صلوات ما بعد هطول المطر
أمطرت السماء أخيرا ماء زلالا بعد أن كانت كأختها الأرض تمطران دما وقتلى وجرحى. كانت السماء تدري أن حربا طاحنة تدور في هذا البلد فتأخرت عن موعدها انتظارا لانتهاء أصوات الصواريخ والمدافع لكنها بعد أن تيقنت أن الحرب لن تنتهي أشفقت على الأشجار بعد أن تساقطت أوراقها الخضراء في ذروة الربيع وعلى العصافير بعد أن هاجرت بحثا عن قطرات من الماء بعيدا عن المدن المبتلاة بالحرب والدمار. لم يكن مفاجئا ولا غريبا أن يخرج الناس إلى الشوارع والسماء تمطر ليغسلوا أجسادهم وأثوابهم وحبذا لو غسلوا قلوبهم وغسلوا عقولهم أيضا. لقد خرج الأطفال يجرجرون أقدامهم العارية في البرك الصغيرة التي أحدثها المطر في أكثر من شارع وحارة. كانوا يعكسون فرحة آبائهم بالمطر بوصفه بديلا عن ربيع لم تتفتح فيه القلوب والزهور ويستعيد فيه المكان قدرته على التنفس واستنشاق هواء تنقيه الأمطار من شوائب القاذفات وغبار العوادم.
الحرب في هذه البلاد ما تزال دائرة والاقتتال ما يزال قائما على قدم وساق لكن لا أحد ينكر أن ساعات هطول المطر كانت نادرة وباعثة على البهجة المؤقتة بهجة يستعيد فيها الإنسان ثقته بالسماء وبأنها لن توقف تواصلها مع الأرض رغم ما يدور على هذه الأخيرة من معارك وما يسيل عليها من دماء وما يعتري بعض أبنائها من خداع للنفس ومن تنكر لما حولهم من مظاهر الجمال ابتداء من ضوء الشمس في النهار إلى لمعان النجوم في الليل. وربما شد القلوب والعيون أكثر من أي شيء آخر “قوس قزح” بألوانه الكثيرة التي ترسم للإنسانية طريقها في التعددية وتنوع الألوان وما ينتج عن هذه التعددية من تنوع في الآراء تودي حتما إلى العثور على الحقيقة الضائعة من خلال ما تحمله تلك الآراء التي تبدو مختلفة وهي ليست كذلك دائما ويشغلها شيء واحد هو الوصول إلى ما يضمن للجميع الأمن والحرية والاستقرار.
كانت هذه البلاد الطيبة قد شهدت قبل سنوات قليلة ما يمكن اعتباره تطبيقا عمليا لشعار “دع كل الزهور تتفتح” وقبل ذلك بسنوات كانت البلاد قد شهدت نهوضا مدهشا في الفن التشكيلي بمدارسه المختلفة من واقعية ورومانسية وسوريالية وكانت مواسم الأمطار في الربيع والصيف مناسبة تشد إليها مشاعر أبرز الفنانين لاصطياد المناظر الطبيعية والتقاط ايقاعاتها في لوحات يضيفون إليها من أحاسيسهم ما يجعلها تخلب الحواس وتؤكد أن هذا الفن في بلادنا يسير نحو الاكتمال بسرعة الضوء. ولاشك أن الحرب صدمتهم وشكلت عائقا كبيرا دون التعبير عن تطلعاتهم وطموحاتهم وأن لون الدم لا يوحي سوى بمخاوف الأطفال وأنين الحزانى والجوعى والثكالى والألم وإنتاج لوحات يجرح النفس المجروحة أصلا ولهذا لا لوم على الفنان إذا تعثرت ريشته واهتزت يده.
وكان واضحا منذ قرون وقرون أن الحرب فاحشة وذلك هو الوصف الذي يليق بها فقد أسقطت الحضارات ودمرت العمران وهي التي هزمت البدايات الجميلة في الإبداع وجعلت المطر يتردد عن الهطول. ولعل أخشى ما يخشاه العقلاء في هذا البلد أنه إذا ما استمرت الحرب وتواصل الاقتتال بين الإخوة الأعداء أن يتغلب الثالوث البغيض الجهل والفقر والتخلف الذي ظنا أنه ذهب إلى غير رجعة وليس في إمكانه أن يعود. أن يصاب بانتكاسة تاريخية تشبه في أوضاعها ومخرجاتها ما كان عليه .
تأملات شعرية:
ليت أن المطرú.
بعد أن غسل الأرض
ليغسل بالقطرات الندية
ما حملته من الموبقات
قلوب البشرú.
يقتلون بلا رحمة
يكذبون بلا وازع
ليت أن لهم بعض ما اكتسبته
العصافير من حكمة
بعض ما اكتسبته البقرú.