتبره من «القديسين» وبين من رأى فيه «شيطاناً».
ويقارن المؤلف في أحد الفصول هذا الكتاب تحت عنوان «بلزاك وتولستوي» بين الروائي الروسي والأدباء الفرنسيين الكبار من معاصريه. ويقول عن رواية «البعث» ما يمكن أن يلخص آراءه في هذا الموضوع. إذ «نقرأ» عن هذا العمل: «تصوروا كتابات اميل زولا، فكتابة تولستوي تعادلها قوّة وفيها من الفن ألف مرة أكثر. لكن تصوروا زولا وهو يغمس ريشته بالحبر الذي يكتب فيه فلوبير». اميل زولا هو صاحب رواية «جيرمنال» و«السمفونية الرعوية» وغيرها، وفلوبير هو مبدع «مدام بوفاري».
لكن لا بد من القول إن دومينيك فرنانديز، مؤلف هذا الكتاب، لا يكيل لتولستوي المديح فقط. وها هو في معرض حديثه عن رواية «الحرب والسلام» التي يقول إن «صفحاتها الألفين قليلة بالنسبة لبلاد تبلغ مساحتها أكثر من 17 مليون متر مربّع».
ثمّ يتوقف كي يصدر حكما نقديا واضحا على موضوع سيرته. إذ يرى أن تولستوي يقوم بخرق القانون الذي كان هو نفسه قد أسهم في صنعه. وأنه «يُقحم آراءه الشخصية» في عمله الروائي، ويستخدم الكثير من المرجعيات التاريخية والفلسفية المتحيّزة لوجهة نظره. ويصل المؤلف إلى القول عن رواية «الحرب والسلام» إن القارئ «يعتقد أحياناً بأنه بصدد قراءة رواية عن الحرب السوفييتية».
ونقرأ في إحدى الجمل النهائية، الختامية، في هذا الكتاب أنه «لم تكن هناك ازدواجية لدى تولستوي». لكن الشخص كان مأخوذاً بالبحث عن الحقيقة والعدالة والخير، ما دفعه بالوقت نفسه إلى طلب المجد الأدبي والكمال الداخلي. أي ما مثّل «عبقرية مزدوجة» بامتياز.

قد يعجبك ايضا