البردوني .. كاتب الملحمة السبئية والتغريبة اليمانية
■ عبدالعزيز الزراعي

■ عبدالعزيز الزراعي –
قلة هم أولئك الشعراء الذين يفطنون إلى كتابة تغريبات أوطانهم ويستطيعون الإمساك بالخيط الجامع بين فصول تاريخ أجيالهم الضارب في القدم أولئك الشعراء الذين يمتلكون حساسية مفرطة ووعيا عميقا بمكوناتهم الحضارية العميقة بالثابت والمتحول فيها القادرون على خلق تواصل وتثاقف بين ماضيهم وحاضرهم وخلق وعي جمعي مشترك بين الأسلاف والأخلاف لتكوين الهوية القومية لمجتمعهم..
قلة هم أولئك الشعراء.. ولكن لا تخلو أمة عريقة منهم لأن الأمم العريقة وإن شهدت ترديا في بعض حقبها يظل وعيها الجمعي متخثرا في أساطيرها وحكاياتها ولغتها وموروثها الثقافي والشعبي إلى أن تستأنف إنجاب كاتب عظيم يعيد خلقها وحوارها واستنطاقها مخرجا من بين رمادها ذلك الجمر المتقد.
هكذا أنجبت اليمن في عصور ظلامها البردوني شاعرا عظيما يروي ملحمتها ويجمع وعيها المتناثر في صحائف التاريخ ومتون الفقه والسير وأساطير العامة والحكايات الشعبية ويخلق وعيا جمعيا لأبناء سبأ وحمير ويؤرخ شعريا لليمن ومأساته وحلم أبنائه وطموحاتهم وحوافر خيولهم وحفرياتهم عبر الزمن مستنطقا أحجاره وأشجاره وأماكنه عن تاريخ لم تبح به السير:
ماذا يسöر لسفح الربوة الحجر
كأن كل حصاة هاهنا خبر
هاتيك تعطس تاريخا وفنقلة
وتلك تلعن من جاؤوا ومن عبروا
هل تجرحين شذا التاريخ¿ أي شذا
هذا الصفا حمير هذا الصفا مضر
في جبهتي من علي الفضل عشر حصى
ومن تجاعيد أروى في يدي حفر
أنات بكر غصون فوق جمجمتي
حنين عبد يغوث في دمي سقر
وما الذي فيك من(باذان)¿ أين غفا¿
لعله ذلك الينبوت والصبر
ها أنت تنصب تاريخا له عبق
ثان يعاكس ما خطوا وما نشروا
إنه البردوني شاعر اليمن العظيم وأيقونتها الخالدة.. إنه عراف اليمن والمخرج السينمائي الأول لفلم اليمن الحضاري الطويل والتراجيدي وكاتب فصول مأساته الكبرى ذلك الفلم الذي استخدم فيه الردوني كل تقنيات الدراما في صراع وجودي يتداخل فيه الواقعي والسريالي والتاريخي والأسطوري والرومنسية الحالمة وذاك دأب كل عظيم في نقل وتجسيد حضارة أمته وأزمتها الوجودية فكما أخرج هوميروس ملحمة اليونان في إلياذته وألهم جميع كتاب السينما بعده وكما أخرج نجيب محفوظ ملحمة مصر في ثلاثياته وأخرج درويش تغربة الفلسطينيين وملحمة المقاومة أخرج البردوني ملحمة اليمن الحضارية وتغريبته في تاريخه الطويل وحزنه الكثيف.. تغريبته بكل تجلياتها التاريخية والمعاصرة فرحا وانكسارا وثورة واغترابا وتشردا وحنينا:
أنا ابن من ولدوا سرا وكي يثقوا
ماتوا وما شهقوا كالناس أو سعلوا
كانت تصارع نفسي نفسها وأنا
عنها بتاريخ هذا الصمت منشغل
وكنت أسرد عن بلقيس أغنية
مداد من كتبوها العطر والعسل
هذي الدراما من الأحجار أحرفها
ومن نقيق الغبار الدور والبطل
إن المتأمل في شعر البردوني يجد محاولة جادة وواعية لا ستنطاق كل رموز اليمن التاريخية وكل ملامحه الإنسانية والوجودية المتمثلة في أعلامه وأماكنه وثقافته المحكية مستنهضا وعي أبنائه بذلك التاريخ:
أمث بعرق إلى ذي نواس
وعرق إلى جدتي من هذيل
عصبت جبيني بنار البروق
وفي كل واد تدفقت سيل
صهيل دمي وصليل فمي
لأن جدودي سيوف وخيل
لقد وعى البردوني تاريخ اليمن وتتبع كل حقبه وأدواره التي قام بها وخرج من كل ذلك بصورة وتاريخ لم تقله لنا السير ولا مرويات الحكام الغزاة والمستغلين لخيرات اليمنييين وطيبتهم خرج بصورة فحواها ذلك الحضور التاريخي الإيجابي لليماني العصامي النبيل الذي قوبل بالنكران والتغريب والحرمان.. ذلك اليماني الذي تسلق الآخرون على أكتافه مستغلين طيبته وكرمه وشجاعته مصورا رحلة هذا الشعب السبئي وحضوره الإيجابي في مقابل تهميشه عبر التاريخ بدءا بانهيار سده ومسلسل الهجرات والمنافي الذي كان قدره الدائم.. مستعرضا محنة اليمانيين بحكام حاولوا مسخ هويته بالجهل والتدين الأعمى والسلالية المقيته.. واقفا عند دور اليمانيين الريادي في الإسلام وتهميش قريش لهم وتآمر السقيفة عليهم.. معرجا على تهميش قادة الفتوحات الإسلامية اليمانيين:
يا رؤى الليل يا عيون الظهيرة
هل رأيتن موطني والعشيرة
هل رأيتن يحصبا أو عسيرا
كان عندي هناك أهل وجيرة
يارؤى.. يا نجوم.. أين بلادي¿
لي بلاد كانت بشبه الجزيرة
أخبروا أنها تجلت عروسا
وامتطت هدهدا وطارت أميرة
وارتدى الفأر ناهديها وأشتت
هجرة المنحنى خطاها الأخيرة
ورووا أشأمت على غير قصد
ثم أمست على دمشق أميرة
ف