سهير السمان

سهير السمان –
قليلة هي الأحداق التي إن نظرت إليها أدرك بأنها تكشف لي عالما جديدا وكعادتي أبحث عنها أنى توجهت أيامي عن شيء مختلف أنقب أصعد كل يوم الحافلة وهم أولئك الناس أنفسهم يصعدون أفضل أن أجلس في المقعد الأخير حتى أستطيع أن أرى جميع الركاب ولكني لا أرى سوى ظهورهم وإن كنت أرى وجوههم أول ما يصعدون ولا تسنح لي الفرصة في التقاط نوعية أحداقهم إلا نادرا .
تصعد امرأة لا أرى منها شيء فقد أسدلت ستارا على وجهها وكأنها تصد العالم من حولها ! تسير بنا الحافلة وأتابع من نافذتها هذه الشوارع التي لم يطرأ عليها أي تغيير منذ أن بدأت في أسر قدميي ضيقة لا تكاد تخلو من الشحاذين الوجوه التي أراها كل يوم بائعي الجرائد أطفال ونساء يحاولون الحياة كل يوم بما يجمعونه من ريالات عند إشارات المرور تقف الحافلة لتصعد فتاة يدل مظهرها أنها طالبة تتبعت عيناها البارزتين من ( البرقع) تشير لأحدهم بأن يسمح لها بالجلوس في مكانه لابأس بعينيها ولو أن القلق أول ما أفصحا عنه تسير الحافلة والصور تتكرر ولا أرى من الركاب إلا ظهورهم عينا السائق تتضح من خلال المرآة يراقب الصاعدين والنازلين وتعود لتتركز على الفتاة هل هو يبحث مثلي عن أحداق بعينها لا معنى لنظراته سوى التلذذ بالأنثى الموجودة أنا بين أناس لا يعرفون الإناث وبين المارة لا يمر وجه مؤثر أو عينان نساء لا يرى منهن إلا أحداقهن غير أنها بلا معنى تقترب فتاة من النافذة تعرض مناديل للبيع ومن جفاف يملأ عينيها ! يتوسل الوجوه أخذت منها واحد من تلك المناديل لأتأمل أكثر في عينيها فلا شيء سوى الجفاف يصعدن فتيات أخريات يبدو أنهن طالبات أيضا لا ينظرن للركاب إلا سريعا إحداهن جريئة في نظراتها اخترقت عيني ولكن دون أن تترك فيهن ما أفتقد , لتسحبهما بغنج مقزز ويجلسن في الأمام دون أن أمتلك حق التأمل مرة أخرى فيهن ليس من اللائق أن أبحر في وجه مؤنث لماذا نخرج وفينا خوف وترقب من الآخر¿
تسير بنا الحافلة وقد امتلأت بالركاب والكل يعطيني ظهره السماء تبدو كنفسي المكفهرة و الشمس التي أبدأ بها يومي ما تلبث تحتجب خلف الغيوم في منتصف النهار تراودني من خلال الأفق وكأنها تهمس لي : سأظل مشرقة وإن غطتني الغيوم وعند حلول الظلمة سأكون في مكان آخر لكني أحس بالأسى لقد انقضى نهار عملي كسابقه لا جديد أحققه سأعود إلى المنزل ونفس ما أعمله ما الذي سيحدث لو أني أجلت موعد عودتي وتناول الغداء والراحة بعده وغيرها من الأمور الاعتيادية المألوفة ما الشيء الذي يجب أن أكسره حتى أجد ما أبحث عنه .
جذبني منظر المجنون المتكئ على شجرة وسط الطريق وهو يمضغ أوراق القات وشعره الذي ازدادت كثافته من تراكم الأوساخ عليه وإهماله دون ترجيله شكله يوحي بتسريحة (الفير) . الذي يعطي للمجنون شكلا خاصا نظراته هادئة وهائمة كنظرات الشعراء لماذا يجن الناس وما معنى الجنون ¿ هل هو خروج عن الواقع المألوف الذي نحاول كسره ¿ أم أنه غياب للعقل ¿ تحلق بعده الروح عاليا في عالم آخر¿ ماذا يرى المجانين ¿ أراهم هادئون هانئون لا يخرجون عن أطوارهم إلا إذا تعرضوا للعنف العقلاء هم أكثر جنونا وكذبا ونفاقا على الأقل هؤلاء الذين أطلقوا عليهم المجانين لا يزيفون أحاسيسهم ولا يكذبون هم أكثر الناس صدقا أراهم علموا الحقيقة فتركوا الحياة لغيرهم ما زالت الحافلة منتظرة زمن تبديل لون الانطلاق وأنا أسبح مع زمن في عالم الجنون وقد ترك عددا من الركاب مقاعدهم وغادروا دون أن ألحظ أحدا منهم لقد سلبتني نظرات المجنون وأحداقه الهائمة القانعة بما تراه لن أذهب للمنزل سأقضي بعضا من زمني مع الجنون نزلت من الحافلة دون أن أدقق في الوجوه المتبقية أمامي اشتريت (سندوتشا) وماء وقليلا من أوراق القات وافترشت الأرض بالقرب من المجنون كان المارة ينظرون إلي باستغراب هل أنا المجنون والمجنون أصبح عاقلا بقربي فلا يستهجن فليكن وأجرب الجنون .

قد يعجبك ايضا