نحتاج قيصريات
جمال عبدالحميد عبدالمغني
قد يتصور البعض أن علاج الوضع الاقتصادي الخطير الذي تمر به بلادنا صعب جدا أو يقترب من الاستحالة وهذا رأي خاطئ جدا لأن علاج هذا الوضع السيئ من السهولة بمكان لو توفرت الإرادة القوية والمخلصة وتوفرت النوايا الصادقة لإنقاذ البلد.
لقد مرت بلدان أقل منا مساحة وسكانا وثروات بظروف مشابهة لما نمر بها اليوم بل أخطر وعلى سبيل المثال سنغافورة التي وصلت مطلع التسعينيات الى مرحلة الانهيار الكامل بسبب توغل الفساد الذي استشرى مثل السرطان في كل مفاصلها وسيطرة أباطرة المال وحيتان الفساد على كل مقدراتها لدرجة أن السواد الأعظم من مواطني ذلك البلد الصغير تمنوا لو تحتلهم دولة من دول الجوار الكبرى مثل الصين أو اليابان أو ماليزيا (التي كانت تصعد إلى الأعلى في تلك الحقبة) لتنتشلهم من ذلك الوضع البائس بعد أن أوشكوا على اليأس من أن يستطيع الشعب بمفرده أن يقف في وجه غول الفساد المدمر أو حتى مقارعة الفاسدين نظرا لجبروتهم وسطوتهم الرهيبة لكن النخبة المثقفة والخبراء الاقتصاديين في ذلك البلد الصغير لم ييأسوا ولم يتركوا وطنهم لتلك الوحوش المسعورة التي ما انفكت تنهش لحمه وعظمه على مدار الساعة وبحثوا عن الحلول التي كانوا يرونها ممكنة وسهلة لولا منظومة الفساد التي ترقب عن كثب أي محاولات وطنية لإصلاح الاقتصاد وتقضي عليها في مهدها المهم أن جهود الخيرين في ذلك القطر أثمرت بالتعاون مع الخارج حكومات ومنظمات رقت قلوبها لحال السنغافوريين المغلوبين على أمرهم ناهيك عن أن الموقع المتميزه لسنغافورة شكل دافعا لقوى الغرب ومنظماته للبحث عن حلول جادة للمعضلة الاقتصادية السنغافورية وكان الحل إنشاء هيئة وطنية لمكافحة الفساد يتم اختبار أعضائها بعناية فائقة ووفقا لأفضل المعايير الدولية وتمنح استقلالية تامة وصلاحيات واسعة وكانت مواد قانون إنشائها ولازالت من أقوى المواد فتكا بالفساد والفاسدين كائنا من كانوا.
بدأت ثمار التجربة السنغافورية تؤتي أكلها منذ الشهر الأول لعمل تلك الهيئة الوطنية (وحط ملايين الخطوط تحت كلمة وطنية) لمكافحة الفساد عندما ألقت القبض على أكبر تاجر متهرب أو متلاعب بالضرائب وأودعته خلف القضبان وأصرت الهيئة على محاكمته علنا فارتدع بمحاكمته جميع المتهمين واكتظت الخزينة العامة السنغافورية بالأموال تلقائيا وتساقط أباطرة المال والفساد كما تتساقط أوراق الخريف والتف الشعب السنغافوري خلف هيئته الوطنية لمكافحة الفساد التي حققت المعجزة بعد ذلك وجعلت سنغافورة واحدا من النمور الاقتصادية الآسيوية في زمن قياسي ليس هذا فحسب بل تبوأت سنغافورة صدارة العالم في الشفافية والخلو من الفساد بالمشاركة مع الدانمرك في عام 2010م فهل من مجال للتجربة السنغافورية¿