تعايش الحضارات

• يتردد توصيف «ما بعد الحداثة» على المرحلة الراهنة من تطور المسار الحضاري الإنساني. والسمة الغالبة لهذه المرحلة هي أنها تتميز بسيادة «العولمة الليبرالية» القائمة على حرية الأسواق والمنافسة فيها. وهذه الليبرالية المفرطة تلقى النقد والهجوم من قبل الكثير من الكتاب والباحثين بمن فيهم العديد من المعروفين بولائهم للمنحى الرأسمالي. ومن بين هؤلاء الباحث والمستشار الاقتصادي لكبار الشركات الفرنسية والعالمية: هيرفي جوفان الذي يوجه نقدا شديدا إلى العولمة الليبرالية السائدة التي يراها تدفع الإنسانية في الطريق المسدود. ويحمل الكتاب عنوان: « الانفصال الكبير».
«الانفصال الكبير» الذي يقصده المؤلف يمكن قراءته بأشكال مختلفة. فأنصار العولمة والمتسلقون حول سلطتها يجدونه في الانفصال بين قادة النظام الليبرالي العالمي وبين المنفذين لما يطلبه. وهؤلاء ينقسمون بدورهم إلى عدة فئات تبعا لموقعهم بالنسبة لأصحاب القرار في مراكز القيادة. وهناك رؤية أخرى لـ«الانفصال الكبير» بين حقوق الأفراد وحقوق الشعوب. وهذا ما يعبر عنه المؤلف: «ينبغي إجراء تغيير جذري في مقولة حقوق الإنسان السائدة بحيث تعطى الأولوية لحقوق الشعوب. ثم بعد ذلك لحقوق الأفراد».
من خلال نقد المؤلف للحداثة بنسختها الليبرالية الراهنة يوجه نقده الشديد إلى الولايات المتحدة الأميركية باعتبارها هي التي تتزعم العولمة حاليا. ويشير اعتمادا على العديد من الملاحظات ومن تجارب الأسفار الكثيرة التي عاشها إلى أن شروط الحياة عرفت منذ نهاية عقد التسعينات في القرن الماضي «التغير الأهم منذ 10000 سنة». وهذا التغير يتعلق بما يسميه المؤلف بـ«علم البيئة الإنسانية».
ينطلق المؤلف من ملاحظة مفادها أن هناك اتفاقا شبه عام في الوقت الحالي على وجود التنوع البيولوجي بين البشر. ثم يسأل مباشرة: وماذا عن التنوع الإنساني¿.. وعن التنوع بين الثقافات¿ ما يؤكده هيرفي جوفان في تحليلات الكتاب أنه من الضروري والملح «إنقاذ الكنز الذي تمثله الطرق المختلفة لتعبير الإنسان عن إنسانيته. هذه الطرق تطمس اليوم تحت وطأة العولمة والتطور الاقتصادي الأعمى ومحاولة إنهاء كل أشكال التميز على صعيد القوانين والتشريعات».
ومن الملاحظات الأساسية التي يؤكدها المؤلف أن الغرب عموما والأميركيين بشكل خاص يحاولون أن يفرضوا على العالم كله نمطا واحدا تقريبا في العيش وفي الاستهلاك وأن يبيعوا بالوقت نفسه منتجاتهم من «الكوكا كولا» إلى أدوات المنزل والهواتف وغيرها في أقصى الأماكن من العالم.
ويرى المؤلف أن مجتمعات الأمس غير البعيد «طورت نماذج ـ موديلات ـ للعيش تتمتع بقدر كبير من التوازن. وما فعلته أجيال اليوم: تهديم تلك النماذج». وهو لا يتردد في البوح الصريح بنوع من الحنين إلى تلك المجتمعات المتوازنة. مع ملاحظة أن هناك عودة واضحة لنزعات الانتماءات الوطنية التقليدية.
لكن وفي الوقت عينه لا يبدي هيرفي جوفان أية قناعة بإمكانية العودة إلى الانكفاء على ما تطلق عليه غالبا صفة: «الهويات الإقليمية». ويعتبر أن هذه الهويات صغيرة إلى درجة أنها «لن تستطيع مواجهة المد العارم للعولمة الليبرالية».
ويشرح المؤلف أن الأمم الكبرى لم تتردد في سحق الخصائص الإقليمية للشعوب الصغيرة وفي مقدمتها اللغة. ثم قامت تلك الأمم المتحضرة وباسم حضارتها بـ«جريمة» اختراع المستعمرات التابعة لها والتي شكلت بعض مكونات إمبراطورياتها. وما يلاحظه المؤلف هو أن المجتمعات الحديثة المعنية تعاني من حالة «فوضى كبيرة» منذ عدة عقود.
وفي المحصلة يرى هيرفي جوفان أن الأمم الكبرى ارتكبت عمليات تهجين وتغييب للخصوصيات الثقافية للشعوب التي استعمرتها. ومثل هذه السلوكية تمارسها أميركا اليوم بالاعتماد على «قوتها الهادئة» عبر سعيها إلى المساهمة في انحلال الثقافات الوطنية الأوروبية كما يشرح المؤلف.
الرسالة النهائية التي يخلص إليها مؤلف الكتاب أنه ينبغي على العالم تبني نهج سياسي آخر غير ذلك التي تريد العولمة الليبرالية فرضه على الجميع. النهج الجديد المطلوب في منظور المستقبل يرمي إلى خلق الشروط التي تؤمن المحافظة على بقاء الثقافات والحضارات بكل ما تملكه من تفرد وأصالة. وهذا ما يطلق عليه المؤلف توصيف «الحس السليم في السياسة».
المؤلف في سطور
هيرفي جوفان. باحث واقتصادي يعمل مديرا لمؤسسة متخصصة في حقل الاستشارات التي يقدمها للشركات الكبرى في منظور الاستثمار من مؤلفاته: وصول الجسد إنتاج العالم.
الكتاب: الكتاب: الانفصال الكبير من أجل علم بيئة للحضارات
تأليف: تأليف: هيرفي جوفان
الناشر: الناشر: غاليمار- باريس- 2013
الصفحات: الصفحات: 400 صفحة
القطع: القطع: الصغير