الحوار ومعركة المفهوم
أ.د عبدالله أحمد الذيفاني
أ.د عبدالله أحمد الذيفاني –
تسيطر على الإعلام العربي بعامة والإعلام اليمني بخاصة برامج أعدت لبيئات مجتمعية مختلفة ويغلب عليها جانب الترفيه والتثقيف بقضايا لا تلامس قضايا المجتمع ولا تقدم معالجات حقيقية وناجعة لها.
فالبرامج الموجهة للأطفال برامج مترجمة في أحسن الأحول تتحدث بلسان عربي وتقدم قيما ذات عمق وإرث غير عربي كما إن البرامج الموجهة للشرائح الاجتماعية الأخرى كالمرأة والشباب والراشدين تقوم على نفس القاعدة وتستقدم مسلسلات وبرامج غير عربية أو عربية مستغربة وتناقش قضايا المرأة والشباب من وحي مواثيق واتفاقيات دولية وتطرح المفاهيم التي تقوم عليها المجتمعات التي تختلف مع الأمة العربية اختلافا جوهريا مع المرجعيات العقدية والقيمية والمجتمعية المستمدة من الأعراف والتقاليد والعادات.
هذه الخلطات البرامجية التي لا تؤسس على أهداف تربوية موجهة للجماهير لتشكلهم بنسيج اجتماعي قيمي ملتحم بالجسد الوطني والقومي ومتوافقا معه ومعبرا عنه تؤدي بالمحصلة إلى حدوث اغتراب في التفكير وغربة في الفكر وغربة تجميع الحلول والمعالجات من دهاليز الغير وأرشيفه واستعارة شعاراته وتوجهاته وبما ينتج فجوات كبيرة بين أصحاب هذا الفكر المغترب ومجتمعاتهم وتثمر تشكل وعيا مضطربا في جانب وأسيرا وتابعا للآخر في جانب آخر.
انعكست هذه الهيمنة الإعلامية على كل قضايا المجتمع العربي بما فيه اليمن وأحدثت بهذا الانعكاس وعيا مفترقا في تقديراته لكل مفاصل الحياة وتداخلاتها والمخارج المقدرة لكل قضية من القضايا.
ولعل من أبرز هذه الانعكاسات أن النظرة اليوم للتعامل مع الأجهزة الاستخبارية العالمية بمختلف مسمياتها واللجوء إلى السفارات واللجوء إلى السفراء والحصول على أموال من هذه المصادر لا يعد بأي حال من الأحوال جريمة أو على الأقل تضر بالبلد وسيادته وإرادته وقراره المستقل بتمكين الغرباء الذين لا يمكن أن يكونوا حريصين على بلداننا قدر حرصهم على الوصول إلى مفاصل تكويننا الاجتماعي والسياسي والوقوف على نقاط القوة والضعف والتي يعملون على تدمير نقاط القوة وإحداث المزيد من الضعف في نقاط الضعف. وبحيث يتحول هؤلاء الغرباء إلى مرجعيات وأصحاب الحلول التي في ظاهرها الرحمة وفي باطنها ومن قبلها العذاب فهم في الأول والأخير ليسوا جمعيات خيرية ترتجي رضا الله والجنة قدر ما تسعى بكل حرص إلى حماية مصالحها وتعزيز وجودها واستثمارها بما يعود بالنفع لأوطانهم التي يدينون لها بالولاء والانتماء بكل المعاني والدلالات.
إن تغيير النظرة للتعامل مع الآخر والانفتاح عليه بأبواب ونوافذ مشرعة لا تحافظ على الحد الأدنى من درجات الحفاظ على الهوية والذات الوطنية والوصول معه إلى أعلى درجات التنكر لقيم المواطنة والولاء والانتماء والذهاب بعيدا بكل جرأة إلى نقد الواقع بعيون الآخر وطرح الحلول والمعالجات بفكر الآخر وعقليته وإعلان شعارات المستقبل بنظرته وتقديراته يعد مؤشرا خطيرا لإنحدار قيمي في الفكر السياسي والممارسة الحزبية والعمل في منظمات المجتمع المدني.
لقد كشف مؤتمر الحوار الوطني الشامل أننا لا نمتلك أي إرث يمكن استدعاء قيمه وطرحها على طاولة الحوار سواء في شكل الدولة والحقوق والحريات والحكم الرشيد والعدالة والتنمية وهيئات الدولة ومؤسساتها وشكل الآخر المرجعية والسند في الفكر والتجربة إلى درجة أننا لم نعد قادرين على طرح المخارج من مخزوننا الحضاري والتاريخي وعمقنا القيمي وتجاربنا في الحكم وبناء الدولة في مراحل مختلفة من التاريخ فالحكم الرشيد نتعامل معه على أساس مفهوم الآخر للرشد وشكل الدولة على النحو الذي يرضي الآخر حتى في المصطلح واللفظ المستخدم والعدالة وفق تجارب الآخر وبما ينسجم واتجاهات المهيمن ويجاري قناعاته والحقوق والحريات على أرضية الشرعة الدولية وبعيدا عن الخصوصية والمرجعيات العقدية والقيمية التي يقوم عليها المجتمع ويستمد منها هويته ورسالته.
إنني هنا لا أدعو إلى الافتراق مع الآخر والخصومة معه قدر دعوتي إلى إحداث توازن تام وكامل بين تمسكنا بالخصوصية وبما يحميها ويحقق اتصالا مع المعاصرة ومتغيراتها والانتفاع بها بما يعزز الخصوصية من جهة وينقلها إلى مواكبة واعية وناضجة للمتغيرات من جهة أخرى.
وفي هذا السياق نسأل: ما الذي يمكن أن تقدمه الفيدرالية ولا يقدمه الحكم المحلي كامل الصلاحيات وفق تقسيم متوازن للوحدات الإدارية على قاعدة الأقاليم (المخاليف) التي تمثل تجربة حاضرة في تاريخنا اليمني العربي الإسلامي.
ولن أذهب بعيدا في اس