قيمة القيم

د. احمد حمود المخلافي


كلما اكتشفنا وازددنا انبهارا وإعجابا بالمكونات والأبعاد المتعددة للثقافة الغربية في عناها وتعددها.. كلما ازددنا قناعة بأن لها ارتباط وثيق بتاريخ وذاكرة مشتركة وبيئة جغرافية وثقافية معينة.. إشكالية تعالج على مستوى (منظومة القيم) المشتركة التي لا يمكن بدونها أن نفك ألغاز ثقافة ساهمت بقدر كبير في تطور الإنسانية..
يأتي هذا الاستنتاج عندما ندرك أن الثقافة لا يمكن نقلها ميكانيكيا وبشكل أعمى إلى مناطق أخرى من العالم دون اعتبار واحترام لقيم هذه المناطق..
إن الثقافات لا تستنسخ ولا يمكنها أن تتواصل فيما بينها ولا أن تغني بعضها البعض إلا إذا اعتبرنا هذه القاعدة الأساسية..
من الملاحظ أن هناك بعضا من التحفظات عن وعي أو غير وعي لدى المسئولين الغربيين وترددهم في الذهاب نحو (الآخر) ومرد ذلك هو جهل (الآخر) إن لم نقل بسبب مركب كبرياء واكتفاء ذاتي..
لقد مكنتني ثقافتي من بناء أرضية صلبة للانطلاق ومن أن أتفادى خطر الاستلاب والاستعمار الثقافي وكل ما من شأنه أن يغتال الإبداع والخلق..
إن عولمة تضم القيم بفعل الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية لم تعمل إلا على تقليص حظوظ التواصل الثقافي المرتكز على احترام متبادل (لأساليب الحياة)..
وأن تواصل الأفكار وعالم الإبداع لا يخضعان لنفس المقاييس التي تطبق على المنتجات الزراعية والصناعية..
ولا يمكن احتلال الميدان الثقافي كما تحتل ساحة المعركة..
كل ما يمكن أن نتوصل إليه من نتائج هو تكريس (الاثنو- مركزية) والهيمنة الثقافية التي تطبع موقف عدد كبير من الدول الغربية من جهة وتأجيج مقاومة أغلب الشعوب للاعتداءات ذات الصبغة الثقافية من جهة أخرى..
كان من تداعيات الهجوم الجوي على (نيويورك) في (11 سبتمبر 2001) تدشين عهد (الفوبقراطية) ونقصد بذلك الخوف الذي نؤدي عليه ثمنا غاليا حين يتعلق الأمر بالدفاع عن الحريات.. الخوف الذي تحول إلى استثمارات ضد ما يسمى (الإرهاب) حيث ينفق (أربعمائة مليار) دولار سنويا عبر العالم ضد هذا الإرهاب الذي لم يخضع لحد الآن لأي تفسير أو تحديد قانوني دولي مقبول.. هذا (الإرهاب) الذي يستثني إرهاب الدولة بما يخلفه من خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات ويدمر البنية التحتية والمعدات..
فوراء هذه الحرب المفتوحة ضد الإرهاب تظهر حرب أخرى ضد منظومة القيم..
إن احترام قيم الآخرين شرط أساسي من أجل الوصول إلى فهم نسبية مفهوم (القيم الكونية) التي تمكن من تسهيل عملية التواصل الثقافي بين الشعوب بدل عن الإلحاح على (التكيف) بتقاليد (كونية) مفبركة ومختزلة على مستوى الزمان والمكان في التاريخ البشري..
كونوا على ثقة من أننا سنقترب حتما من هذه (الكونية) التي يتبجحون بها في اليوم الذي ستتساوى فيه حياة أمريكي وحياة إسرائيلي مع حياة مواطن من العالم الثالث بصفة عامة وحياة عربي ومسلم بصفة خاصة!..
لكن الاعتداءات الوحشية للصهاينة وقوى الاستفراد في العالم تبين المسافة البعيدة التي تفصلنا عن (الكونية)..
ولكن هذا لا يعني أنني ضد (الكونية) بل أني من أشد المؤمنين بها ولكن تلك (الكونية) التي تكون نتاج تداخل وتفاعل للاختلافات.. تلك التي يرتكز (لوغاريتمها) على العدالة والإنصاف المطبق بدون تمييز عرقي أو عقائدي أو جنسي أو اجتماعي..
نعم.. أؤمن بـ(كونية) الابداع والخلق حين نطلق لها العنان..
أؤمن بـ(الكونية) الروحانية التي يتجاوز الإنسان من خلالها بكل حرية..
أؤمن بـ(كونية) البحث والدراسة وطلب العلم..
أؤمن بـ(كونية) المصير المشترك للإنسانية..
لذلك فإن كل هذه القناعات تدفعني إلى رفض(كونية) سريعة مسيرة بروح النزعة المركزية وبالإيديولوجيا السياسية والهيمنة.. وهي التي هذان المثالانالمتطرفان وبعكسها نسوق مثالا آخر..
نموذج لتصريحات الهيمنة:
“بحكم تقدمه الكبير فإن الغرب مؤهل لتغريب وغزو شعوب جديدة”..
(رئيس الحكومة الإيطالية الأسبق 2001م).
“الولايات المتحدة هي الأمة الضرورية التي لا يمكن الاستغناء عنها.. إننا في درجة عالية وبالتالي فإننا أبعد مما تراه الأمم الأخرى”..
(مادلين أولبرايت 1991م).

“إذا لم نستطع أن نعبر عن سياسة مشتركة مبنية على القيم المشتركة التي نتقاسمها فإننا سنصبح مهددين ليس فقط بالفوضى ولكن أيضا في استقرارنا الاقتصادي والسياسي.. إذا لم تكن لنا قدرة على مواجهة التشدد والتطرف ومواجهة الأزمات والحروب والمظالم”..
(توني بلير رئيس الحكومة البريطانية الأسبق 2006م).

وهنا يأتي دور الذاكرة الفردية والجمعية..
الذاكرة هي إحدى القيم التي تعطي للزمن انسجامه واكتماله وتتفاعل بين ماض يتجدد وحاضر عابر ومستقبل

قد يعجبك ايضا