الكتابة وتاريخ الرقابة في الحضارة الغربية

شهدت الحضارة الغربية مراحل كانت فيها الرقابة على الكتب وحرية الراي والمطبوعات شديدة ولها نفوذها القوي. ذلك مايتناوله كتاب”الكتب الممنوعة” من تأليف الكاتب الإيطالي ماريو إنفليزي ونقله للعربية المترجمة وفاء البيه والصادر مؤخرا عن مشروع “كلمة” للترجمة التابع لهيئة أبوظبي للثقافة والتراث.
يهدف الكتاب إلى تقديم ملخص إجمالي لتاريخ الرقابة على المطبوعات في الحضارة الغربية متتبعا المسار الشائك لحرية التعبير عن الرأي وأنواع الرقابة المسلطة على الكتب والكتاب بما فيها من قيود على النشر بكافة أنواعه. وإذ يتناول المؤلف بالدراسة والمعالجة نشأة الرقابة وإعداد قوائم الكتب المحظورة ودور محاكم التفتيش حتى بزوغ شمس عصر التنوير فهو يبرز جليا دور اللاهوت في ذلك فضلا عما أنتجته المعرفة من أدوات ومؤسسات تولت شأن الرقابة أيضا.
ينقسم الكتاب إلى أربعة فصول يقدم الفصل الأول تاريخ الرقابة الذي يرتبط بظهور قوة الكتاب المطبوع جلية واضحة وقدرته على الانتشار بيسر فائق بين أفراد الشعوب المختلفة والذين كانوا بمنأى في الماضي عن الثقافة المكتوبة. غيرت الطباعة وقيام نظام تجاري سرعان ما امتد إلى أطراف أوروبا كلها من ظروف التلاقح الفكري فزادت كميات وعمليات الإصدار المطبعي وتحولت بعض مدن أوروبا إلى مراكز للنشر يقصدها الناشرون والمؤلفون والقراء ولقد أثار ذلك قلق الكنيسة فسعت إلى إقرار مبادئ عامة لرقابة استباقية يخضع لها الإنتاج الأوروبي المطبوع كله.
ويتناول الفصل الثاني قوائم الكتب الممنوعة التي أعدها أساتذة اللاهوت ورعتها محاكم التفتيش والتي شملت مطبوعات ذات انتشار واسع ولا تتعارض في شيء مع القضايا اللاهوتية الشائكة. وامتد الجدل إلى شرعية قراءة التوراة بين العامة كما دخل العلم والأدب حيز عمل المراقبين وتعرضت بعض أكثر المؤلفات الأدبية شهرة إلى التحريف على يد المنقحين المشهورين. وتشير أدوات الرقابة الرسمية كالقوائم والمراسيم إلى مدى الاضطراب الذي شهده المشهد الثقافي والاجتماعي في النصف الثاني من القرن السادس عشر.
ويعرض الفصل الثالث لحدود الرقابة وإصرار كنيسة روما على تطبيق خطة شديدة الإحكام للتأكد من تطبيق القائمة والحفاظ على الخصائص المركزية مما استدعى إعداد مشروع لجلب كل قوائم الكتب المحظورة التي جمعها المحققون إلى روما وكل قوائم كتب مكتبات الطوائف الدينية المختلفة مما شكل مشهدا عاما ثريا لقراءات رجال الدين والدومينيكان واليسوعيين. ويشير المؤلف إلى عدم قدرة المحكمة المقدسة على إقامة رقابة فعلية على تداول الكتب المحظورة وندرة محاكمة الأشخاص الذين وجدت في حيازتهم تلك المؤلفات.
ويتناول الفصل الأخير القرن السادس عشر بالتركيز حيث اشتدت الرقابة والنشاط الرقابي اللذان تتم ممارستهما عبر قنوات تشريعية صارمة. إذ بلغ التعاون بين محكمة التفتيش وجامعتي سالامانكا وألكالا اللتين كانتا تتوليان مهمة تحديد الهرطقة مداه ثم اتجه عمل محاكم التفتيش بعد ذلك إلى التعويل على ذاتها. وفي الأعوام الأخيرة من القرن السادس عشر كانت الممارسات الرقابية قد تجاوزت كل حد حيث خضعت للمراقبة مؤلفات باللهجة الشعبية وأعمال دينية شعبية وكتابات أكاديمية وعلمية.
لكن في أعقاب ذلك – ووفقا للمؤلف – حصل سعي الدولة لفرض سلطتها على المطبوعات ومع ذلك ما انهارت الرقابة كليا وإنما تراخت شدتها مما كان يعني -بشكل جوهري وفي كل الدول تقريبا- انفراجا واضحا في الحيز الرقابي رافقه انتشار للسوق السوداء للكتاب فتراجعت القوة القمعية للمحكمة المقدسة وانضمت الكنيسة خلال ولاية البابا بيندكتوس الرابع عشر إلى دعاوى الإصلاح الاجتماعي الخاصة بعصر التنوير. غير أن ذلك الانفراج النسبي في النصف الثاني من القرن الثامن عشر المتسم بطابع رسمي غالبا ما أثار في نفوس القراء الملل أو الرفض حيث انتشرت حشود المتعالمين والكتب السيئة المطبوعة تحت الموافقة والامتياز الملكي مما حمل الجمهور إلى توجيه النظر صوب نواح أخرى صوب ما يبدو من بيانات النشر قادرا على استدعاء غير المألوف والمخالف للقواعد.
ويؤكد الكتاب أنه ورغم التطورات الحاصلة بشأن تراجع الرقابة في أوروبا لم يتم إقرار حرية النشر رسميا إلا مع صدور “إعلان حقوق الإنسان والمواطن” في باريس في 26 أغسطس عام 1789م الذي تضمن أن “تبادل الفكر الحر والآراء أحد حقوق الإنسان الأكثر تقديرا ويحق لكل مواطن أن يتحدث ويكتب وينشر بحرية كاملة في ما عدا ما يعد تجاوزا وفقا للحالات التي نصت عليها القوانين”.
الكتاب من تأليف ماريو إنفليزي وهو أستاذ جامعي وباحث إيطالي يدرس في جامعتي ميلانو والبندقية ويتولى في الوقت الحالي منصب كرسي تاريخ الطباعة والنشر. اهتم طويلا بقضاي