الهوية بين الحلم والتاريخ
هشام علي
يقول ميشل إن عدن التي يعرفها لم تعد نفسها اخذت تبرز فيها صراعات الهويات فمع الاتحاد الفيدرالي سوف تضيق عدنية عدن .. ولا أدري أن هذا الاتحاد قد يعزز النهج العدني لكن متى كان لعدن من قبل نهج تمضي عليه¿ ألم تكن مقصدا لكل من ليس له منهج أو طريق¿.
ازداد الصراع شدة وأخذ صراع الهويات شكلا اكثر عنفا فلم يعد الصراع يكتفي بسيادة هوية ما ولكنه يقوم بنفيها أو القضاء عليها وهذا ما حلمت به (ماما) في حلمها الأخير بعد حلم الملكة كان هناك طائر يطير ترافقه سكين بدون يد تمسك بها كلما هوت السكين في الفضاء التقطها لتواصل مرافقته.
السكين تقوت وانتصبت وفي الأخير اغتاظت وبقيت تلتف حوله بسخط رأيتها وقد انغرست بعدها في رقبة الطائر الذي بقي يطير والدم يتقطر من جرحه بقيت اتبعه اتلقف قطرات دمه في راحتي وأنا اركض ثم رأيت نفسي كأنني وصلت إلى حافة الهاوية ومنها تهاوى جسدي متتبعا اثر الطائر الذي لم أعد أرى جنا حيه وهما يرتعشان ويهويان برشهما حال فزع كحالي سوى وقد صرت فوق بحر من نار يثور بجمرات كالجبال أفزعتني من النوم .. ومازلت في حال فزع.
لم يكن حلما ليس كابوسا ما رأته ماما في منامها ولكنه استبصار وقراءة للآتي المفزع في هذه المدينة التي رأت ماما ولادتها على ساحل بحر صيرة لم تكن ولادة مثل كل الولادات فقد خرجت (ماما) من البحر التقطها الصيادون وكانت تصرخ (ماما .. ماما) ولذلك اطلقوا عليها بعد ذلك اسم ماما رأت ماما في هذا الحلم نهايتها أو بالأحرى شكلا مأساويا لنهاية هذه المدينة التي احتضنتها منذ أن جاءت من المجهول خرجت من تحت الماء أو أعادها (الجبرت) الذين يخطفون الاطفال لامتصاص دمهم او احتمالات أخرى تلك حكاية ماما التي ظلت تؤجل سردها لميشيل منذ أن التقته أول مرة.
كان حلم ماما يتحقق يوما بعد يوم المعارك كانت تشعل ليل عدن وصراعات الأحزاب تملأ نهارها القتل والاغتيالات في كل مكان وكان أبشع تلك الأحداث قتل (العارف) الرجل الصوفي الذي علم ميشيل اللغة العربية وعلمه كذلك طريقة العيش مع الآخر المختلف كان المشهد مهولا عند كل من هرع إلى أمام مقهى زكو ليرى (العارف) وقبوة زوجته في حال لم يرهما من قبل فبائعة الفل والكاذي الأنيقة المظهر بدت عارية هذه المرة وبلا ملابس كرفيقها الصوفي.
أصاب الفزع كل أهالي عدن لقد كان العارف ايقونة المدينة ومستودع أسرارها كذلك كانت زوجته قبوة بائعة الفل والكاذي تحمل عبير المدينة وبخورها.
ولم تنجح الشرطة في القبض على القتلة الذين عادوا بعد ساعة ة من اشلاء العارف ليحرقوا كتابه المخفي كتاب التجلي في المكان نفسه في عملية استعراض للعنف القادم الذي يهدد أهالي عدن.
يسرد ميشيل قصة هذا العنف القادم بعد أن سأل ماما هل هذا هو تأويل حلمك¿ ولكنها لم تجب على السؤال كأنها تنذر بالآتي.
صارت المواجهات المسلحة بين الثوار وقوات الاستعمار في كل مكان تفجيرات واعتقالات لم ينج أطفال المدارس من السيارات الملغومة الناس خائفون في بيوتهم فجر مجهولون منزل أحد الزعماء السياسيين وقتلوا عائلته.
خيم الحزن على أجواء المدينة. ولم يستطع مهرجان الفرح والاحتفال بخروج آخر جندي بريطاني من المدينة أن يبدد ذلك الحزن, كان القلق من الآتي المجهول في كل النفوس السمار الذين يرتادون الكازينو تفرقوا, الكازينو ذاته لم يعد منتظما في سهراته الأصدقاء الذين كانوا يتجمعون في مقهى زكو تفرقوا بعضهم أصبحوا قادة ثوريين في تلك المرحلة, آخرون اختفوا في بيوتهم لأنهم أحسوا بالخطر فالمناخ الثوري لا يسمح لأحد بالمعارضة أو الاختلاف, ساد مناخ تصفية ميراث الاستعمار الخائن سافر بعض أعضاء شلة الأصدقاء السمار إلى تعز والقاهرة وغيرهما أبلغوا الفيلسوف أنه غير مرغوب فيه وأن عليه مغادرة عدن قبله أبلغوا القالي لكنهم منعوه من المغادرة ومن بيع أملاكه, قال المعلم.
تساءل ميشيل: ماذا يعني هذا لقد تحقق الاستقلال¿ رد عليه المعلم يعني أنهم سيمضون في تأميم كل شيء بعد أن أمموا الأحزاب والجمعيات وأسكتوا الصحف سيؤممون البيوت التجارية والممتلكات ويسكتون الناس, وأضاف موضحا:
لن يكون هناك سوى حزب واحد وصحيفة واحدة وشركة واحدة بدون شركاء.
لقد ظهرت صورة أخرى لعدن, صورة مختلفة عن تلك الصورة التي تشكلت في ذهن ميشيل منذ أن وصل إليها يسأل, ميشيل نفسه: لقد صرت بعيدا عن عدن التي ظننتها أخرى, هل أنت الذي صرت بعيدا عن عدن الأخرى أم هم¿ ألم تبالغ في نظرتك إليها حين رأيتها الأخرى لكل شيء وأن كل عدني هو آخر الآخر ألست أنت من قال هذا¿ لترجع إلى ما كنت قد دونته في مفكرتك قبل سنوات طويلة أو قل إنك لست هو.